صفحات الثقافةممدوح عزام

بازار المثقف/ ممدوح عزام

 

 

يكرهه الثوار حين يجدونه في صف الحاكم، ويريده الحكّام إلى جانبهم. وهناك من يظن أو يؤكد أن مثقف السلطة مجرّد تابع وصولي يفخر بالجوقة. يرغب الحزب الثوري في استمالته، فإذا عجز عن ذلك، وصفه بالانتهازي، والخائن. يعترف الجميع بمهارته، فالمثقف زئبقي، محيّر، وثمّة من يسميه: البوق أو الزمّار أو كلب الحراسة.. وهنا مثقف أمضى نصف حياته في معارضة سلطات الاستبداد، وسرعان ما صار شيطاناً أخرس حين جاءت لحظة الحقيقة، وراح يمدحها.

وكان أحد الشعراء يمدح الأمراء، فإذا لم يعطوه مالاً، هجاهم. وهو ما قد يشفع لأفلاطون الذي لم يستطع، على الرغم من معارفه الفلسفية الواسعة، فهم الشاعر، فقرّر عدم دعوته إلى المائدة. يمكن لوالد المثقف أن يشارك في تقييم أدائه، فترى أنه قلّما يعجب به حين يرى تلال الكتب في بيته، بدلاً من الأطقم الوثيرة.

وفي المقابل تعوّل عليه الطبقات المقهورة كي يدافع عنها بفكرِه، وثمّة من يشيد بأدواره في المجتمع فيقال عنه: قائد الفكر. تنويري. ذبابة الخيل، وهي الصفة المجازية التي قال أفلاطون أن سقراط أناط بها مهام المثقف في المجتمع. دون أن يفكّر أن الخيل تضرب تلك الذبابة بأذيالها حين تضايقها، أو تقرصها بشدة، أو دون أن يقدّر أن أثينا الدولة والمجتمع سوف تعدمه.

كل مثقف يعتقد أنه هو المثقف الحقيقي. وسوف تشهد أن لديه مطبخاً للوصفات المطابقة لآرائه. وقد تراه يضع بعض التوابل التي لا يستعملها هو نفسه، فيصفه مثقفون آخرون بالدجال. وفي الغالب فإن أكثر من هجا المثقف هو المثقف نفسه “فكل شيء ضده من جنسه”، وأكثر من خوّن المثقف، هو المثقف، فيما يترك أمر تمجيده لقرائه ومعجبيه. ربما. أما الأنظمة السياسية فلا تحتاج لأن تهجو مثقفاً، فهي إما تسجن أو تحتوي من يعارضها، أو تهمل الذي لا ينتمي إلى مؤسساتها.

في منتصف القرن العشرين، وضع رجلان، في بلدين متحاربين أيديولوجياً وسياسياً، الصيغة النظرية والعملية المتشابهة لتكبيل المثقفين، ومحاسبتهم. الأول هو أندريه جدانوف السوفييتي ذراع ستالين الضاربة في حقل اختراع القيود، ومصادرة الثقافة. والثاني هو جوزيف مكارثي الأميركي، هذا الرجل أسّس لموجة من الاضطهاد ضد المثقفين في أميركا لا مثيل لها، وعمد إلى إحلال نظام للمراقبة على المثقفين والكتّاب، أدى لطرد أكثر من عشرة آلاف من وظائفهم في الولايات المتحدة. فيما نجح جدانوف في إسكات المئات من المثقفين السوفييت، وحرمانهم من الكتابة.

طاولت ذراعُ المكارثية المسرحي بريخت ـ وكان لاجئا في أميركا ـ والروائي هوارد فاست صاحب رواية “سبارتاكوس”، والفنان تشارلي شابلن، وعالم الفيزياء آينشتاين. واللافت أن يكون من بين الوشاة الذين تسببوا بتلك الأضرار ممثّل مغمور صار رئيساً للولايات المتحدة فيما بعد؛ رونالد ريغان.

وفيما كان جوليان بيندا قد كتب “خيانة المثقفين”، كتب مواطنه سارتر “دفاع عن المثقفين”. بينما كان غوبلز وزير الدعاية الهتلري قد قال: “كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي”.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى