صفحات الثقافةمحمد العطار

تجربة أنتيغون السورية في بيروت/ محمد العطار

 

 

في مطلع الصيف الماضي، بدأت رحلة أنتيغون في مخيمات النزوح السوري في بيروت. ابنة أوديب، المفجوعة بمقتل شقيقيها بعد أن تواجها في الحرب، دفعت حياتها ثمناً لإصرارها على دفن أحد الشقيقين الذي أمر الملك كريون بأن تترك جثته في العراء عقاباً له على تمرده. هذه هي أنتيغون سوفوكليس، أميرة ثيبة، إحدى أعظم الشخصيات التراجيدية الإغريقية. لكن من هي أنتيغون اليوم؟ كيف يمكن تراجيديا سوفوكليس أن تكون مدخلاً لقراءة المأساة السورية عبر أصوات نساء سوريات في الشتات؟

كانت هذه الأسئلة الأولى التي حرضت رحلتنا المسرحية في بيروت، أقرب المدن وأبعدها في آنٍ عن سورية، في أزقتها الأكثر بؤساً، في مخيمات صبرا وشاتيلا والبرج، وبين وافديها الجدد، بدأ العمل على إعادة تأويل تراجيديا سوفوكليس مع مجموعة من أمهات وأخوات وزوجات سوريات. بالطبع فإن أنتيغون سوفوكليس، كما أنتيغونات جان أنوي وبرتولد بريخت وشيموس هيني وآخرين، كن حاضراتٍ معنا على الدوام. لكن الحق أننا لم نكن مشغولين بالبحث عن اقتباسٍ كلاسيكي آخر، كنا ننشد أجوبةً لأسئلةٍ جديدة علّها تُساعدنا لنبلغ فهماً أفضل لأحوالنا المعقدة كسوريات وسوريين اليوم. هل نحن حقاً محكومون بنهاياتٍ مأسوية لأننا حاولنا تغيير ما بدا طويلاً أنه أقدارنا الراسخة في هذه البلاد؟

من هي أنتيغون اليوم وما هو صراعها؟ كم كريون تواجه؟ ومن هم هؤلاء «الكريونات»؟ ألا تملك أنتيغون وجوهاً متعددة لحكايتها، وكذلك تفعل بقية شخصيات النص؟ من يروي حكايتنا اليوم؟ هل هناك حكاية واحدة؟ أم إننا نملك سردياتٍ عدة عن الثورة، الحرب، الألم والأمل؟

إن كانت أنتيغون سوفوكليس، كمثالٍ بهي للبطل التراجيدي، خسرت كل شيءٍ إثر إصرارها الهائل على مواجهة السلطة، إلا أنها نجحت في نقل روايتها عن الحرب وعن خراب المدن والروح. انتزعت حقها في أن تروي التاريخ من وجهة نظرها، بقي صوتها مجلجلاً حتى اليوم. كنا موقنين أننا سنلتقي بأنتيغونات مثلها، يغالبنَ ظروف الشتات القاسية، صابراتٍ على جراح الحرب وخسارة الأحبة، يملكنَ أصواتاً بديعة وخاصة، يحفظن ذاكرتنا ويحفظن لنا الأمل أيضاً.

وكان أن التقيناهن منذ الزيارات الأولى للمخيمات، في الأزقة الرطبة بين البيوت المتلاصقة التي تعرّش عليها أشرطة كهرباء تمتد بشبكات عشوائية. ربما فاقت ظروف معيشتهن توقعاتنا سوءاً، لكن اللقاءات الأولى تلك بما حملته من أسئلة مزجت الفضول بالتردّد، حملت أيضاً بوضوح رغبة معظمهن بأن يشاركن في صناعة عملٍ مسرحي. لم يعرفن المسرح من قبل، ولم يعرفن أنتيغون بالتأكيد، لكنهن كن يدركن أنهن يملكن حكايات تستحق أن تُروى وأن تُسمع.

في نهاية شهر آب (أغسطس) الماضي، كان لقاؤنا الأخير في مخيم شاتيلا، لنقرر متى سننطلق بالعمل، في ذلك اليوم القائظ، حيث روائح القمامة توخز الأنوف بقسوة، وحيث لا كهرباء كما العادة، كان جلياً أن أياً من النساء اللواتي حضرن لا تنوي أن تسمح لحدود المخيم أن تُطبق على روحها أو حلمها.

وكانت البروفة الأولى في 19 أيلول (سبتمبر) الماضي. «شو هي المسرحية؟»، «مين هو الجمهور؟»، «رح نحكي سياسة؟»، «رح نحكي عن أوضاعنا بلبنان؟». شغلت هذه الأسئلة النساء في الأيام الأولى. النظرة إلى المسرح بوصفه شديد الارتباط بقضايا اجتماعية وسياسية، كان سابقاً على اطّلاع النساء على نص أنتيغون الذي سيتعرفن إليه في البروفات اللاحقة. هذا الإدراك العفوي لجوهر المسرح وطبيعته القائمة بالأساس على علاقة مباشرة بين المرسل والمتلقي، سيجعل من هذه التجربة رحلة تعلم لنا نحن أيضاً كمسرحيين محترفين.

دهشة النساء الأولى في اكتشاف هذا العالم الجديد المسمى مسرحاً، وأسئلتهن البسيطة والمباشرة عن التمثيل، وعن الحكاية والزمن في المسرح، والعلاقة بين حيز اللعب وحيز التلقي، كانت تدفعنا إلى إعادة التفكير بمسلماتنا الراسخة عن أدواتنا وفهمنا لطبيعتها ودورها اليوم. عملية التعلم المتبادل بيننا وبين النساء بقيت الأساس عبر رحلة ناهزت ثلاثة أشهر. في وقتٍ متزامن وكمجموعة واحدة كنا نتعرف إلى إمكانات جديدة للمسرح، وإلى حكاية أنتيغون، لكننا أيضاً وقبل كل شيء كنا نتعرف إلى سورية، بلدنا الممزق، الذي يبدو يوماً بعد يوم عصياً أكثر على الفهم.

حملت النساء معهن إلى البروفات، حكاياتهن، قصص فقدان الأبناء والأشقاء والبيوت التي بنيت بعرق الجبين، وصوراً ساحرة لبلداتٍ موزعة على طول سورية وعرضها، من ريف حلب إلى ريف حماة إلى ريف دمشق ومخيم اليرموك وصولاً إلى درعا. حملن أيضاً دموعاً سخية في مقابل كثير من الضحكات التي كانت تذكرنا على الدوام بأن «أنتيغوناتنا» كن متشبثات بالحياة وبمعاندة اليأس.

فقدت الحاجة فدوى ابنين في عامٍ واحد، وكذلك فقدت هبة شقيقين في ظروفٍ مأسوية، فيما فقدت منى طفلاً بسبب المرض، أما انتصار فبعد مقتل والدها لا تزال تنتظر أي خبر عن شقيقها المعتقل منذ شهور. جميعهن أُجبرن على ترك منازلهن، منهن من غادرها وهي ركام. لكنهن جميعاً لم يظهرن نيةً للاستسلام للقنوط في أي وقتٍ قريب. تكتب وفاء رسالة حب عذبة، وتضحك ربى وهي تتحدث عن تصميمها على مواصلة عملها الجديد الذي انتزعت الحق فيه، على رغم رفض والدها الأمر في البداية. فيما تعاهد ولاء والدها المتوفى بأنها ستواصل دراستها، ولن تسمح للموت ولا للتهجير بأن يكسراها. زكيّة، راعية الغنم من ريف حلب، تبتسم في كل مرة تخبرنا فيها أنها ستعود إلى بيتها لترعى الغنم في أراضٍ لا تعيقها حدود.

مع تقدم البروفات، باتت أصوات النساء أكثر قوةً، ثقتهن بأنفسهن ازدادت، وتوقهن أصبح أكبر لمشاركة قصصهن وإخراجها إلى العلن لتقطع مع غصاتٍ بقيت عالقة طويلاً في الصدور. بات جلياً لنا أيضاً أن هذه القصص ستكون أساس العرض ضمن قصة إطار مثلتها حكاية أنتيغون.

كانت أنتيغون والشخصيات الأخرى في النص، مدخلاً للنساء ليروين حكاياتهن على ضوء التفكير بشخصيات مسرحية تتقاطع معهن في المآزق والصراع والطباع أحياناً. بمرور الوقت، دفعت النساء بحكاياتهن نحو الواجهة لتتراجع حكاية أنتيغون، فقصصهن تخبر عن أحوالنا الآن. لا معنى كبيراً لأن نبقى أسرى ماضٍ تمثله أنتيغون. أدركنا سويةً أن الأهم هو أن نخبر عن نضال تخوضه النساء اليوم في وجه طبقات من الاستبداد والظلم، الذي لا يمثله النظام السياسي فحسب، بل أعرافٌ اجتماعية راسخة في مجتمعٍ ذكوري مُهيمن، وظروف اقتصادية بالغة القسوة، في ظل احتضانٍ فاترٍ لمأساتهن في بيروت المدينة التي لم تتعافَ بعد من آثار حرب أهلية طاحنة. «أنتيغوناتنا» كن يخضن هذه المواجهات مجتمعةً اليوم. لكنهن لم يكن أميرات، بل نساء مكافحات يشاركن في إعالة أسرهن.

سكنت أنتيغون قلوب النساء خلال البروفات، حتى أولئك اللواتي أدركن أنهن أقرب إلى ضعف أختها أسمينا. لكنهن جميعاً أدركن أنهن لا يملكن ترف جنوحها الصاخب للموت، فبعكس أنتيغون التي انتهت حكايتها وطويت، فإن حكاياتهن لا تزال قائمة، لم تكتب فصولها الأخيرة بعد. ما زلن يتشبثن بالأمل، يناضلن لأجله، هذه أصعب فصول حكاياتهن التي ينوين كتباتها، لكنها قد تكون الأجمل أيضاً.

 

> «أنتيغون» إنتاج «إبيرتا برودكشن»، إخراج: عمر أبو سعدا، اقتباس ودراماتورجيا: محمد العطار. تدريب ممثلين: حلا عمران. تعرض على مسرح المدينة في بيروت، أيام 10 – 11 – 12 كانون الأول (ديسمبر)، الساعة الثامنة مساء.

* مسرحي سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى