صفحات الرأي

متاهة الحرية في ربيعنا/  حسن شامي

 

«المعاني مرمية على الطريق». قد تكون العودة إلى هذا القول المأثور مفيدة في هذه الأيام العصيبة. وأيامنا عصيبة ليس فحسب بالنظر إلى المجازر المتنقلة وازدهار «الداعشيات» وما يناظرها من العصبيات الفئوية الضيقة ما دون الوطنية، بل كذلك وإجمالاً لأن حاضر معظم بلدان المنطقة يتقلّب على جمر ماضٍ مبهم بمقدار ما هو عنيد وجارف.

العبارة المأثورة التي تستوقفنا اليوم قيلت في العصر العباسي الزاهر. بدا آنذاك لأسلافنا من النقاد أن عالمهم المنفتح على ثقافات أخرى والمقبل على ترجمة كبرى الأعمال الأدبية والفلسفية، بات يضمّ ويوفر للراغبين كل المعاني المطلوبة. بالتالي، تصبح قيمة العمل الشعري وما ينحدر منه مرهونة حصراً بجمالية النظم من دون الاتفاق على معايير هذه الجمالية بالذات. أصحاب المقولة هذه قصدوا أن المعاني جاهزة ومتوافرة، مثلها مثل عناصر وأدوات الحرفي والصانع، وليس على الشاعر أو الأديب سوى أن ينتقي منها ما يحلو له لنظم عقده الفريد. يبقى أن براعة النظم ومراتبها ودرجاتها أو عدمها هي مقياس الحكم الجمالي على القصيدة. ومن النظم، جذراً لغوياً واشتقاقاً صرفياً، يتولد «النظام»، في المعنَيَيْن الواسع الكوني والمخصوص بتدبيــــر أحوال جماعة بشرية معينة. ويتولد أيضأ «التنظيم» و«المنظمة»… الخ.

ليس مهماً أن تكون هذه المقولة استفاقت تلقائياً أو استعدناها نحن عن طريق التنبّه. المهم أنها تصحّ كثيراً في هذه الأيام. وتصحّ أكثر بالنظر إلى الاستخدامات المختلفة والعشوائية لكلمة ـ مقولة بعينها يصعب على أي ذي عقل أن يشيح النظر أو يصم الأذن عنها. فهي سيدة كلمات القاموس السياسي الحديث: الحرية. تلك التي رأى أمير الشعراء أن لها باباً بكلّ يد مضرجة يدقّ. إذا كان ثمة كلمة ينعقد حولها إجماع يشي بأنها أينعت في الربيع العربي «وحان قطافها» فهي بالضبط مقولة الحرية. باتت الكلمة على كل شفة ولسان ويكاد أن يستوي في إشهارها المعارضون والناشطون من ذوي المرجعيات الوطنية الحديثة والحكومات السلطانية ونخبها، وكل تشكيلات الإسلام السياسي وبينها تنظيمات الجهاديين.

بات ملحاً أن نسأل مستخدمي هذه الكلمة- البرنامج عما يعنون بها. فالإجماع المزعوم حولها والمرفوع علماً على زحف خلاصي أخذ يتكشف عن رايات كثيرة هي في الواقع عناوين ولاءات ضيقة، طائفية ومذهبية وعرقية وجهوية وعشائرية، ما يفتح أبواب جهنم على نزاعات أهلية لا نهاية لها. شجرة الحرية لا تنجح هذه المرة في حجب غابة العنف العبثي وشريعته. فلنقل إن الربيع العربي حقق إنجازاً كبيراً بتحرير الفضاء العام من قبضة نخب أمنية واقتصادية، ريعية عموماً، احتكرت الحرية لنفسها بنوع من التفويض الذاتي. لكن هذا التحرير الثمين ألقى مكونات الفضاء العام ومعانيه على الطريق، وأخرج من أحشاء التاريخ الاجتماعي المضغوط كل المكبوتات المتطلعة إلى حقها في المساواة مع غيرها. هكذا انفتح الباب وراح يتسع، على إيقاع حسابات ورهانات إقليمية ودولية، أمام راغبين كثر في التقاط ما يتيسر لنظم لآلئ تعمي البصر والبصيرة.

باتت لدينا نظم سلطوية تطلب لنفسها الحرية في الفساد والتغول ونسج شبكات المحسوبية. ولدينا معارضون- ليس كلهم بالطبع- أحرار في فنون الارتزاق والتبعية والعبودية الطوعية. ولدينا جهاديون إسلاميون أحرار في تطبيق الشريعة كما يطيب لهم. ولدينا دعاة للفتنة والقتل هم أيضاً أحرار في جموحهم إلى أقاصي الظلام. ولدينا رجال أحرار في تحصيل النفوذ والسطوة لعائلاتهم وعشائرهم وطوائفهم.

نعلم أن من يشكك في الانتشار الدعوي الرخيص لكلمة الحرية يعرّض نفسه لنيران اتهامات وشبهات متقاطعة، خصوصاً أن قسماً بارزاً من الموالين للنظم التسلطية، ليس في سورية والعراق وحدهما، يبرر ولاءه لسلطة الأمر الواقع بعدم وجود ضوابط للحرية ما يقود إلى الخواء والفوضى وتبديد الحد الأدنى من الأمن والاستقرار. مع ذلك تزعم مقاربتنا التشكيك في البديهية المنسوبة أكثر من سواها إلى مقولة الحرية. وما يدفعنا إلى مراجعة مثل هذه البداهة نقدياً هو الخشية من تحولها إلى إحدى فقاقيع زمن تقاس فيه قيمة الأشياء بنجوميتها واستعراضها المشهدي. والحرية في الزمن النيوليبرالي هي بالضبط أم الفقاعات. فهي كما نعلم حجر الزاوية، مع فكرة المساواة، لكل البناء السياسي والحقوقي الحديث، كما يستفاد من لحظتي التأسيس، أي بيان الاستقلال الأميركي متبوعاً بعد 13 سنة بمبادئ الثورة الفرنسية وشرعة حقوق الإنسان.

بموجب هذه الشرعة، يولد الناس ويظلون أحراراً متساوين في الحقوق، فيما يرى إعلان الاستقلال الأميركي أن الناس يولدون متساوين وأن الرب الخالق منحهم حقوقاً ثابتة لا تنتهك في مقدمها الحياة والحرية والسعي إلى السعادة، وأن الحكومات البشرية تأسست لضمان هذه الحقوق. ملاحظة الفارق بين الصيغتين الفرنسية والأميركية في ما يتعلق بمصدر الحق في الحرية تبقى، على أهميتها، ثانوية.

فالأمر الأساسي هو أن هناك منظومة كاملة من الأفكار والمفاهيم المدعومة برصيد كبير من العمل والجدل الفكري والفلسفي في خلفية المكانة المرموقة لفكرة الحرية في الخطاب السياسي الحديث. ولا يمكن الفصل بين الحرية كحق ثابت وطبيعي للبشر وبين المقولات الأخرى التي تسمح كوسائط ضرورية، بتحقق الحرية مثل الحق الطبيعي والقانون والدولة. ما هو جديد وثوري بالفعل يتعلق بفكرة «الإنسان» والإنسانية الشديدي التجريد. لكن الإنسان لا يتحقق ككائن سياسي إلا بصفته مواطناً يتمتع بحقوق عليه واجبات، وهذا ما يساوي بينه وبين أي إنسان آخر أمام القانون والدولة التي ترعاه. ولا يحقق المواطن حريته إلا كعضو في جماعة مشدودة إلى بعضها بعضاً، بمقتضى عقد اجتماعي تحضنه كيانات مختارة عن طريق الإرادة الحرة والطوعية ومنها الشعب والوطن والأمة.

ليس هنا مجال التوسع في المنظار الفلسفي والفكري للحرية في التاريخ السياسي الحديث وفي الإيديولوجية الليبرالية ومفارقاتها. ما يهمنا هو أن وسائط التحقق الحديث للحرية، في معناها الحقوقي والسياسي، تكاد أن تكون هي نفسها ما دون المقولات المشتركة ومحل نزاع ثأري وكيدي بين جماعات تسعى إلى الغلبة. وإذا شئنا التبسيط يمكن دمج الحرية في مفهوم أكثر حضوراً في المخيال العربي والإسلامي، هو مفهوم العدل إذ أن الظلم مفسد للعمران.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى