صفحات العالم

بورتريه للسوري في العقل اللبناني


عاصم بدر الدين

ينشغل هذا النص في تقصي مسارات تكوّن صورة السوري في المخيال الجمعي اللبناني. وإذا كنا على دراية تامة بما يحمله تعبير السوري من مدلول سلبي وعنصري في اليومي من الكلام، فإننا نستعمله هنا، على نحو مضاد لا يفضي الى دلالات وتأويلات في غير محلها.

لا يسعى هذا المعنى المضاد إلى خلق انطباعات واستعادة تخييلات بقدر تدليله المباشر على كتلة حية من الناس (الشعب السوري) ليست في الضرورة متجانسة، وهذا ما لا عسر في إثباته، لكنها في الحد الأدنى متقاربة. الركون إلى صورة مشكّلة جمعياً، بما فيها من تهويم وتلفيق واجتزاء، يماشي أيضاً قول هيغل في المنطق بأن تحليل الجوزة يعني كسرها.

خلخلت الثورة السورية، في أول فصول نجاحها، صوراً سائدة عن البلد وشعبه. لم يكن اللبنانيون بعيدين عن تزعزع ثوابتهم حيالها. ليس لأن النظام المهدد الآن هناك كان لبنانياً، بمعنى ما، فحسب، بل كذلك لأن من يقفون في وجهه هم في لبنان. القول إن اللبنانيين كانوا يجهلون أن في سوريا سوريين أيضاً، قول غير ممكن بالتأكيد، بيد أن المسألة أكثر تعقيداً من الظاهر. إذ بدا على الدوام للبنانيين أن شعب سوريا كله عندهم. “كله” هذه ليست عدداً بقدر ما هي مجموعة سمات نمطية. كيف، والحال هذه، يثور هؤلاء على نظام، هم منه، يعرف اللبنانيون أكثر من سواهم من غير السوريين، مدى قابليته العنفية؟

نتجاسر على القول إن الثورة السورية لبنانية أيضاً. صحيح أن هذا يسرق من الفاعلين السوريين، المواطنين، حقهم في أن يحتكروا، لمرة أولى، قرارهم وسيادتهم على مجالهم الخصوصي الداخلي، وهم المغيّبون عنه منذ عقود أربع بعثية، وهذا ما لا قدرة لحساسيتنا الأخلاقية، في المقام الأول، إزاء الثوار والضحايا الذين يتساقطون يومياً، أن تستسيغه، لكنه أيضاً يجانب الصواب في الأثر على الأقل. التنبؤ بمصير النظام مما لا يفيد في الراهن. لكن ما جرى حتى اللحظة كاف للكشف عن وجود فاعلين من الناس. لم تعد منذ آذار الفائت سوريا النظام أو الأسد بالتتابع، بل أصبحت، وفي موازاة هيمنة النظام على القرار والصورة وإعادة إنتاجها، وفي تصاعد إمكان التساوي بينهما في القدرة على التأثير في الداخل والخارج، سوريا الناس أيضاً. سوريا السوريين.

هذا بالضبط أثر الثورة السورية في العقل الجمعي اللبناني. ذلك أن اللبنانيين “اعتادوا” من زمان على هيمنة الضابط السوري بما هو شخص النظام. واذا كان الفرد السوري في لبنان، قد اسقطت عليه بعض هذه الصورة، وعادت عليه بمنفعة أو ضرر، فهي لم تكن مرةً لكونه شغيلاً، أو طالباً جامعياً، أو صاحب مهنة، أو زائراً أو إلى آخره، بل لكونه من جلدة المهيمن. لكونه بدرجة أو أخرى مهيمناً. لم يكن الناس السوريون ناساً. كانوا دائماً أصحاب حكم ومتسلبطين حتى في اشتغالهم في مهن قليلة القيمة، في الرؤية السائدة. ما تعرض له السوريون من اعتداءات، وخصوصاً بعد انسحاب جيش بلادهم من عندنا، يساق في التدليل على عدم قدرة اللبنانيين على إقامة حد فاصل لمهيمن ومهيمَن عليه هناك، في سوريا.

غني عن البيان أن هذه الكلية في الرؤية هي حاصل الجهل بما يجري في سوريا. هذا ما يحرّض على دراسة آلية وصول “الخبر السوري” إلى وسائل الإعلام اللبنانية، باعتبارها مصدراً عامياً للصور. ذلك أن الآلية هذه متعددة الدوائر ومعقدة، كما يخال المرء، فهي ليست مجرد إرسال خبر ونشره في جريدة مثلاً، بقدر ما هي تجليس للخبر عند عبوره الحدود ليقترب من التصوير الرسمي. مدوزن الصور هذه ليس في الضرورة الجانب السوري الرسمي، كما تقتضي الحصافة القول. الحالات الخاصة التي تجاوزت هذا التصوير النمطي إما كانت نخبوية، أي قليلة الاتشار بين الناس، كما في الكتابات السورية على صفحات هذا “الملحق”، على سبيل التمثيل. أو من طريق مسلسلات تلفزيونية تسخر بخفر من الواقع. والحال أن اللبنانيين ملامون، وهذا من النوافل، لعدم اجتهادهم في اكتشاف “سوريا وشعبها”، بما هي آخرُ النظام، غير أنهم في الملامة ليسوا وحيدين بالطبع.

والحال أن تنميط السوري ليس آلية برانية، في أول القول، كما أنه ليس المُنمَّط الوحيد. إذ أن اللبنانيين (وهم ليسوا واحداً طبعاً) وفي سبيل تبرير نفورهم من محيطهم، منذ تحصيلهم إستقلالهم، راحوا بإيديولوجيا ذاك الزمن يروجون لفكرة الإنتماء لما هو أبعد من هذه الجغرافيا، كما إلى دونية أهلها واختلافهم عنهم. هكذا تراكم نفور ورث إلى أزمنة سياسية متناقضة من حيث تشكّل صفوتها الحاكمة. زاد ذلك عسر محاولات اللبنانيين في تأسيس دولتهم الأمة. كان هذا التلفيق المنمط بديلاً تعويضياً من انهيار المشروع الحداثي. وحاله حال الأمم المتعثرة إستعان العقل الجمعي المحلي بالإعتقادات الجوهرانية الثابتة لذاته وغيره، وبأسطرة التاريخ، ما عنى تخييله، وتأسيس الواقع عليه. أضحت الرموز والتخييلات في فكر كهذا أصل الاجتماع بدل أن تكون معضدته. وليس قليل الدلالة، في سبيل شحذ القول، أن الخطاب والممارسة السياسيين السائدين في لبنان يتجاوزان الواقع، بل حتى يحتقرانه بناسه.

كان للدخول العسكري السوري المباشر عبر قوات الردع العربية، أول الأمر، ثم الإنفراد بالبلد وما سبق ذلك من تدخلات وإغتيالات سياسية نفذتها العهود السورية المتعاقبة منذ الإستقلال، أن حشدت أسباب الكراهية والتخييل العدواني. والحال أن السياسة السورية، البعثية تحديداً، تجاه لبنان، إذ حوّلته ورقة في يدها على المستوى الخارجي، لم تترك لها فيه حليفاً أو عدواً دائمين. من يتعقب التحولات، في زمن الاحتراب الأهلي، يرى أن النظام السوري قد تحالف مع جميع الأطراف وقاتلهم كلهم على السواء. وكان في الحالين يثبت هيمنته ويشرعنها بخطاب حرص أبوي على الشقيق الأصغر، ذي النسيج الطوائفي، الذي لا يعرف مصلحته ولا يعرف كيف يدير نفسه. صحيح أن اتفاقات للمصالحة سابقة على الطائف رعاها الحكم السوري إلا أنها كانت تبقيه طرفاً شريكاً في القتال وميزانه. هذه تبدو فضيلة الطائف “البعثية”. إذ رفعه فوق القتال وأهله. صيّره حَكماً وحاكماً فأصبح في الحديث عن حلفاء وخصوم ما يناظر التنكيت السمج.

على أن تكوّن الصورة السلبية لدى اللبنانيين لم يركن فحسب إلى مآل العُلوي من السياسة، أي علاقة دولة بأخرى. إذ إن للعسكري السوري الواقف في كابينته، الذي يعجز المرء عن تمييزه عن رجل المخابرات لكثافة صورتهما، وما يمتلكه من سطوة ممارسة أو مستبقة التخيل دور في ذلك أيضاً. هكذا تروى مئات الحكايات عن الذل والمهانة اليومية التي يتعرض لها المارون، في هذه المنطقة أو تلك. ولا يعرف أحد بالضبط الحقيقي من هذا الحكي والملفق منه. لكن صورة العسكر السوري، بعد فترة من ثبات أمره، وهذا كاف للتدليل على النفوذ، أصبحت قادرة على استيعاب كل قول. حتى أنها دمجت في نفسها، أو دُمج فيها، السوري المدني.

استحال مذذاك كل السوريين في لبنان رجال مخابرات، مهما تكن وظيفتهم الفعلية. لا يلزمنا جهد كثير للتدليل على عدم صحة تعميم كهذا، كما على مساوئه. والحال أن النظام السوري وفي سبيل ضبط أمنه الاجتماعي كان يجيز لعدد كبير من عمالته في الأطراف النزوح إلى لبنان. ظاهرة تخفيف الضغط/ النزوح هذه سابقة على الطائف، لكنها في نموّها معاصرة له وخصوصاً في ظل سياسات إعادة إعمار ما خرِّب في “حروب الأهل”. وإذا صح أن الكثافة تثير الظن، فإن تشغيل هذه العمالة من قبل اللبنانيين يبطل كل تفسير غير العوز. هكذا تلاقت مصالح الصفوتين الحاكمتين في البلدين، وهما متشابهتان إلى حد كبير من حيث بنيتهما العائلية، على أكتاف هؤلاء. في سوريا يخفف الحكم من وطأة عجز نظامه الإقتصادي عن استيعاب الكثرة الوافدة إلى سوق العمل بتصديرها إلى الخارج. وفي لبنان تشكل العمالة الرخيصة الوافدة من خارجه مشبعاً لحاجة سوق العمل ومستثمريه.

أنتج اللبنانيون في سياق توجسهم هذا، المبالغ فيه والمبرر في آن واحد، مروية بائع الكعك. بدت هذه السخرية في سعيها لتفكيك منظومة الهيمنة، بعيدة تماماً عن سعي الناس إلى تحقيق حريتهم بالخلاص من النفوذ المخابراتي. إذ انها استبدلت تلفيقاً بتلفيق آخر لم يطل غير العاديين من الناس. والحال أن الواحد منا يتساءل لماذا على رجل المخابرات السوري أن يكون بائع كعك أو ترمس موجوداً في كل الأمكنة، ولماذا يسعى هذا الجهاز الأمني إلى ذلك في الأصل، إذا كان اللبنانيون، سياسيون وأصحاب مال وفنانون وإلى آخره، يلجأون بملء إرادتهم إلى المفارز والمخافر السورية لحل مشكلاتهم وعراكهم بغلبة النافذ فيهم على الآخر، بقوة السلبطة.

دعّم هذا الاعتقاد أن بعضاً من السوريين كان يستغل نفوذ حكمه في لبنان في الشارع أو المؤسسات أو الجامعات، حيث يدرس عدد كبير من الطلبة السوريين. لكن هؤلاء كانوا بالفعل على علاقة استنفاعية متبادلة مع رجال المخابرات السورية. حالهم لا تنسحب على أفراد آخرين، أكثر عدداً، قليلي الحيلة من هذه الناحية. نتيجة هذا التعميم اللاعقلاني، تعرض السوريون لمعاملة سيئة ووحشية لحظة انسحاب جيش بلادهم من لبنان.

راح اللبنانيون يدوِّلون في ما بينهم أن هؤلاء الشغيلة يأخذون فرصهم في الشغل لأنهم يقبلون بتقاضي أجور منخفضة. قبل أن يتداركوا أننا، نحن اللبنانيين، لا نشتغل بأعمال وضيعة كهذه. يبدو هذا النموذج المتداول في اليومي من تفكير جل اللبنانيين تبياناً واضحاً لآلية تولد الممارسات العنصرية ضد الآخر السوري. إذ إن هذا القول يبرر استغلالهم بالأجر وحرمانهم من الضمانات الاجتماعية والصحية اللازمة، والاعتداء عليهم بالضرب والإهانة، وفي الوقت ذاته إبقاءهم في لبنان وتشغيلهم والاستنفاع منهم. ولا ينقص ما سبق إلا الحديث عن هذا الشعب الخامل الذي يقبل أن يحكمه بالقوة شخص واحد من دون اعتراض، أو تناول خصائص فيزيولوجية غير محببة تعكر صفو المجال العام، حتى نصل إلى ذروة الحق في امتهان كرامتهم والتعدي على حقوقهم الإنسانية.

إزاء تهشّم هذه الصورة النمطية في مواجهة الكم الهائل من الصور غير الممنتجة وغير الرسمية، يحتار اللبنانيون. هكذا يطل على السوريين من ينصحهم بالحفاظ على نظام لا يفعل شيئاً منذ نشأته غير تذويبهم. الكلام هذا في آخره يشبه الصمت الذي يقتل، كما سمّيت احدى الجمع. لكنه يفصح عن أول وعي اللبنانيين بناس سوريا. ما عاد يكفي أن يفاوض النظام لتقول سوريا. أصبح علينا أن نحكي للشعب ونسأله. أن ننصحه ونقنعه وأن نطلب منه. النظام نفسه ما عاد يمكنه أن ينسى الناس في 99 في المئة من الأصوات، لا يصدّقها أحد، إذ صار مضطراً أن يحشد الملايين كيفما كان، ليردّ على أصوات خرجت من الصندوق.

لا يمكننا في كل حال أن نحكم الآن على بعض مواقف الفريق اللبناني الداعم لثورة الشعب السوري، إذ أحياناً تبدو في العقلية البلدية كما لو أنها شماتة ليس إلا. هذا، على أهمية تعقب تحولاته في الزمن اللاحق، لا يهم أحداً في الراهن. ذلك أن السوريين، إذ يشغلون في حبّهم قلوبنا، في عيشهم ثورتهم، حياة وموتاً، يكسرون صورنا فارضين غير صورتهم التي هي صورتهم في أنفسهم.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى