صفحات الرأي

الولايات المتحدة و”الإخوان المسلمون”: العلاقة المرتبكة


نايثان ج. براون

بالنسبة إلى الأميركيين، لا يقتصر الأمر على النقاشات بين نخب السياسة الخارجية حول السلوك الصحيح الواجب اتّباعه حيال الإخوان المسلمين بل هناك أيضاً صعود رهاب الإخوان في بعض الأوساط الفكرية وكذلك في بعض الدوائر الانتخابية. باختصار، أصبح موقف الولايات المتحدة من الإخوان المسلمين مسألة داخلية بعض الشيء…

بدت واشنطن، في مجموعة مشوِّشة من التصريحات في أواخر حزيران الماضي، وكأنها تأخذ مبادرة جريئة وتنكرها في الوقت نفسه. فقد أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون شخصياً أنه “من مصلحة الولايات المتحدة أن تتحدّث مع كل الأفرقاء المسالمين والذين يلتزمون اللاعنف… بناءً عليه، نرحّب بالحوار مع أعضاء الإخوان المسلمين الذين يرغبون في التكلّم معنا”.

لكن في وقت لاحق في اليوم نفسه، نفى متحدّث باسم وزارة الخارجية الأميركية أن يكون هناك أي تغيير في التعاطي، لافتاً إلى أنه للولايات المتحدة علاقة متقطّعة بالإخوان المسلمين منذ عام 2006 تقريباً. وأضاف “يُسمَح للمسؤولين في السفارة وفي واشنطن بالتكلّم مع أعضاء الإخوان المسلمين، ونرحّب بهذا التواصل”.

ما هي المقاربة الأميركية الحقيقية حيال الإخوان؟ ولماذا تلاقي الولايات المتحدة كل هذه الصعوبة في تفسير وجهة نظرها؟ هل ينبغي على الولايات المتحدة أن تختار هذه المرّة الخوض في الصراعات على الروح السياسية لمصر عبر “الانخراط مع” الإخوان المسلمين؟

إقامة علاقة ديبلوماسية طبيعية مع الإخوان أمر منطقي، بيد أن الترويج للسياسة بهذه الطريقة خطأ، فهو يولّد توقّعات ومخاوف مبالغاً فيها. والأهم من ذلك، يمكن أن يحوِّل الأنظار عن المسألة الحقيقية، وهي ما إذا كان بإمكان القوى السياسية المصرية أن تتحاور في ما بينها، لا مع الولايات المتحدة.

بهذا المعنى، ربما كان الإعلان الصادر لاحقاً على لسان المتحدّث باسم وزارة الخارجية أقرب إلى الصحّة، على الرغم من أنه ينطوي على القليل من التضليل. لم تكن للولايات المتحدة قط روابط واسعة مع الإخوان المسلمين لكنها لم تعامل الجماعة معاملة المنبوذين؛ وإذا كانت قد أبدت حذراً من الاتّصال المباشر بهم، فالسبب ليس الخوف من الإرهاب (لم يتورّط الإخوان المسلمون المصريون في أعمال عنف منذ عقود) بقدر ما هو الحساسية الشديدة التي كان يُظهرها حكّام مصر المخلوعون حيال الموضوع.

بعد رحيل الرئيس حسني مبارك ونظامه، يستطيع الديبلوماسيون الأميركيون أن يقوموا بعملهم في مصر تماماً كما فعلوا في بلدان أخرى في المنطقة طوال سنوات. غالب الظن أن الخطوة التي اتّخذتها إدارة أوباما لن تقود إلى حوار مهم بين الولايات المتحدة والتيّار الإسلامي إنما إلى استئناف بطيء ومحدود للتواصل الديبلوماسي الطبيعي مع فاعل اجتماعي وسياسي بارز.

لا أقصد القول بأن دور الإسلاميين في مستقبل مصر السياسي هو مسألة غير مهمّة. في الواقع، فيما كنت أتنقّل وسط المشاركين في تظاهرة إسلامية نُظِّمَت منذ وقت قصير في ميدان التحرير، تركت أمور عدّة انطباعاً قوياً لديّ. فبوجود عدد ضخم من السلفيين الذين أطلقوا لحاهم، لا بد من أن التظاهرة شكّلت التركّز الأكبر لشَعر الوجه في موقع جغرافي واحد في تاريخ العالم. وشكّلت أيضاً خطوة إضافية في الاستقطاب الذي تشهده الحياة السياسية المصرية بين القوى السياسية الإسلامية وغير الإسلامية. في بيئة ما بعد الثورة، على الأرجح أن لا هذه القوى ولا تلك ستفوز بالسيطرة الكاملة. إلا أنه يجب أن يتوصّل الجانبان في نهاية المطاف إلى تفاهم في ما بينهما، وأن يستنبطا طرقاً للمنافسة السياسية السلمية. لكن فيما تعيد البلاد بناء نظامها السياسي – فتتقدّم في اتّجاه الانتخابات وكتابة دستور جديد – لا يُظهر الخصوم المستقطَبون سوى مؤشّرات محدودة للغاية عن السير نحو أرضية مشتركة.

كيف نفسِّر الارتباك من جانب المسؤولين الأميركيين (الذي يلاقيه قادة الإخوان المسلمين بعدم ارتياح مماثل) وطبيعة الاتّصالات الخجولة والمتقطِّعة؟ في الواقع، هناك أسباب جمّة للحساسيّة لدى الجانبَين. فبالنسبة إلى الأميركيين، لا يقتصر الأمر على النقاشات بين نخب السياسة الخارجية حول السلوك الصحيح الواجب اتّباعه حيال الإخوان المسلمين والمسائل التي تطرحها الروابط التي يقيمها الإخوان مع حركة “حماس” والمخاوف من الإسلاميين في شكل عام، بل هناك أيضاً صعود رهاب الإخوان في بعض الأوساط الفكرية وكذلك في بعض الدوائر الانتخابية. باختصار، أصبح موقف الولايات المتحدة من الإخوان المسلمين مسألة داخلية بعض الشيء إلى جانب كونه شأناً مرتبطاً بالسياسة الخارجية.

للإخوان المسلمين مخاوفهم أيضاً. فللجماعة ككلّ مواقف مختلفة بحدّة عن مواقف الولايات المتحدة، مما يجعل بعض قادتها حذرين من أي تواصل معها. لكن هناك أيضاً سبب آخر أقوى للتحفّظات: على قادة الإخوان أن يتعاملوا باستمرار مع الشكوك في مصر بأن الولايات المتحدة تفضّلهم بطريقة ما (أو بأنهم توصّلوا إلى صفقة معها بطريقة من الطرق). حتى الاتّصالات الواهية والمحدودة في مرحلة 2005-2010 جعلت خصوم الإخوان داخل مصر (وحتى داخل النظام نفسه) يوجّهون إليهم أصابع الاتّهام بأنهم يتحرّكون بالاتّفاق مع الأميركيين (كي لا يسارع أحد إلى اعتباره مثلاً آخر عن الميل العربي إلى نظريات المؤامرة، يجب أن نتذكّر أن شبهات مماثلة عن تحالفات سرّية للإخوان المسلمين مع إيران والقاعدة وألمانيا النازية ونظام مبارك والحكّام العسكريين الحاليين ظهرت في التحليل السياسي في الولايات المتحدة على مرّ السنين).

ولذلك، على الأرجح أن أيّ اتّصال بين الولايات المتحدة والإخوان المسلمين سيكون محدوداً وحذراً ومتكلّفاً. ليس هذا سبباً لتفاديه، لكنه يستدعي أن تكون توقّعاتنا متواضعة جداً حول ما يستطيع أيّ حوار تحقيقه. لا يُنتظَر من مثل هذا الاتّصال بلوغ صفقة كبرى، بل أن يُطلع كل فريق الفريق الآخر على مواقفه، أو أن يُثقّف كل جانب نفسه عن موقف الجانب الآخر. ستكون المساهمة في الديبلوماسية الأميركية متواضعة إنما حقيقية. وسوف تكون هناك مساهمة متواضعة أيضاً إنما حقيقية في السياسة المصرية، فهذا الاتّصال سيُظهر أن الولايات المتحدة تعامل “الإخوان المسلمين” كفاعل سياسي عادي، وأنه لم يعد ممكناً استخدام الخوف من الجماعة لتبرير السياسيات القمعية أو الإقصائية للجمهور العالمي. في بلدان أخرى كثيرة – الكويت وتونس والمغرب – هذا هو المعيار في التعاطي الديبلوماسي والسياسي مع الإسلاميين. وهذا ما يجب أن يحصل في مصر أيضاً.

(باحث في مركز كارنيغي ترجمة نسرين ناضر)

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى