صفحات سورية

تعالوا نشارك في قتل المتظاهرين!

حسام الدين محمد

تجيشت وسائل الاعلام الرسمية السورية واستنفرت استنفارا هائلا استخدمت فيه كل ما يتفتق عن اذهان مسؤوليها للدفاع عن النظام، وتبخيس قدر مظاهرات الاحتجاج، بطريقة شديدة الرمزية وشديدة الفجاجة والبلاهة بالآن نفسه.

فمن عرضها لقوافل المؤيدين المتحمسين وحاملي صور الرئيس والمرددين لشعارات الولاء له وللنظام، الى سماحها لكل من عنّ على باله المشاركة في ‘المسلسل’ ان يتحدث على هواه، بحيث وجدنا مسلسلا طويلا من الاتهامات لمندسين وعملاء، ابتدأ بمصريين (نتيجة اعتياد هذا الاعلام على الردح ضد مصر، ناسيا ربما ان ثورة حصلت هناك) ثم اردنيين وسعوديين (على شاكلة من اتصل بقناة ‘الدنيا’ وادلى بتصريح جلل يقول ان السيارات التي تتجول في شوارع المدن وتطلق الرصاص هي سيارات سعودية واردنية مموّهة!)، وفلسطينيين، واسرائيليين وامريكيين واخوان مسلمين واتباع خدام وسعد الحريري وانصار القاعدة وقناصة غامضين مهمتهم اصطياد رجال الأمن، وصولا اخيرا الى الامارات السلفية المزعومة.

سردية اعلان الإمارة السلفية هذه التي تستخدم في كل مكان تحصل فيه احتجاجات مدنية واسعة في مدينة او قرية سورية، تفترض المنطق السوريالي التالي: نحن قادمون لنذبحكم لكننا نريد عذرا فيجيب الاهالي: نعلن اذن امارة سلفية لنبرر ذبحكم لنا.

المؤلم في الموضوع ان يرد اعلان هذه الامارة السلفية او تلك على قناة حزب الله ‘المنار’، كأن حزب الله ليس حزبا سلفيا او ان الضاحية الجنوبية لبيروت ليست امارة سلفية، او كأن السلفية صارت الاسم الحركي للمتظاهرين في سورية فحسب (رغم ان الاحتجاجات في سورية شارك فيها مواطنون من كل الطوائف بما فيها الشيعة والاثنيات)، او كأن ‘الشبيحة’ لا تحركهم ايديولوجية سلفية هم ايضا.

لتزيين هذه الجرائم تستضيف القناتان السوريتان الرئيسيتان ‘السورية’ و’الدنيا’ شيوخ دين مسلمين ومسيحيين وفنانين و’محللين استراتيجيين’ من فقهاء الكلاملوجيا اللبنانيين وغيرهم للتعبير عن ولاء الشعب للسلطات واستنكار الفتنة التي يقوم بها الارهابيون المجرمون، والتي يذهب ضحاياها الابرياء من عناصر المخابرات والأمن والشرطة.

اطلاق المسؤولين السوريين و’الجمهور’ المشارك التصريحات حول التورّط الاجنبي في الاحداث (الذي يدعم العصابات السلفية المسلحة في الداخل) رافقه بعض الأحداث الخارجية هي ايضا ذات مغزى منذ بدء الانتفاضة السورية: اطلاق حركة الجهاد الاسلامي صواريخ غراد باتجاه الداخل الفلسطيني (تبعه رد وحشي اسرائيلي قتل 8 اشخاص بينهم 5 اطفال)، وزرع قنبلة على موقف باصات ادى لمقتل اسرائيلية وجرح 40 آخرين، واختطاف سبعة دراجين استونيــين في لبنان، ووضع قنبلة عند كنيسة في مدينة زحلة بالبقاع اللبــــناني، واخيرا وليس آخرا نقل مئات الفلسطينيين الى الحدود السورية مع فلسطين المحتلة لعبور هذه الحدود للمرة الأولى منذ عام 1973 (وهو أمر هلّلت له وسائل الاعلام والاقلام لكن لم يسأل احد لماذا استــفاقت السلطات السورية على هذا الأمر بعد 40 عاما من النوم، وما معنى ترافق ذلك مع نكبة سورية مصغــرة في بلدة تلكلخ السورية المنكوبة، التي أدت لآلاف من النازحين السوريين للبنان).

في تفاعلات الداخل والخارج يبدو المشهد سورياليا تتقابل فيه اتهامات اعلامية سورية (تكاد تكون عنصرية) مطلقة العنان ضد فلسطينيين ولبنانيين، في الوقت الذي يقوم فيه هؤلاء الفلسطينيون واللبنانيون بتخفيف الحمولة السياسية ضد النظام السوري، من خلال تصريحات عنيفة او احداث تهدر فيها دماء فلسطينيين بالدرجة الأولى، لتنضاف الى دماء السوريين الابرياء التي لم تنقطع منذ بدء الأحداث السورية الحالية.

الكوميديا السوداء في مسألة اتهام الايادي الاجنبية لا تنبع فقط من تكرار هذا اللحن الذي لا ينفك عن العودة منذ عشرات السنين، والذي أفرطت الانظمة العربية في استخدامه لسبب او لغير سبب، ولكن من تناقضها الفاضح مع الايديولوجيا الافتراضية التي يسمعها السوريون منذ نعومة اظفارهم منذ نصف قرن، وهي ايديولوجيا قومية عربية لا تفرق بين عربي وعربي الا بالتقوى (للسلطات).

اذا افترضنا علاقة بين ما يحصل داخل وخارج سورية من بطش بالمتظاهرين وما قامت المخلوقات الفضائية به من تأجيج للوضع في الساحتين الفلسطينية واللبنانية (اضافة الى الاتهامات لمصريين واردنيين وسعوديين ولبنانيين)، فهذا يوجه رسائل شمشونية لاسرائيل، بأن المعبد قد ينهدم فوق رأسها لو رفعت الغطاء عن النظام السوري، وبأن تنظيمات لبنانية وفلسطينية جاهزة للتحرك حالما يعطي النظام اوامره.

الاتصالات الداعمة التي جاءت للحكم في سورية من ايران ومن عدة دول عربية مجاورة تدلّ على شبكة العلاقات المعقدة التي نسجها النظام، كما يعرف الاعلاميون العرب اليد الطويلة للنظام اكثر من غيرهم، سواء تذكروا مصائر صحافيين معارضين لهذا الحكم، مثل جبران تويني وسمير قصير وسليم اللوزي وغيرهم، او تأملوا في ما جرى مع الذين ازيحوا عن مناصبهم (وهم كثر) في مجلات او جرائد سعودية او خليجية بعد مكالمة هاتفية من احد المسؤولين السوريين الغاضبين من مقالة او مقابلة.

هذه العلاقات القوية مع الأنظمة العربية لا تقوم على مبدأ التعاضد السلطوي فحسب، بل يقوم جزء منها على نوع من البلطجة تخصص فيها النظام في سورية بشكل استثنائي؛ بلطجة تسمح له بتجاوز اي قانون او منطق في تعامله مع افراد او جماعات او أنظمة.

تتكامل شبكة علاقات التعاضد والبلطجة بين الانظمة مع شبكة اخرى تعتمد عليها السلطات في سورية هي شبكة الرعب التي انزرعت في قلوب المواطنين السوريين والعرب (وهي تتجاوز اللبنانيين والفلسطينيين والاردنيين الى اغلب الجنسيات العربية)، والتي تقوم على ذاكرة طويلة من العسف الذي لا تحده حدود ولا يلتزم الا بقانون الانتقام، ان لم يكن من الشخص نفسه، فمن عائلته، او ارزاقه واملاكه او سمعته.

وهو ما يضع اصحاب الضمائر عربا كانوا ام سوريين في مأزق اخلاقي كبير. فهذا الوضع هو اشبه بفضيحة عظمى لا يمكن تصديقها، والسكوت عنه ليس الا مشاركة ضمنية في هذه الفضيحة تساهم في تقوية سور الارهاب والرعب الكبير الذي يحيط بسورية وشعبها، بشكل مباشر او غير مباشر.

بالمقابل فان الكلام سيحــــمّل المتكلم مسؤولية وتبعات كبيرة، وقد يؤدي، في وقت تستأسد فيه الأنظمــــة على منتقديها ايما استئساد، انتقاما شخصيا منـــه، بأشكال يعرفها الجميع، ولا أعلم شخصا نشر مقالا او ساهم بشكل او بآخر في فضح شبكة البلطجة هذه الا وتلقى تهديدا او ضغطا بطريقة او اخرى.

الحراك الذي تشهده سورية حاليا لا يتمثل في ما يحصل على الأرض فحسب، بل كذلك في ما يحصل داخل كل شخص سوري، حيث يعاني كل فرد من صراع داخلي اساسي بين الخوف الذي تكدّس عبر العقود الماضية، والرغبة في الكرامة والعيش بحرية، كما تعيش اغلب شعوب العالم، والمعركة على الأرض لا يمكن ان تنحسم اذا لم يحسم كل فرد هذه المعركة ويعرف انه جزء اساسي منها، وان اختباءه او تأخره ليس الا مشاركة في ذبح اخوته وشعبه.

الأمن الذي يتفاخر النظام في سورية بأنه قدّمه للمواطن كان أمنا قائما على الخوف، والغريب ان ما يقدمه النظام لاقناع الناس بالوقوف معه لا يقوم الا على نوع آخر من الخوف: انا او الفوضى، انا او السلفية، انا او التدخل الخارجي، بحيث لا يجد تعريفا لبقائه واستمراره الا الخوف والتخويف.

… ونظام لا ينتج الا الخوف لا يمكن ان يستمر.

‘ كاتب من أسرة ‘القدس العربي’

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى