صفحات الرأي

تاريخ الديمقراطية.. تأويل ماركسي

 

عرض/ زياد منى

كلنا يعرف أن المعنى الحرفي لمصطلح الديمقراطية الإغريقي الأصل هو “حكم الشعب”، لكن ليس ثمة اتفاق على معناه التطبيقي. ثمة وهم بأن المصطلح عنى الشيء ذاته في كل العصور وفي كل الأنظمة الاجتماعية، لكن هذا غير صحيح، كما يوضح مؤلف الكتاب النيوزيلندي براين بروبر المحاضر في كلية العلوم السياسية بجامعة أوتاغو وصاحب مؤلفات أخرى في مجال تخصصه.

إضافة إلى ذلك، تحاول القوى الليبرالية والليبرالية الجديدة فرض مفهومها للمصطلح وتعميمه عالميًا، وفي الوقت نفسه الحسم بأن هذا النظام السياسي الاجتماعي -على علاته- هبة من المتنورين والمتنفذين في المجتمعات الرأسمالية قدموها لشعوبهم برضا وعن طيب خاطر.

– الكتاب: تاريخ الديمقراطية.. تأويل ماركسي

– المؤلف: براين بروبر

– عدد الصفحات: 310

– الناشر: بلوتو برس، لندن-المملكة المتحدة

– الطبعة: الأولى 2013

المؤلف يختلف مع هذه النظرات والادعاءات ويناقشها ويحاور كلا منها عبر تحليل كل مرحلة سياسية اجتماعية مرت بها البشرية والقوى المساهمة في تشكله، ولذا يقسم عرض رأيه في كل نمط ديمقراطي تقسيمًا زمنيًا إلى مراحل تبدأ بالفصل الأول الذي يلي التقديم والمقدمة، وهو الجذور في العالم الإغريقي.

الفصل الثاني “قمع الديمقراطية” خصصه المؤلف لعرض وتحليل المجتمع الروماني الجمهوري ومن ثم الإمبراطوري، أي الفترة الواقعة بين عامي 509 و27 ق.م، بينما يتعامل الفصل الثالث مع مرحلة الانتقال في العصور الوسطى الأوروبية من البنية الإقطاعية إلى الرأسمالية.

أما الفصل الرابع فيتطرق المؤلف فيه إلى الثورة الإنجليزية والديمقراطية البرلمانية عندما بدأ استعمال المصطلح بلغة تلك البلاد، لينتقل في الفصل الخامس إلى الجانب الغربي من المحيط الأطلسي للتعامل مع الثورة الأميركية وإعادة تعريف الديمقراطية دستوريًا.

ويعود مرة أخرى إلى أوروبا في الفصل السادس حيث يحلل إعادة إحياء الديمقراطية ثوريًا في فرنسا، بينما ينقلنا في الفصل السابع إلى عام الثورات في أوروبا، أي عام 1848/1849، حيث يحللها هي والثورات المضادة التي أعقبتها.

الفصل الثامن خصصه المؤلف للحديث عن التوسع الرأسمالي والعولمة والدمقرطة، ليعرض في الفصل التاسع النقد الماركسي للرأسمالية وللديمقراطية التمثيلية، إلى جانب مواضيع الاستغلال وعدم المساواة والبيئة والمنافسة والإمبريالية والحروب والأزمات والقمع والتغرب والخداع الديمقراطي، والسياقين الاجتماعي والاقتصادي للديمقراطية التمثيلية، ثم تقنياتها الدستورية.

وفي الأخير يخصص الفصل العاشر للحديث عن التمهيد التاريخي للديمقراطية الاشتراكية المشاركة، أي في كومونة باريس وثورة أكتوبر/تشرين الأول في روسيا القيصرية وتفسخها على يد الستالينية.

ما الديمقراطية؟!

قلنا إن المقصود حاليًا بالمصطلح السائد الاستعمال في العالم هو الديمقراطية التمثيلية، والتي يعدها الغرب الشكل الأمثل للحكم والأنموذج الصالح لكل المجمتعات البشرية وبالتالي نهاية التاريخ، ولسنا في صدد مناقشة ذلك. وحيث إن المؤلف ينطلق من منظور ماركسي للديمقراطية لا من منظور لينيني، فإنه يقدم تعريفه الآتي: تعريفي لما تعنيه الديمقراطية أو تدل عليه بإيجاز لا يُخِل، هو أنها شكل من الحكم (أو الحكم الذاتي) يتيح سبلاً معتبرة تستطيع غالبية المواطنين من خلالها أن تمارس تأثيراً كبيرًا في صنع القرارات والسياسات.

انطلاقًا من تعريفه والتجارب التاريخية التي استعرضها المؤلف عبر فصول كتابه، يصل إلى استنتاج بأنه ثمة ثلاثة أنماط أو أشكال من الديمقراطية عرفتها البشرية عبر تاريخها الاجتماعي السياسي، هي: الديمقراطية الأثينية (منسوبة إلى أثينا)، والديمقراطية التمثيلية التي نراها سائدة في الدول الغربية، وأخيرًا الديمقراطية التشاركية.

المؤلف يعترف بأن تعريفه هذا لن يرحب به مثقفون غربيون ليبراليون يرون في تعريفهم هم -أي الديمقراطية التمثيلية- الشكل الأصيل الوحيد، وذلك من منظور عدم تمييزهم الماركسية القياسية أو الكلاسيكية من الستالينية.

مع هذا، يرى أن رأيه صحيح لو قبل أولئك الليبراليون حقيقة أن الديمقراطية التمثيلية لم تكن الشكل الديمقراطي الوحيد الذي عرفته البشرية في الماضي، وبالتالي فهي لن تكون الشكل الوحيد الذي يمكن اجتراحه في المستقبل. ولأن الهدف خلق مستقبل أفضل للبشرية جمعاء، فإنه لا يتم إلا عبر دراسة النظم الاجتماعية المختلفة التي عرفتها المجتمعات البشرية، وهو ما دفعه للتعامل مع المسألة تاريخيًا.

نقد الديمقراطية التمثيلية

عبر الاستعراض والتحليل لتلك النظم، يصل المؤلف إلى نتيجة مفادها أن القوى الاجتماعية التي انخرطت في النضال من أجل الديمقراطية والدفاع عنها أكثر من غيرها، كانت الفقراء والعامة. ففي المدن-الدولة الأثينية شكل الفلاحون القوة الأساسية المطالبة بالديمقراطية، بينما شكلتها في فرنسا إبان الثورة الطبقة المتوسطة وشبه البرجوازية المدينية والأعضاء الأكثر فقرًا من الإكليروس والعمال اليوميين والساريين المتطرفين وأخيرًا قسم من الفلاحين.

أما في روسيا فقد شكل العمال والفلاحون عصب تلك القوة في العقدين الأولين من القرن الماضي، بينما شكلها في الدول الرأسمالية المتطورة عمال وفلاحون وأعضاء من الطبقة الوسطى، إضافة إلى الطلاب.

وهنا يذكّر بالإضرابات المستمرة في كثير من دول الاتحاد الأوروبي والأزمات الخانقة التي تمر بها وتسير من خلالها، يضاف إليها حركات الاحتجاج في الولايات المتحدة نفسها والتي عرف قسم منها بمصطلح “احتلوا وول ستريت”، و”نحن الـ99%”، في إشارة إلى حقيقة أن 1% من سكان الولايات المتحدة يملكون ما يقارب نصف الثروة القومية.

عند الاعتراف بهذا يمكن البحث في شكل أفضل للديمقراطية آخذين في الاعتبار حقيقة أن الشكل الليبرالي للديمقراطية في الدول الصناعية المتطورة قاد إلى حربين عالميتين، عدا عن الأزمات الخانقة التي تمر بها تلك الدول، بما يظهر أنها غير مستقرة بل وهشة أيضًا. فتاريخ الديمقراطية على نحوٍ ما أيضًا تاريخ تلك الدول التي تصف نفسها بأنها ديمقراطية.

يقول المؤلف إن هدفه ليس وصف تلك الأشكال، وإنما استعمال عملية التجريد الماركسية للتعرف على البنية الميكانيكية التي تقف خلف ذلك، وما ينتج عنها من صراع طبقي يسهم في إطلاقها وتشكيلها.

تحليل الدولة مهم لفهم جوهرها انطلاقًا من التعريف الماركسي لها والقائل إنها “أداة أساسية للهيمنة الطبقية، لكن وجب فهمه ضمن السياق التاريخي وليس تعريفًا صالحًا بالمطلق”.

انطلاقًا من هذه الآراء، يشدد المؤلف على ضرورة النظر إلى الديمقراطية تاريخيًا وفي مختلف أشكالها وتجلياتها، وليس التعامل معها بعيدًا عن التطور التاريخي للمجتمعات الإنسانية وأنماط الإنتاج، كما يفعل الليبراليون الذين يدعون أنها نتاج عمل الكثير من المفكرين النظريين الليبراليين الذين كانوا يبحثون عن أفضل شكل للدولة.

الديمقراطية التشاركية

آخذًا في الاعتبار المشاكل الكبيرة التي تواجه التطور الرأسمالي، خصوصًا بعد زوال ما سمي الخطر الشيوعي الذي ثبت أنه ليس بخطر إطلاقًا، يشدد المؤلف على قناعته بأن المستقبل للديمقراطية التشاركية الاشتراكية التي تشكلت على نحو برعمي في كومونة باريس وتطورت على نحو ما بعد الثورتين الروسيتين البرجوازية عام 1905 والبلشفية عام 1917، وأن هذا الشكل هو الأفضل للبشرية. حجته في هذا الاستنتاج أنها تسمو على الديمقراطية الأثينية والديمقراطية الليبرالية.

ماذا بعد؟!

عند النظر إلى الديمقراطية نظرة تاريخية في تطورها منذ العهد الإغريقي، يتبين -من وجهة نظر المؤلف- أنها ليست فكرة مجردة ولا حلما فلسفيا طوباويا، وإنما هي حقيقة وصلت إليها القطاعات الأوسع من الجماهير الكادحة عبر عملية ثورية للمجتمع والمؤسسات السياسية التي تحكمه.

وهذه الديمقراطية التشاركية تُبنى من أسفل إلى أعلى، ولا يمكن فرضها من فوق على الشعب، بل يتم التوصل إليها عبر المشاركة الشعبية في عملية الحكم بدءًا من المجالس المحلية وحتى مختلف قطاعات الإنتاج.

الكتاب يجادل في قضايا فلسفية ويستشهد بكثير من الاقتباسات المؤيدة والمعارضة من المعسكرين الفكريين الرئيسيين. وبالإضافة إلى ما قيل، تكمن أهمية الكتاب في أنه ينعش ذاكرتنا بتاريخية المصطلح وتوضيح مختلف تجلياته في الواقع كما وصلنا، وبالتالي توضيح خطأ تجريده من جذوره التاريخية الضاربة في عمق التاريخ البشري.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى