صفحات العالم

بين فيتوين


الياس خوري

هناك حلقة مفقودة في قراءة العرب لواقعهم السياسي في زمن الثورات العربية الديمقراطية. وهي لم تثر للأسف قلق المحللين الذين اكتفوا بأحد موقفين: إما تمجيد الثورة، باعتبارها بداية عصر جديد سوف تعم فيه الحرية والديمقراطية، او ادانتها ووصفها بالمؤامرة الامبريالية التي تؤكد منطق السياسات الاستعمارية في المنطقة، من خيانتها للحلفاء المخلصين، كما حصل مع بن علي ومبارك لحظة سقوطهما، الى الافتراض بأن الثورات ولدت في غرف المخابرات السرية بهدف تحطيم ‘جبهة الممانعة’ وادخال العالم العربي في التفكك.

الرأيان تبسيطيان، ورغم انني افضّل تبسيطية التفاؤل التي يعبر عنها الرأي الأول، واعتقد ان سذاجة التشاؤم التي يشير اليها الرأي الثاني هي من مخلفات استقالة العقل التي صنعتها عقود من الاستبداد. غير ان التفاؤل يجب ألا يحجب الحقائق التي كشفت عنها التجاذبات السياسية في مجلس الأمن الدولي خلال الأسبوعين الأخيرين، عبر ظاهرة الفيتوين: التهديد بالفيتو الأمريكي ضد اعتراف المنظمة الدولية بدولة فلسطين، وممارسة الفيتو الروسي ضد مشروع القرار الذي يدين القمع الوحشي الذي يمارسه النظام في سورية ضد الشعب الثائر لحريته وكرامته.

في الفيتو الأول، الذي تسعى الولايات المتحدة الى تجنّب كأسه عبر الضغط على مجموعة كبيرة من اعضاء مجلس الأمن من اجل عدم تأييد الحق الفلسطيني، يجد العرب في روسيا والصين حليفين، بينما تلعب امريكا وحلفاؤها الغربيون دور المتراس الذي تحتمي به العنصرية الاسرائيلية، من اجل تأبيد احتلالها لفلسطين وتسويغ قمعها الوحشي للشعب الفلسطيني.

وفي الفيتو الثاني يجد الديمقراطيون العرب انفسهم في مواجهة مع روسيا، التي مارست حق النقض او الفيتو، من اجل منع ادانة الآلة القمعية للنظام الوراثي في دمشق، الذي يمارس اشنع اساليب القمع والقتل بحق الشعب السوري، كما يجدون انفسهم في حلف مباشر او غير مباشر مع حامي عدوهم الوطني.

ما هذه المعادلة السقيمة التي يفرض فيــــها عليــــك خيار اللاخيار. اي ان تختار بين كرامة الوطن وكرامة المواطن. فـــفي الحالة الأولى عليك ان تتخلى عن كرامتك الوطنية من اجل ان تضــمن كرامتك الفردية، وفي الحالة الثانية تتخلى عن الكرامة الفردية من اجل كرامة الوطن.

انه خيار اللاخيار، لا لأن لا كرامة للمواطن من دون كرامة وطنه فقط، بل لأن النظام العربي كاذب ومنافق ايضاً. ليس صحيحا ان القذافي او الأسد هما ضمانتان للكرامة الوطنية، وبالمقدار نفسه فان هدر الكرامة الوطنية في مصر مبارك او في يمن علي عبدالله صالح او في امارات الخليج ومملكته السعودية ليست ضمانة للكرامة الفردية.

الوطن في الحالة الأولى مستباح ومحتل، والفرد في الحالة الثانية ذليل ومهان.

خيار كاذب وبلا معنى، وهو ليس سوى حجاب كي يمنع رؤية الحقيقة التي تقول ان سقوط العرب بين الفيتوين هو التعبير الفادح عن استمرار غيابهم عن المسرح السياسي في العالم، واحد اشكال الغيبوبة التي جعلت من العالم العربي سجنا للأفراد ومقبرة للأوطان.

يستفزني الهجاء العربي لما يُطلق عليه اسم الكيل بمكيالين، حين يتم تحليل السياسة الأمريكية، كأننا نتوقع من الامبراطورية المهيمنة على العالم شيئاً آخر.

نعم انهم يكيلون بمكيالين وهم على استعداد لاستخدام كل المكاييل اذا كان ذلك يؤمن مصالحهم. لكنهم لا يجزئون مصالحهم الاستراتيجية. مَن يتحالف مع الولايات المتحدة يعرف سلفاً انها لا تتساهل في امر التزامها التفوق الاسرائيلي على كل الدول العربية. الكل يعرف ذلك، لأن الادارات الامريكية المختلفة تقوله كل يوم. اما من يتحالف مع العرب فهو يتوقع سلفا ان يوافقوا ليس فقط على تجزئة مصالحهم بل على ابتلاعها. هكذا تكون امريكا مع الديمقراطية في مصر وضدها في السعودية، ومع الحرية في تونس وضدها في فلسطين… والعرب موافقون او صامتون او متواطئون.

نقد المكيالين يجب ان يبدأ هنا، والا فقدت السياسة معناها. وشرط البداية هو تمزيق الأكاذيب، اذ ليس صحيحا ان النظام السوري يدافع عن ممانعته ضد اسرائيل، كما ان التراجع المصري عن سحب السفير من اسرائيل بعد قتل الجنود المصريين في سيناء لا يمت الى الحكمة في شيء.

لا ممانعة ولا حكمة، بل أقنعة لديكتاتوريات قامت على استباحة كرامة المواطن، فانتهى بها المطاف الى استباحة كرامة الوطن.

ليس من الحكمة في شيء ان يصمت الديمقراطيون العرب عن الحق الفلسطيني، وليس ذكاء ذلك التراخي المبتذل امام التلويح بالتدخل العسكري في سورية. هذا يسمى في علم السياسة والثورات انتحارا. لأنه يرتضي احد الاذلالين من اجل تلافي الاذلال الآخر، وهو يعرف ان الفصل بين كرامة الفرد وكرامة الوطن هراء مطلق. فحين ستنتصر الثورة الســورية، وهي منتصرة، سيتأكد الربط بين الكرامتين، وسيعود الجولان المحتل الى موقعه في خريطة الصراع مع المحتل الصهيوني.

اعرف ان اصدقاءنا في المعارضة الوطنية الديمقراطية في سورية يعرفون ان نضالهم من اجل الحرية والديمقراطية وكرامة المواطن، هو نضال من اجل كرامة الوطن واستقلاله، واعرف ايضاً انهم يشعرون بالمرارة من فخ الفيتوين الذي صنعته الدول الاستعمارية الكبرى من اجل اعادة تقاسم المنطقة في لحظة الانحطاط التي صنعتها الديكتاتوريات، لكنني اعرف ايضا ان الثورات الشعبية العربية، هي الرد الحقيقي على الانحطاط، وهي الأمل كي يستعيد المواطن العربي كرامته ويعيد تأسيس اوطانه، وان هذه الثورات اكبر من ان يصادرها مجلس عسكري هنا، او يشلها التلويح بالفيتو هناك.

اننا امام منعطف الربط بين الحق والحقيقة، وهذا ما اشار اليه تأسيس المجلس الوطني السوري ودعوته الى التمييز بشكل واضح بين حماية المدنيين من قبل مؤسسات حقوق الانسان الدولية وبين التدخل الأطلسي، رافضا منطق التدخل العسكري في سورية، ومشددا على وحدة الشعب والمؤسسات.

لا تستطيع الثورات العربية ان تنتصر الا حين تتمرد على فخ الفيتوين، اللذين يمحوان الحضور الدولي للعالم العربي، ويسعيان الى استعادة المنطق الاستعماري القديم الذي لا يرى في الأرض العربية سوى مكان لتقاسم النفوذ والثروة.

الخروج من هذا الفخ القـــــاتل يكون باستعادة منطــــــق الأشياء، فالنضال من اجل الديمقــــراطية هو نضال من اجل الحـــرية والتحرر.

والحرية لا تكون من دون الاستقلال الوطني ومن دون فلسطين والحق العربي في تحرير الارض المحتلة.

الشعبان السوري والفلسطيني وهما يتعرضان لفيتوين متناقضين، يعرفان ان معركتهما واحدة، وان حرية دمشق ستكون بابا الى حرية القدس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى