صفحات الثقافة

ترميم خمسين ليرة سورية/ مناهل السهوي

 

 

وضعت الخمسين ليرة أمامي، وسطها مشوّه وممزق، التمزق حاصلٌ قريباً جداً من الرقمين الفخاريين، الرقم الأول دائري والآخر مستطيلٌ لأول أبجدية، سويتُ الثقب بيدي، رددتُ الأجزاء المتباعدة ووضعت اللاصق بعناية، صار من الممكن رؤية اللوحين جيداً، حسناً الأمر لا يتعلق بالحاجة لهذه الخمسين ليرة والتي في أفضل حالاتها تكفي لشراء بوظة من النوع الرديء، أو أجرة ركوبك سرفيس جرمانا_باب توما، إنها عملية جراحية تعني أن أحفظ الألواح وأحفظ قلبي والبوظة الرديئة والطريق من جرمانا إلى باب توما، أن أحفظ الورقة النقدية من كلّ الباعة وسائقي الباصات الذين ناولتهم إياها فأمسكوها من زاويتها، هزوها جيئةً وإياباً ثم رددوا ببرود (ما بتمشي)، أعلم أنّها لا تصلح لشيء وأن الثقب وسط اللوح الأوغاريتي هو المشكلة وأنهم لن يدركوا أن من جعل هذه الورقة بهذا الحال هم الفقراء وحدهم، وهم يركضون خلفها، يتناقلونها، يدسونها في جيوبهم المتسخة، هم المعنيون بالورقة النقدية من فئة الخمسين ليرة، الأغنياء لا يشترون البوظة الرديئة ولا يركبون السرافيس بمقاعدها المتأرجحة ولا يساومون السائق على ورقة نقدية مشوهة، أذكر جيداً نظرة السائق حين ناولته إياها وأنا أعلم أنه لن يأخذها، كيف نأخذ نقوداً لا تصلح لشيء ولا حتى لندسها في جيوبنا، احتدم سرِيعاً وباغتني بأنه كلّ يوم يتلقى عشرات الأوراق من فئة الخمسين والتي لا تصلح لشيء وأنه مستعدٌ ليوصلني مجاناً على أن يأخذها، رددت ورقتي للحقيبة وناولته قطعة أخرى، متماسكة وجديدة، توجه نحوي بثقة: (هااا يعني كنتي بدك تعطيني الخمسين القديمة وتضحكي علي!)، ابتسمت وقلت له (لكن الأمر لم ينجح)، السائقون أذكى من الركاب فيما يتعلق بتبادل الأوراق النقدية المهترئة.

في الحقيقة لم أكن أودّ أن أضحك عليه،  فأنا أعلم أن هذه القطعة لن تصلح لشيء بعد الآن، كنتُ أحتاج فقط أن أرى وجهه المحتدم، كيف انقلب فجأة للزهو حين نجا من عملية احتيال مؤكدة بقيمة خمسين ليرة سورية، خمسين ليرة ثمن وضع مؤخراتنا على الكراسي المتأرجحة، حين نزلت من السرفيس نظر إلي مردداً بذكاء (لا تظني أن سائقي السرافيس أغبياء ولا يميزون الراكب الذي يودّ أن يضحك عليهم، ربما لا نملك شهادات جامعية لكن ما مرّ علينا من أوراق نقدية مشوهة جعلنا نفهم الحياة جيداً)، هززت رأسي موافقة وتابعت الطريق وأنا أفكر أن هذه الخمسين سترافقني طويلاً، سأحتفظ بها، فأنا الوحيدة التي رممت ثقب اللوح الأوغاريتي وعلمتُ أن المشكلة ليست في تمزق قطعة نقدية إنما في تمزق لغة كاملة وأحلام كاملة وشعوب كاملة، ابتسمتُ، أصبح الآن لدى السائق قصة أخرى سيرويها هذا المساء لزوجته عن فتاة كانت ستحتال عليه بخمسين ليرة مهترئة، نفس الفتاة التي ستكتب قصة عن الخمسين ليرة وعن اللوح الفخاريّ الذي رممته بشريط لاصق.

*شاعرة من سورية

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى