أنور بدرصفحات الثقافة

هجرة المثقفين السوريين والخوف من الحرب الأهلية


هناك من صمت وهناك من يشارك في التضليل:

دمشق ‘القدس العربي’ ـ من أنور بدر: ذات يوم ما أعددّت للفضائية السورية مجموعة أفلام قصيرة بعنوان ‘أصواتهن’ عن مجموعة متميزة من الأصوات الشابة في سوريا واللّواتي امتلكن موهبة الصوت الجميل إن صح التعبير، وأتيحت لهن فرص تدريب وتثقيف أوصلتهن إلى دراسة فن الغناء الشرقي أو الأوبرالي الغربي، لكن مؤسسات الثقافة والإعلام التي أهدرت كل طاقات الإبداع في مجتمعنا لم تكتشف لهنّ دورا بعد في فضائها الفني، باستثناء بعض الاحتفالات التي تأخذ طابعا استعراضيا تتباهى فيها تلك المؤسسات بأنها تمتلك دارا للأوبرا في سوريا، وبأنها تستطيع تقديم تلك الأصوات ضمن حفلات جماعية أو فردية.

ومن بين تلك الأصوات المتميزة حقيقة كانت لينا شماميان التي التقيتها لاحقا في أكثر من حفل، واكتشفت كم تعمل بجد على تطوير الموسيقا والأغنية العربية بالتعاون مع الموسيقار وعازف الساكسفون باسل رجوب الذي لحن لها ألبومها الغنائي الأول ‘ها الأسمر اللون’ عام 2005 وتابعت معه في ‘شامات’ عام 2007 إلى جانب العزف في كل حفلاتها الفنية، لكن تجربة لينا الفنية بدأت في سن مبكرة حيث أحيت أول حفل غنائي في الخامسة من عمرها، وظلت وفية لهذه الموهبة حتى بعد تخرجها من كلية الاقتصاد عام 2002 إذ قررت الانتساب للمعهد العالي للموسيقا، حيث درست الغناء الكلاسيكي لكنها اهتمت أيضاً بألوان موسيقية مختلفة مثل الجاز والموسيقا الأرمنية وصولاً إلى الموسيقا الشرقية محاولةً تقديم مشروع ثقافي فني ينطلق من استعادة التراث الغنائي السوري وبعض الكلاسيكيات الشرقية بإيقاعات وتوليفات موسيقية معاصرة، تقول شماميان عن هذه التجربة: ‘حاولت إعادة الحياة لبعض الأغاني التراثية قبل أن يطويها الزمن، كونها تحمل تذكارات جيل كامل من السوريين وتعبر عن طريقة حياتهم’.

حصلت شماميان على الجائزة الثانية في مهرجان الدول الفرانكفونية، ونالت منحة المورد الثقافي في مصر لإنتاج ألبومها الأول، وعلى جائزة الشرق الأوسط من إذاعة ‘مونت كارلو’ مع الموسيقار باسل رجوب عام 2006.

شماميان هي سورية من أصل أرمني، وقد اكتشفت في تجربتي الإعلامية مع هذه الأصوات وجود ذلك الاندماج الثقافي العميق بين الأرمن في سوريا وبين ثقافة المنطقة وفنونها، ولعل أهم مطربة سورية من أصول أرمنية فقدناها كانت ربا الجمال، وأول خريجة غناء أوبرالي في سوريا كانت مدام ‘أراكس’ التي لم تأخذ أي فرصة حتى للتدريس ضمن المعهد العالي للموسيقا بالرغم من كونها أهم من ساهم بصناعة وتدريب أصوات الكثير من خريجات المعهد آنف الذكر، ويجدر بنا ذكر الصوت الذي هاجر إلى الغرب بقصد الدراسة واستقرت بين نجوم الغناء الأوبرالي هناك وأقصد ‘تالارا دمركجيان’ التي يكاد لا يعرفها حتى العاملون بالوسط الفني في بلادنا، لكنني استعرض هذه الكوكبة من الأصوات الرائعة في مجالات الغناء الكلاسيكي والشرقي أيضا الآن، لأعود إلى لينا شماميان التي ودعتنا جميعا على صفحتها في الفيس بوك عندما قررت الرحيل، وهي لم ترحل لأنها تفتقد فرصة عمل، بل لأنها قررت استمرار الانتماء إلى سوريتها المغدورة، إلى مجتمع التآخي المسيحي الإسلامي، إلى أحلام الدولة المدنية والثقافة التي لا تفرق بين أفراد المجتمع، فكتبت إلى الأب ‘الياس زحلاوي’ الذي شكل في مرحلة ما منارة ثقافية، فاحتضن في مسرح كنيسته تجارب فنية مبكرة لشباب اليسار السوري وأمسيات أدبية للشاعر ‘فرج بيرقدار’ أو القاص الراحل ‘جميل حتمل’ وغيرهم ممنلم تستطع المراكز الثقافية الرسمية أن تحتضنها في ذلك الوقت، كما صدحت في كنيسته بأجمل الأناشيد الصوفية والمدائح النبوية إلى جانب التراتيل الكنسية، كتبت شماميان إليه معاتبة ذلك النكوص الخائف من الآخر بصفته الشعب، نكوص إلى الصمت وأحيانا أكثر من ذلك في رسالته إلى وزير خارجية فرنسا ‘ألان جوبيه’. كتبت بلغة بسيطة تقول:

‘الأب زحلاوي ô

منذُ بدأتَ مشروع (التآخي) المسيحي الإسلامي مع الشيخ المرحوم حمزة شكور على المسارح .. ولم تفعلوا شيئاً لتغيير الوضع المجحف في حال الزواج المختلط الذي ترفضه كما كل رجال الدين والمتدينين في سوريا، بل وتلتفون حوله، وهو واقع قائم شاء الجميع أم أبى- والتآخي لم يكن يوماً عرضاً مسرحيّاً ô بل هو حياة اليوم السوري

أنت من علّمني أن أقول الحق الذي أؤمن به حتى وإن رذلني كل أخوتي من بني الأرض (الصوفانية كانت إيمانك وحدك واستمريت عليه رغم اتهامهم لك بالكثير، واليوم آمن بها الكثير)ô

أي حقّ في السياسة يا أبتِ ؟

أنا ضد العنف ô كل عنف .. والعنف لا يأتي يوماً من طرف واحد

نحنُ نتوسّد الدفء ليلاً ô ولنا (أخوة) تتوسد الألم والبرد في حمص أولاً وغيرها الكثير ô وهذا الألم ليس عرضاً مسرحياً

منذ بدأت تخوض غمار العمل السياسي الذي لا يقرب العمل الحق مهما كان صادقاً: ما عدت تمثلني.

لم يعد صوتك يذكّرني بصوت الله على الأرض لأنه لم يكن عادلاً ô.. بعد أن كانت جوقة الفرح مشروعك الأول أول من ذكّرني بصوت الله فيّ. خجل أصواتكم أوصلنا اليوم لكل هذا الألم ô وليغضب مني من يشاء ô فكلنا نعلم بداخلنا أننا لو كنّا مكانهم كنا احتجنا محبة رجال الدين لا تجنّبهم .. وغضب سوريا وألمها منا اليوم أكبر منا جميعاً.

الأب زحلاوي ô رجال الدين، بكل محبة / بكل حزن: سأرحل.

وأضيف: تمنيت لو أنك وجهت رسالتك إلى أمهات الشهداء أو المخطوفين أو المعتقلين أو الغاضبين أو الخائفين أو المحزونين السوريين ô بدل وزير الخارجية الفرنسي (أو إضافة إليها مثلا)’.

واعتذر أني أخذت ما كتبته شماميان على صفحتها الفيسبوكية كاملاً، لأنني وجدته شهادة ضرورية في هذا الزمن الذي تراجع فيه الكثير من المثقفين والمتنورين إلى مساحة الخوف فسكنوا التضليل وضللوا الآخرين، مثال الكاتب والسيناريست الدرامي ‘فؤاد حميرة’ الذي كتب يعترف ‘رغم يقيني أنَّ النظام لم يقدِّم إلى الآن الإصلاحات المطلوبة والمرجوَّة، ورغم يقيني أنه لن يفعل ذلك مستقبلاً، فقد قدَّم عبر جملة ما سمَّاه ‘إصلاحات’ كلَّ ما يستطيع تقديمه الآن وغداً، إلا أني في الوقت ذاته أعترف، وأنا بكامل قواي العقلية، بأنَّ تهديدات وزيرة الخارجية الأمريكية بحرب أهلية في سورية، تجعلني أقتنع بما قدَّمه النظام، ولو مؤقتاً، فإذا خُيِّرت بين ôحرب أهلية تحرق الأخضر واليابس، وجملة إصلاحات غير كافية وغير مقنعة، فلا شكَّ في أنَّ خياري سينحاز إلى الإصلاحات، خاصة أنَّ الشعب كسر حاجز الخوف وبات يعرف قيمة نزوله إلى الشارع وقدرته على تحصيل مزيد من الإصلاحات ومزيد من الحريات والمطالب’.

وأعتقد أن كثيرين يشاطرون ‘حميرة’ وسواه مخاوفهم، لكنهم يتحدثون عن ‘الإصلاحات غير الكافية’ ولا يتحدثون عن الدم المراق في مساحة الوطن، ويختارون تلك الإصلاحات على خيار الحرب الأهلية دون أن يقولوا لنا من الذي يجرّ سوريا إلى هذا الخيار المرفوض أصلاً من الجميع، وأعتقد أن ‘فؤاد حميرة ومن خلال وجوده في الوسط الدرامي يعرف أكثر من غيره كيف يجري تقسيم البلاد وتقسيم المكونات الواحدة، وربما كانت البداية بتقسيم الفنانين والمثقفين إلى موالاة ومعارضة، وهو يدرك أكثر من غيره مأساة هجرة هؤلاء الفنانين والمثقفين أو تهجيرهم خارج وطنهم، لماذا فرت زميلتك الرائعة ‘ريما فليحان’ إلى الأردن وهي ليست من العصابات السلفية كما تدري؟ ولماذا هربت الفنانة ‘مي سكاف’ أو الفنان ‘فارس الحلو’والعشرات من زملائهما خارج سوريا؟ لماذا هربت الكاتبة الروائية ‘سمر يزبك’ وغيرها؟ لماذا يهاجم بيت الروائي السوري ‘نبيل سليمان’ في قريته ‘البودي’؟ ويحرق بيت آل ‘الملحم’ في قريتهم ‘بوحكفا’؟ وكلهم كما تعلم ليسوا سلفيين ولا مسلحين يا عزيزي!

نعم هناك خوف من ‘حرب أهلية’ كما كتب الأستاذ ‘عبد الباري عطوان’ في صحيفة ‘القدس العربي’ لكنه لم يكتف بذلك بل قال: ‘حرب أهلية يجب منعها’، ولا يكون ذلك بالاستسلام للحل الأمني وسباق الدم المسفوك في كل الاتجاهات، بل بالمزيد من التلاحم بين مكونات الشعب السوري وتلويناته الغنية، يكون برفض التسلط والاستبداد وما نتج عنه، يكون بالوقوف مع ‘بيان الحليب لأطفال درعا’ ومع ‘بيان المثقفين’، يكون بالوقوف مع ظهور الممثلة وخريجة المعهد العالي للفنون المسرحية ‘فدوى سليمان’ وخروج حارس منتخب الكرامة عبد الباسط ساروت في حمص، بذلك فقط نحمي سوريا من خيار الحرب الأهلية، والتي لن تكون أكثر من ‘زوبعة في فنجان’ كما كتب الناقد ‘صبحي حديدي’.

لكنني أعود ثانية إلى المغنية لينا شماميان لأقول لها أن الحياة تتسع لكل النقائض دوما، وأرجو أن ننظر إلى صورة الأب زحلاوي الرمادية مقابل صورة الأب ‘باولو دالوليو’ اليسوعي الذي صدر بحقه قرار أمني بالإبعاد عن دير مار موسى الحبشي الذي قام بشكل شخصي بترميمه عبر السنين الثلاثين الأخيرة، ليكون مقر رهبانية نسكية سكنته منذ عام 1991، وجعل منه منارة للثقافة والمحبة وفكرة التعايش المشترك حيث ملتقى حوار الأديان التي تجتمع في بنوتها لإبراهيم الخليل. ولنقرأ ياعزيزتي ما كتبه الأستاذ ‘ميشيل كيلو’ في موقعه الإلكتروني ‘المسيحيون في سوريا هم جزء من الشعب السوري وجزء من نسيجه وليسوا طائفة… نحن لسنا طائفة ولا يجوز أن نتصرف كطائفة’.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى