صفحات الرأي

بيت الكوابيس

 

صبحي حديدي

في اندفاعة جهل شبه هستيرية، تعليقاً على العمل الإرهابي الذي شهده ماراثون مدينة بوسطن، وقعت سارة بيلين ـ المرشحة لمنصب نائب الرئيس، على بطاقة الحزب الجمهوري للرئاسة الأمريكية، دورة 2008 ـ في حماقة الخلط بين شيشنيا و… تشيكيا!

ليس هذا فقط، إذْ اعتبرت بيلين أن التشيك عرب أقحاح، ولهذا مضت أبعد، واهتاجت أكثر، فقالت: “أراهنكم أنني أنطق باسم أمريكيين كثر حين أقول أنني راغبة في الذهاب إلى هناك، على الفور، وتلقين هؤلاء الناس درساً. وخير لنا أن لا نتوقف عند جمهورية التشيك، بل يجب مطاردة جميع الدول العربية. على الأعراب أن يتعلموا أنه ليس ممكناً لهم أن يواصلوا المجيء إلينا وتفجير الأشياء. فلنرمِ نوويتين على إسلام آباد، ونحوّل براغ إلى رماد، ونقصف طهران عن بكرة أبيها”! كانت بيلين تتحدّث على الهواء مباشرة، عبر قناة “فوكس نيوز” الأمريكية؛ ورغم تهليل المذيع ستيف دوسي وزميلته غريشن كارلسون لهذه التصريحات، فإن محاولاتهما لتصحيح كوارث المعلومات الجغرافية التي تدفقت من فمّ بيلين باءت جميعها بالفشل.

قد تكون هذه حالة قصوى تعكس مزيجاً من الجهل والحماقة والهستيريا، غير أنها نموذج على مزاج التشدد الذي يمكن أن يذهب إليه ساسة أمريكيون، فضلاً عن جمهرة من المعلّقين والباحثين الأكاديميين و”الخبراء”، في تحليل الوقائع الإرهابية؛ ولا نقول ظواهر الإرهاب في مدلولاتها الأعمق، فهذه ممارسة نادرة، لأنها أصلاً ليست مفضّلة عموماً في وسائل الإعلام. غير أنّ خلط الحابل بالنابل، على طريقة بيلين، لا يتوقف عند المغالاة الأشدّ في التأثيم الجماعي للشعوب، بل يقترن أيضاً بطراز آخر من التشدد، يخصّ المساس بالحقوق المدنية والحريات العامة في البلدان ذاتها التي تكون شعوبها ضحية الإرهاب.

على سبيل المثال، لدى الشروع في استجواب جوهر تسارنايف، المتهم الثاني بتفجير ماراثون بوسطن، رفضت الشرطة الأمريكية تطبيق مبدأ “إنذار ميراندا”، أحد الحقوق الجوهرية والأساسية التي شرّعها القانون الأمريكي، والذي يُلزم السلطات بتلاوة نصّ قصير على مسمع كلّ موقوف، يبيّن أن أقواله قد تُستخدم ضدّه في المحكمة، وأنّ من حقّه التزام الصمت. صحيح أنّ الشرطة لم تتخذ هذه الخطوة إلا استناداً إلى قرار قضائي، معلل بمقتضيات السلامة العامة؛ إلا أنّ الحدود بين الحقّ المدني ومقتضيات حجبه قد لا تكون جلية دائماً، بما يكفي لانتفاء أي سوء استخدام.

وقبل سنوات أثيرت في الولايات المتحدة نقاشات عاصفة حول التسجيلات الهاتفية التي أمر الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن بأن تُجرى بحقّ عدد من الشخصيات الذين زعمت الإدارة إنهم على صلة بمنظمة “القاعدة”. كان فيليب جيمس، أحد أبرز متقاعدي التخطيط الإستراتيجي في الحزب الديمقراطي الأمريكي، في طليعة نقّاد هذا الإجراء، فأطلق عليه تسمية “الكابوس الأمريكي”، واستذكر الدولة البوليسية الرهيبة التي تخيّلها الكاتب البريطاني جورج أورويل في روايته الشهيرة “1984”، وتساءل: “هل تنقلب أمريكا إلى الشاكلة التي تخشاها كلّ الخشية: دولة على غرار الأخ الأكبر، حيث الحكم للأوامر العليا، ولا أحد مستثنى من تنصّت البوليس السرّي، وكلّ شيء مسموح به دفاعاً عن الوطن، بما في ذلك التعذيب”؟

لم يكن بوش فريد عصره في هذه الانتهاكات، بالطبع، لأنّ خلفه باراك أوباما أبلى في الميدان بلاء حسناً والحقّ يُقال، وتكفيه وصمة عار كبرى اسمها غوانتانامو، ذلك المعتقل الرهيب الذي وصفه أوباما نفسه بـ”الفصل الحزين في التاريخ الأمريكي”، معتبراً أنّ النظام القضائي الأمريكي يمكن أن يستوعب مختلف ملفات المحتجزين في زنازينه. ولأنّ طيّ هذا الفصل كان يقتضي إغلاق المعتقل، ليس أقلّ، فإنّ الوعود ذهبت أدراج الرياح، وصارت شاهدة على اختبار مبكّر يفضح مدى اقتران أقوال أوباما بأفعاله.

لا تُلام دولة، البتة، حين تتخذ كلّ التدابير الكفيلة بالحفاظ على سلامة الوطن وأمن المواطنين؛ غير أنّ الخيط الفاصل بين الحقّ المدني والتعسف الأمني، وبين التعقل والحماقة في معالجة الظاهرة الإرهابية، ليس رفيعاً ودقيقاً، فحسب؛ بل هو واهٍ غالباً، وغائم الحدود أيضاً. وانقطاعه عتبة أولى، قبيل الانزلاق إلى بيت الكوابيس الذي أجاد أورويل تفصيل عتماته!

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى