صفحات الثقافة

توماس ترانسترومر حائز ‘نوبل’ هذا العام: شاعر الصمت والعمق.. والزجاج!


ابراهيم درويش

ظل توماس ترانسترومر ينتظر جائزة نوبل لاكثر من عقدين، فقد حاز على معظم الجوائز الادبية في اسكندنافيا والعالم.

واعماله المترجمة الى اكثر من ستين لغة تشهد على اهمية صوته الشعري وتجربته، وهناك بالانكليزية اكثر من ترجمة لاعماله، بل قلدت اشعاره من شعراء امريكيين، وحظي الشاعر السويدي بدراسات نقدية مهمة في مجلات الادب العالمي والشعر، وله نقاده الذين يتابعون اعماله، وتجاوز ما اسماه بـ ‘حاجز الحقيقة’ حيث ظل حاضرا في نقاشات الشعر، ومشاركا في مهرجاناته وممثلا لبلده السويد، وقضى حياته مسافرا ومتجولا في العالم، وتحمل اشعاره ملامح رحلاته، وتحضر الوجوه التي قابلها فيها، من بنين الى امريكا والى تايلند والعالم العربي، اضافة لامريكا وبريطانيا وفرنسا.

ومع ان الاحتفاء الاخير به قوبل على الاقل في بعض الدوائرالادبية في امريكا وبريطانيا بمشاعر متناقضة بين من اعتبرها استحقاقا تأخر للشاعر وبين من رأى فيه شاعرا مغمورا شعره لا يتمتع بعالمية وسيكون مثله مثل نظرائه ممن كرمتهم لجنة نوبل من دول اسكندنافيا، التلاشي والنسيان بعد تعرضه للضوء، ولكن المدافعين عنه دافعوا عن صوته الشعري المهم في حركة الشعر واهمية نظرته للحياة والوجود والقوى التي تشكل هويته، وفهمه للطبيعة الانسانية باعتباره محللا نفسيا بالمهنة.

شاعر هروبي؟

ولعل التحفظ نابع من موقف النقاد من شعره حيث خلا خاصة ما كتبه في مرحلة الستينات والسبعينات من اية ملاحظات للقضايا الاجتماعية والسياسية، وصنفت اعماله انها مجرد نظرات شاعر هروبي لا يهمه الا الكتابة لنفسه، والنظرة هذه لاعماله وان جاءت من احتفاء الشاعر بالطبيعة بما فيها من تلال ووهاد وانهار وغابات، وكذا اهتمامه بالموسيقى والرسم اللذين يحضران في قصائده، مما حدا بالبعض لاعتباره شاعرا رومانتيكيا، لكن هذه النظرة تغفل تطور التجربة الشعرية لترانسترومر من ناحية التجريب الدائم والاحتفاء باللغة العادية، وهذا واضح من سهولة ترجمة مفردته الشعرية، ونظرا لسلاستها فهي تطرح على الكاتب عددا من الاستراتيجيات للترجمة، ولهذا نجد تنوعات وصورا لترجمة بعض اعماله التي يقدم كل مترجم خصوصية للقصيدة تختلف عن الاخرى، وهذا واضح في ترجمة لقصيدة ‘لصديق خلف الجبهة’ حيث قدمت مجلة ‘الادب العالمي اليوم’ اربع ترجمات للانكليزية كل واحدة تختلف عن الاخرى في المفردات الشعرية والنظرة العامة للايقاع. فترجمة الشعر كمفردة سهلة الى حد ما ولكن ما يهم في النهاية هو نقل ايقاع القصيدة ونبضها.

يوتوبيا اللحظة

المهم في كل هذا ان شاعرا كترانسترومر اخترق ما اسماها هو نفسه في قصيدة من قصائده حدود الحقيقة، وهو شاعر يتسم شعره بالغنائية القريبة من السريالية مما جعل الكثيرين من اتباعه يتساءلون عن سر انتشاره عالميا، ولعل ما قاله شاعر اوكراني يصف سبب انتشار شاعر وتواضع شهرته من منظور ديني، فهذا دين له اتباع قليلون لا يتعدون المئات، واخر يمتد على مساحة الكرة الارضية والتفسير غير واضح وملغز، صحيح ان ترانسترومر مسيحي لوثري لكن من يقرأ شعره يجد ان الدين ليس عاملا في رؤيته الشعرية وان حضر فلغرض شعري، وصف روبرت بلي، صديق الشاعر ومترجم بعض اعماله ترانسترومور بانه شاعر ‘الصمت والعمق’ فيما تمادى اخرون ووصفوه بانه ‘الشاعر الابله’، ووجه الوصف ان ترانسترومر هو شاعر يهتم بالهامشية، وما يقال ان شعر ترانسترومر خال من النزعة الاجتماعية قدر اهتمامه بالفن والرسم والعزف الموسيقي ـ فهو عازف ماهر على البيانو- لا يرى في عمق القصيدة التي ينتجها الشاعر، ومقارنة مع تجربته الشعرية الطويلة التي بدأت في الستينات فهو شاعر مقل ليس لانه لم يشرك الشعر بعمله ومهنته كمحلل نفسي، ولكن لانه يتعب على قصيدته ويجهد نفسه في التوصل الى الخارج والداخل في النفس الانسانية، ليصل في القصيدة الى ابعاد ميتافيزيقة ويوتبيا لا علاقة بالمعنى الذي تكون في الرؤية الغربية منذ توماس مور، فيوتوبيا ترانسترومر هي ‘يوتوبيا اللحظة’ النابعة من الشخصية والوقتية والحيزية، وفي حالة ترانسترومر الشعرية فانها تتخلق مرة اخرى او تشكل نفسها لتصبح لحظة من الوحي او لحظة من الرعب.

لحظة الحداثة

وترى دراسة لكل من لارس غوستافون وهيلينا تاكر وويليام ريغان ان هذه اللحظة الجمالية التي تبدو عند نيتشة وبودلير ومالارميه وكذا عند ترانسترومر ومثل الكتاب لهذه اللحظة الجمالية او اليوتوبيا في قصيدته ‘النافذة المفتوحة’ ‘في احد الصباحات حلقت واقفا/ قرب النافذة/ في الطابق الثاني/ ادرت آلة الحلاقة/ بدأت تطنطن/الازيز الثقيل الثقيل/تحول ازيزا/ كبر وصار هليكوبتر/ وصوت، الطيار اخترق/ الصوت، صارخا/ ابق عينيك مفتوحتين/ لانك ترى هذا للمرة الاخيرة’. ويرى الباحثون ان اللحظة اليوتوبية او الجنة المفقودة تحتاج الى نقطة مرجعية وهذه محكومة بذكريات الطفولة وهذه لا علاقة لها بالطفولة، بل بلحظة البراءة والرعب التي ترافق الطفولة، وحتى هذا الفهم عن الطفولة وان ارتبط بعملية امتلاك حالة البراءة بل المفهوم عنها. ومن هنا فعمق القصيدة عند ترانسترومر وان نبعت من التردد بين البداية والنهاية ‘حقيقتان تتقدمان نحو بعضهما البعض، واحدة تأتي مع والاخرى جاءت من بلا، وفي مكان اللقاء، اهتبل الفرصة، كي تنظر الى نفسك، ولاحظ ما سيحدث، وستصرخ من عمق روحك، توقف، اي شيء اي شيء طالما لا اعرف نفسي’.

الحرية والموسيقى الكلاسيكية

ترانسترومر وان عاش في الداخل يكتب الشعر ويعزف الموسيقي ويراقب الطبيعة فهو مسافر ايضا كما لاحظنا، ولكنه يحاول ان يضع الشعر، اي يفهم مهمة الشعر من ناحية عاديته وكون الشاعر نفسه واحدا ‘منا’، اي انه يشاركنا الحياة اليومية وقلقها ولكن لديه ميزة انه قادر على النظر بعمق. وعليه فترانسترومر في شعره ناقد للحياة اليومية واشكالها ولكن ليس بطريقة مبتذلة او مباشرة، فهو قادر من خلال رؤيته الشعرية ومفهومه ان يحول الان واللحظة الرمادية التي نعيشها الى دفقة من الجنة. قدرة الشاعر على تحويل العادي الى سحري متعددة، فالغابات تغوص في العتمة وليل الصيف يصبح مصباحا ازرق،والجزر ترتعش مثل الفراش، والكتب القاتمة في صندوق الكتب القديم تصبح جزائريين بجوازاتهم ينتظرون نقطة عبور فرايدخستراس. يستعين ترانسترومر على تحقيق عالمه اليوتيبي بالموسيقى لانها تحقق ما يطمح الشاعر لانجازه.ونعود مرة اخرى الى مشروع الشاعر الشعري، ففي داخله وان لعبت المفردة عاملا ولم يوجد الشعر بدونها لكن الكلمة لا تستطيع نقل مشاعر العالم وتظل قاصرة عن فهم لغة الاشياء ‘متعب من كل من يأتي بالكلمات/ كلمات وليس لغة/ ذهبت الى جزيرة مغطاة بالثلج/ البرية ليس عندها كلمات/ فرشت الصفحات غير المكتوبة نفسها في كل الوجهات/ وجدت على الثلج اعقاب حوافر غزال اليحمور/ لغة ولا كلمات’. المفردة او القاموس الشعري غني بالاشارة الى الزجاج كوسيلة تعر وتظهر الداخل الانساني والجدار كعازل للانسان عن العالم وحام للخصوصية وفضاء للابداع والقهر والحزن والفرح، ولكن قبل هذا اريد الاشارة الى ان هم الشاعر ظل على الرغم من الحواجز التي تقف امام الروح الانسانية هو ‘فتح’ مغاليقها وازالة العوائق والحواجز من طريقها للتحرر، ففي مقابلة اجريت معه عام 1982 قال معلقا ان ‘الوجود معلق بقرارات الاخرين… الذين يضعون الكلام في فمك، ويقررون ما يجب ان تراه، وهذا واضح في الانظمة الشمولية ولكن ايضا واضح في الديمقراطية، ومع ذلك هناك تصدعات خفيفة، صمامات امان، ودور القصيدة هو رعاية هذه الشقوق، وان تبقي عليها مفتوحة’. وحتى نحافظ على الحرية التي ينشدها الشاعر لنا وعلى وجودنا كمجتمع واناس يحاول ترانسترومر ان يوجد لنا عبر هذه الشقوق وسائل للراحة من هذا الوجود اللعين، ملاجىء او مهرب، ويقترح الموسيقى الكلاسيكية كوسيلة للهروب واللجوء، وهذا واضح في قصيدته ‘اليغرو’ التي كتبها عام 1962 ‘اعزف هايدن بعد يوم اسود/ واشعر بدفء خفيف في يدي/ اصابع البيانو طيعة، صوتها مثل ضربة مطرقة خفيفة/ الصدى اخضر، حي وهادئ/ الموسيقى تقول الحرية موجودة/ ولا احد يدفع الجزية لقيصر/ ادفع يدي الى جيبي هايدن / واقلد، شخصا ينظر للعالم بهدوء/ ارفع عالم هايدن، هو يرمز الى / ‘لا نستسلم ونريد السلام’/ الموسيقى في بيت زجاجي على منحدر/حيث تطير الحجارة وتتدحرج/ وتتدحرج الحجارة، ولا تتفتت’، في ‘اليغرو’ مقاومة سلمية، تتم عبر اللجوء الى الموسيقى، وهذه ايضا موجودة في قصيدته ‘ حاجز الحقيقة’،التي تتحول فيها الموسيقى الى معنى بطولي ‘هذه الموسيقى بطولية، تقول آني، وهي محقة’.

نيويورك مدينة الزومبي

يمكن فهم المقاومة كنوع من الرفض او النقد المر للحداثة مثلا وكل ما فيها من خداع وبدون وجود حقيقي، وفي نفس القصيدة يصور ترانسترومر مدينة نيويورك مستحضرا في هذا صورة المدينة في شعر الحداثة كفضاء للشر ومكان غير حقيقي ‘في عتمة الليل/ في مكان خارج نيويورك/ نقطة مشرفة تقوم منها بومضة عين ترى فيها بيوت ثمانية ملايين شخص/ المدينة العملاقة هناك مجرة حلزونية شعاع منحرف يرى من الجانب/ في داخل المجرة، فناجين قهوة تدفع على الطاولة/ نوافذ المحلات تستجدي المارة/ دمدمة الاحذية التي لا تترك اثرا/ ابواب الطوارئ/ ابواب المصاعد التي تنزلق مغلقة خلف الابواب وشرطة تحميها وصوت يتضخم/ مسترخيا فوق الاجساد يغفو في انفاق السيارات، ويندفع نحو سرداب المقبرة’ وتظهر نيويورك مثل قطع مهمشمة لا انسانية فيها ولا رحمة، ونظر اليها الشاعر بغضب ومن علو شاهق حيث بدت بومضة عين. ومثل عدسة الكاميرا يقترب الشاعر ـ المراقب منها ولكنه في اقترابه لا يرى حقيقة ولكن اطراف بشر يسيرون وملامح لا تزال بعيدة من ايد تتناول فناجين القهوة واقدام تتحرك بسرعة. وصورة ترانسترومر للمدينة هنا تظهر سكانها وهم في سير محموم ودائب يلاحقون القطارات والساعات ويسرعون لمواعيدهم لا يلتفتون الى النوافذ التي تستجديهم، وفي النهاية تظهر المدينة مثل سرداب تخرج منه مخلوقات تشبه الزومبي، وعندما يواصل الشاعر غضبه وشجبه للمدينة الحديثة يدعونا الى ‘الاستماع الى تأنيب للنفس ، وصوت الشاحنة الصغيرة مثل ريح اصطناعية في منجم عمقه ستمئة متر’. يذكرنا الشاعر نحن الذين نعيش في المدن بحقيقة ازمتنا او نبحث في وعينا عن الازمة والمشاكل التي يعيش فيها المجتمع، وهو هنا الصوت الذي يدعو القارئ للانتباه لمعضلاته. هنا وايضا، في هذه القصيدة التي تشجب الحداثة والمدينة التي يعيش بشر خارجون من الارض، يكمن دور الشعر في انه يقوم بكسر السحر وفضح الخداع، فالشعر بطبيعته لا يقوم بتحقيق شيء مادي، يوقف الحرب مثلا، ينعش التجارة او ينهي الفقر. ترانسترومر بارع في تحول الساكن الى متحرك بدون ان يتحرك الساكن ولكن الشاعر هنا يقوم بالكشف عن داخل هذا الساكن ويكشف غضبه وغليانه.

مثل اللوحة

ومن هنا تشبه قصيدة ترانسترومر لوحة ثابتة تغري الوانها المشاهد بالدخول اليها والكشف عما يعتريها من مشاعر وقلق، وتقول الشاعرة الامريكية في هذا السياق ليزلي اولمان، ان قصيدة ترانسترومر تذكرها بلوحات رينيه ماغريت، الفنان السوريالي البلجيكي ( 1898 -1967). بعيدا عن التوحش في العالم فما يبحث عنه ترانسترومر هو عالم بريء مثل الطفولة، لم يتشكل بعد وهو هنا يأخذنا للمستقبل المجهول، ويدعونا لفهم البداية والنهاية، التي تنتهي بالموت المجهول ايضا وفي هذه الحالة فان السمو الذي يتحقق من شعرية ترانسترومر يقود الى البحث عن الدهشة في المجهول، وعالم كهذا هو عالم اثيري متسام مرن ‘اعود للبيت، الوقت مرن، اتمدد في وجود قبل الطفولة الى مستقبل لم يتشكل بعد، واصل الى طريق عتيق يقودني الى ان افهم ان ‘النباتات تفكر” .

شعرية الزجاج

من الملامح المهمة في شعرية ترانسترومر انه من الشعراء الاكثر تجريبية من ناحية ادخال الزجاج في شعره او ما تسمى ‘شعرية الزجاج’ ،’كم هو غريب ورائع هذا الاختراع، الزجاج، ان تكون قريبا ومحميا ولكن في الخارج’ ويقول ‘اجلس خلف الزجاج، مرتاحا، صورتي’. في رمزية الزجاج يقوم ترانسترومر بالتمترس فيه فيما تعصف في الخارج العواصف ويهتز الوجود، ففي داخل الزجاج هو محمي لا يلمسه احد ويرى صورته وهنا لحظة معرفة للذات. ومحاولة النظر في الصورة او تحقيقها تظهر في قصيدته ‘غاليري’ عندما يتخيل حشدا ويقول ‘شعرت انني نفسي انتمي للغاليري’. اهمية الزجا ج في شعرية ترانسترومر لانه يرى فيه رمزا للشفافية. فمن يرى خلال الزجاج يرى الجانب الاخر للصورة التي قد تكون واضحة ام مشوشة، ومن هنا فالزجاج هو مكان يتوحد فيه الانقسام بين النفس وصورتها عبر الزجاج. ومن خلال الزجاج يفهم ترانسترومر حدود القصيدة التي يقول عنها ‘حاجز الحقيقة’ فالقصيدة ليست زجاجة بين تجربة وتمظهرها بل هي تجربة في حد ذاتها كمفهوم، وتفسير لفظي يواصل الحياة وهذا واضح في قوله ‘في اللحظة التي رأيت فيها اناي/ خسرت اناي’. ولهذا فإن اجمل القصائد التي كتبها شاعرنا هي التي يضع فيها نفسه كقسمين في انقسام زجاجي ‘شفاف انا/ والكتابة تصبح واضحة/ في داخلي’، وايضا ‘شاهدت صورة صورة/ لرجل يتقدم نحوي/ في الفراغ صفحة/ مفتوحة/ جئت لاقابله/ من يرفع مصباحه/ ليرى نفسه في’.

فيرمر والجدار

قلنا في البداية ان رمز الجدار يحضر في قصائده اضافة للزجاج كمساحة للتفكير وحاجز عن العالم ومكان للولادة والتحرر والابداع وقد ابدع ترانسترومر في التعبير عن هذا في قصيدته عن الفنان الهولندي يوهانس فيرمر، والتي اشار فيها الى لوحتيه ‘درس الموسيقى’ و ‘امرأة بالازرق تقرأ رسالة’ ولاحظ ستيفان برجستن في تحليله للقصيدة تشابها بين حياة الشاعر وظروف الفنان الذي لم ينتج الكثير من اللوحات وكل لوحاته صغيرة الحجم باستثناء صورته لمدينته ديلفت. كما يرى الباحث هذا ان الشاعر يصف بدقة حالة وظروف عيش الفنان، ومشاكله والطلبات المتراكمة يوميا والنزل الذي كان يعيش فيه وظل مصدرا للازعاج والغرفة والجدار الذي كان يفصل الشاعر عن اصوات النزلاء وصرخاتهم ونواقيس الكنائس، ‘عالم ليس محصنا/ في الجانب الاخر للجدار/ تبدأ الاصوات/ والنزل يبدأ/ بالضحكات والمناحرات، صفوف من الاسنان والدموع واصوات النواقيس’، ويذكرنا الشاعر بأخ زوجته المريض عقليا وكان في البيت معهم والذي يذكر بالموت، كما يكتب الشاعر عن حادث ‘الانفجار العظيم’ حيث احترق فيه مخزن كبير وتأخر المسعفون للوصول اليه. وينقلنا من هذا العالم المليء بالصخب الى الجانب الاخر من الجدار حيث الاستديو والابداع ولوحات امرأة بالازرق ودرس الموسيقى حيث كان الفنان يجد الامان والسلام. في النهاية تحمل قصائد الشاعر وتجربته الشعرية رموزها الخاصة التي ليست مفصولة عن وعي الشاعر وقارئه وصوفيتها ليست مفصولة عن الحياة ومشاكلها وغنائيتها تحتفي بالوحدة والجمال والصمت الذي يحمل في داخله غليانا وتوقا للغة.

ترانسترومر شاعر الشعراء ما كتبته هو جميعاً سيرة ذاتية

عباس بيضون

قال برودسكي انه سرق من صور ترانسترومر. لم يكن برودسكي وحيدا في ذلك فأنا أيضاً سرقت من ترانسترومر عنوان مجموعتي «الموت مقاساتنا». كان لي عام 2005 حظ اللقاء بترانسترومر والحديث معه بالطريقة الوحيدة الممكنة، أي نقل كلامي إلى السويدية ونقل السويدية إلى لغة متفق عليها بينه وبين زوجته. في ما يلي شذرات من هذا الحديث:

كان توماس ترانسترومر على كرسي عادي في مقهى وسط المدينة، أما على كرسيه ذي العجلات فكانت تجلس زوجته، لم يكن هناك أبسط من ذلك ليبدو كل شيء عادياً، ليبدو كرسي ترانسترومر، الذي هو قفصه، ومرضه بالتالي مألوفين تماما بل غير ملحوظين في ساحة البرلمان وتحت شمس الربيع، ترانسترومر الذي رأيت صورته لأول مرة في رسالة بالانترنت من عدنان الصائغ الشاعر العراقي الذي يعيش في الكويت كان مختلفاً عنها، لم يكن على وجهه الإعياء الذي على الصورة ولا الغربة التي بدت عليها وسط المحتفلين به في السويد. كان وجهه مرتاحا بل وفتياً كأن العجز أعاده جزئياً الى نوع من الاستسلام الطفولي للحياة والأشياء، أكاد أقول إن العائلة كانت سعيدة في هذا المكان، كان على الطاولة بعض النقل والبيره، العائلة حول الطاولة في عدم انتظام وكأنها في بيكنيك، توماس يتناول حبة فستق ويضعها في فمه، الابنة تذهب وتعود وجنب ترانسترومر المرأة التي هي الآن كل عالمه تقريباً. جميلة وقوية وحاضرة بقامتها الكبيرة وأناقتها وصوتها، كانت جنب ترانسترومر وعند يمينه وهو في كنفها وديع وصامت ومطمئن. كانت هذه صورته لكن صوته ولغته وجزءاً من ذاكرته في هذه المرأة التي لا يتحرك إلا عبرها. كون الاثنان لغة لهما وحدهما. إنها أصوات ترانسترومر الخرساء وحركات يده وترجمتها هي، ليس الأمر هكذا فحسب، الأرجح أن جانبا من كلام ترانسترومر موجود أصلا فيها وهي تسترجعه من تلقائها وكل طفولة ترانسترومر في جزر البلطيق محفوظة في صدرها. أخباره ولقاءاته وربما بعض أفكاره وقراءاته أيضا لا تحتاج الى كلامه لتجيب عن أسئلة كهذه، إنها تسمعه في داخلها. لا يهمنا فقط التقنية والتدريب اللذين تكبدتهما لتصل الى ذلك، تهمني أكثر «معجزة» الحياة بشخصين في الداخل، بقدرة كائن على أن يكون بالإضافة الى نفسه شخصا آخر. أو أن يحول نفسه وذاكرته الى شخص آخر. أن يوجد اثنان على الدوام مع بعضهما كتوأم سيامي. أو أن يكون للشخص قرينه اdouble بالحقيقي. إنه سحر فعلي يتم ببساطة إنسانية. بالحب وبالاستعداد البشري ليتجاوز المرء نفسه، الحديث يتم عبر حلقات، أسأل بالعربية، يترجم قاسم حمادي «مترجم ترانسترومر» الى السويدية، تلتقط السيدة ترانسترومر الكلام من حمادي تنقله الى توماس الذي بأصوات غير مفهومة وحركات يسلم زوجته الجواب الذي تفكه الى سويدية ينقلها حمادي الى العربية. إنها عملية تشبه الأواني المستطرقة، مغامرة صغيرة تتحقق في عدة مراحل للوصول الى الهدف المحبوس في غرفة مغلقة، لاستخراج هذا الرصد المحروس في صمت ترانسترومر الذي شلته جلطة دماغية وأفقدته صوته. عملية طويلة نسبيا وتحتاج الى كثيرين للحصول على هذا الكلام الذي قد يكون أيضا غير مقروء أو ممحو أو محيّر. واحد من موضوعات توماس الأثيرة في شعره تأمل العالم والأشياء كنص ممحو وغير مقروء. الأرجح أن صمته قريب من شعره، إنه يبقى معلق العينين بهذا الذي لا يقدر على تهجئته، هذا النص الذي ينتقل من ترجمة الى ترجمة بدون أن يفصح أو يبين. كنا نحن الأربعة، بدون أن ندري، نلعب شعر ترانسترومر الذي قال إن الشعر بالنسبة له ترجمة، نظرة الى الشعر أجدها أصوب من اعتبار ان الشعر هو اللغة الأصلية، الشعر ترجمة بكل ما تعنيه الكلمة من انحراف عن الأصل وأخطاء لغوية.

شعر ترانسترومر كان مفاجأة لي. كنت بدأت الملل من جادات الشعر الكبرى. بدا لي أن شعر ترانسترومر بدون أن يستفز الذاكرة وبدون أن يدخل في تجريب مقصود أو بدون أي تنكر للشعر لا يبني على مثال شعري قائم. لا يتعمد شعر ترانسترومر أي صدمة ولا أي إبهار أو أي تفنن صارخ. وبدون أي نزوع تدميري أو هجومي أو انقلابي على الشعر يجد طريقه الجانبي والفرعي. طريقه وحده الذي يضعه ليس ضد أحد ولا في منافسة مع أحد.

ليس في الوسع ترسم هذا الطريق. إنه جديد لكن الجدة ليست مطلبه الأول. بل ربما يهمه أكثر أن يكون جديدا قديماً. أو يكون جديداً بدون ماركة الجدة ولا إعلاناتها. إنه مختلف وجديد لأنه اختار مدخلاً ليس مجهولا بقدر ما هو مهمل. مدخلاً غير إمبراطوري ولا مكرس. لقد بدأ من مكان آخر، وبدون أن يقصد وجد إمكاناً آخر للشعر، بل أتاح للشعر أن يبدأ في مكان آخر، لا بد أن مفهوما أكثر توسعا أو أكثر إزاحة للشعر هو الذي سمح بذلك.

قد يكون صعباً أن نقول من أين يبدأ هذا الطريق، لنقل إنه ليس معبدا ولا ملكيا، لذلك نفترض أن هذا الشاعر لا يبدأ من مكان ممهد أو مصقول، نفترض أنه يبدأ من مكان لا يزال فيه قدر من الوعورة والوحشية، وأنه يمهد وسعه لكن أجزاء برية وفطرية تبقى مع ذلك، فهذا الشعر ليس دائما منقى أو مصفى، إنه على طريقة بعض القطع الخام، ما يهم هو شيء كالموسيقى الحديثة، إيجاد موسيقى في كل صوت وفي ما لا إيقاع له، أو الفن الحديث الذي يجد الجمال في المهمل والمتروك وفي كل مادة وكل شكل، يبدو ترانسترومر وكأنه يبحث في طريقه عن جمال كهذا، أي في ما يلقى على الطريق أو يهمل أو يعتبر عاديا أو مستهلكا أو مهجورا أو غير مصقول وبريا. كل ذلك لا يتعمد ترانسترومر أن يصطفيه لشعره لكنه يجده ويلتقطه ويتأمله. عليك أن تكون شاعرا أولا، أن تملك هذه القدرة على تكليم الأشياء أو على مساءلتها وليس على العالم أن يكون شعرا. إذا كان الرسام الصيني لا يجد فاصلاً بين الخارج والداخل فهذا تقريبا ترانسترومر، لذا يبدو شعره كلوحة صينية تضع عالما في مربع، عالما بكامله والرسام لا يظهر، انه الريشة التي أحيت ذلك كله. حين يرسم ترانسترومر طريقاً ساحلية او مضيقاً بين جزيرتين فإن الشعر هنا هو الريشة التي ترسم، والتي قرأت اللحظة الهاربة وربما الإشكالية لجذع مقطوع او لسنة نوم على مقعد خلفي، او لتوقف باخرة. او لمرأى غابة، اللحظة الإشكالية والهاربة التي تصادف شاعراً هو في قرارة نفسه ايضا حطاب وقائد سفينة وسائق سيارة. ليس شاعراً فحسب لكنه ايضا جده القبطان وهو ايضا المتجول والسائح، انه بالتأكيد قادر على ان يتكلم تقريباً مثلهم لكن بلغة شاعر ومهنة شاعر، الشاعر هنا يمكنه ان يغني عن الناس وان يتقمص حيوات عدة، وان يكون ايضا سويديا عاديا من أهل الجزر وممن ذاكراتهم مليئة بالشطآن والجليد والغابات. انه الشاعر الذي العالم بالنسبة له ايضا عمل شعري، الطبيعة متكلمة وحاضرة، الشاعر الذي يفهم ان الشعر يبدأ ايضا مع رحلة في العالم، رحلة في الخارج، في خارج لا يزال في احيان كثيرة كتلا وركاما، او احجاراً خشنة او مفاتن خبيئة، عالم ينتظر ان نراه، اولا ان نكلمه بلغة الشعراء.

ربما لهذا يبدو ترانسترومر قادراً بجدارة ومعلمية ايضا على ان يتخطى الشعر، ليس نحو شعر اعلى ولكن بالعكس. انه كالفنان الحديث يوكل للفن اعادة تشكيل الاشياء، الاشياء الكثيرة التي لا تنتهي، وكمثقف حديث يحول الشعر الى نص والى خطاب، انه بالنسبة اليه طريقة نظر، حساسية وليس طوبى قائمة بذاتها، يملك الشعر بالطبع هذه القدرة على تخطي القصيدة وتخطي اي قالب، انه موجود اولا كمستوى من حياة. شعر ترانسترومر يجعل الشعر تقاطعا، انه قابليه، انه جاذبيه او بؤرة استقطاب لنصوص عدة، انه ايضا اعادة تأهيل للبداهة والحكمة والمعرفة العلمية والذكريات والاخبار والسرديات والسياسة والتأمل… الخ. لنقل ان ذلك لا يعني استبدال الشعر لأي من هذه، ولا يعني انه معرفة كلية وكاملة، يعني انه نقطة جذب لشوارد كلام ونصوص من كل مكان والشاعر هو في صناعة لحظة شعرية، مس شعري من كل ذلك، مس شعري فما يجمع ترانسترومر برينيه شار الفرنسي هذا المس. انه الشرارة التي تنبجس فجأة من ملامسة محتدمة ومتدرجة للعالم، الشرارة التي تبدو خلاصة كبيرة من خلاصات العالم، اشارة كبيرة من اشاراته.

وعد بالمعنى لكن ايضا انفجار للمعنى. هكذا يبدو خيال ترانسترومر مشبعا بكل العناصر والمواد التي تسبقه. انه في الواقع تحويلها الى مادة مشعة، الى نقله هائلة للوعي، والى حدث تحويلي والى نوع من وجود عيني، عيني للفكرة، لنقل انه يعطي للمجازات ما يشبه الكشوفات، الكشوفات الاثرية ربما، ففي لعبة الخيال الهائلة تنكشف للأشياء ذاكرتها وتاريخها ونواة وجودها.

ربما لذلك تبدو مجازات ترانسترومر هي تقريباً معانيه، انها تقف بالمعاني عند هذا الحد، بل انها تَمَرئيها البعيد السري وغير المقروء. رحلة ترانسترومر اشبه ما تكون بما يرويه عن قدرة جده على الانزلاق بالمراكب بين الجزر داخل المضائق التي تتقارب حافاتها الى حد مخيف، انها تجربة مذهلة بالطبع ويتراءى لنا ان ما يفعله ترانسترومر بالشعر شيء مماثل، انه يسوقه بين المنعرجات والمضائق والمنعطفات الضيقة. انه نوع من انزلاقات متصلة، مداورة للمعاني وتخايل وظهورات سرابية لها لكن الشعر يقترب بقدر ما يجانب، ينزلق بينها بدون ان يحصرها او يعينها، انه دائما في«المقاربة» في «الدوران حول» بدون ان يعين او يسمي او يقبض على المعنى، في ذلك تزدوج عمليتان: الدقة وحتى الوضوح مع المجانبة والمداورة.

في ما يلي الحديث مع ترانسترومر:

÷ شعرك مليء بالمخلوقات والنباتات والمعالم، إنه شعر بيئة، نوع من كتاب طبيعيات شعري. هكذا أرى علاقتك بالطبيعة فأنت من الشعراء الحداثيين النادرين الذين هم شعراء طبيعة.

{ السويد بشكل عام دولة حضارية والدين الكلاسيكي أي الكنيسة لا يلعب دوراً كبيراً في حياة المواطنين. لذا يتوجه السويديون، بدلاً من الدين، إلى الطبيعة في بعض الأحيان… إلا انهم لا يتوجهون إلى الطبيعة فقط لأجل الدين.

أنا نشأت مع والدتي ولم يكن والدي موجوداً… وأجدادي لجهة والدتي كانوا بحارة، البحارة يسكنون الجزر عادة. وأذكر جزيرة «رونماره» التي كنت أزورها وأقضي صيفياتي فيها وأنا بعد صغير.

تلك الصيفيات تركت أثراً كبيراً في نفسي… فالطبيعة هناك كانت لا تزال عذراء.

÷ تتكلّم كثيراً عن الموسيقى في شعرك…

{ عندما كنت أتابع دراستي الثانوية في استوكهلم، كنت في صفّ يهتمّ غالبية طلابه بالأدب. ومنذ ذلك الحين بدأت أقرأ شعر السورياليين الفرنسيين. في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمري بدأت أقرأ الشعر وأكتبه.

عندما رحت أكتب الشعر قرّرت الاستمرار في ذلك حتى أصبح في ما بعد شاعراً، على أن تبقى الموسيقى هواية. فأنا كنت أشعر بأن العلاقة تكون أسهل وتعطي فرحاً أكبر عندما يكون المرء هاوياً للموسيقى أكثر منه موسيقياً محترفاً.

÷ أي من الشعراء السورياليين كنت تقرأ في تلك الفترة؟

{ على الرغم من أن ترجمة تلك الأشعار، في ذلك الوقت، لم تكن دقيقة جداً، إلا انها كانت بالنسبة جيدة لأنها تركت أثراً في نفسي. أيضاً، قرأت لغير السورياليين الفرنسيين، قرأت »إليوت« وشعر أميركا اللاتينية.

÷ في شعرك أحداث وأسماء… نلاحظ أن »رينو إيغو« يتكلم عن شعر ترانسترومر وعلاقاته بنظريات الفيزياء… يذكر نظريتين كبيرتين ويجد معادلاً شعرياً لهما عندك. أحببت هذه المقابلة ووجدتها واعية وجدية. هل من فيزياء في شعرك؟ وإلى أي مدى يرتبط شعرك بالعلم؟

{ ربما تكون الفترة التي عشت خلالها في الطبيعة أثّرت بشكل غير مباشر على صياغة أشعاري… الأمر الذي أوحى بأن هناك فيزياء في شعري.

÷ شعرك ليس فيه أوهام. إنه شعر لا يعلّق أملاً على أي وهم. شعر لا يؤكد شيئاً ولا يحوي يقينيات.

{ في أعماقي، هناك دائماً اعتقاد قوي بأن جميع الأمور تنتهي بطريقة خيرّة وبسعادة. لذا آتي بالأمل لي ولأشعاري. لا يأس عندي… هكذا أعيش حياتي.

اكتسبت الأمان الداخلي خلال الفترة التي عشتها مع جدّي لوالدتي الذي كان بحاراً. فهو كان يقود السفن بين الجزر الصغيرة وفي المضيقات الضيقة… وكان هذا أمر محفوفاً بالمخاطر. أكسبتني هذه التجربة شيئاً غير مرئي خلق عندي نوعاً من الأمان الذي طبع أشعاري التي كانت تنمو ببطء. كنت أكتشف فيها الأمل وأترجمه كلاماً.

÷ في شعرك احترام للأشياء… الأشياء تعيش وتتنفّس. ما مصدر ذلك؟

{ دائماً أُسأل ماذا أقصد في أشعاري… «ماذا تقصد أنت هنا؟ ماذا تقصد بهذه الشجرة؟ بهذه المكتبة؟». أقصد أن هذه هي الشجرة وهذه هي المكتبة… موجودتان. من هنا أتى الاحترام تجاه الأشياء. الأشياء التي أكتب عنها موجودة… هي حقيقية وليست وهمية.

أشير هنا إلى مجموعة قصائد كتبتها أسميتها »بلطيقيات«. في البلطيقيات على سبيل المثال، دفتر ملاحظات يعود لجدّي. هو موجود… ليس من نسج خيالي. هو موجود في منزل صيفي على الجزيرة… منزل ما زال قائماً حتى يومنا هذا منذ القرن الثامن عشر.

الأمور التي ذكرتَها عن الجمال ليست مرتبطة بالجزيرة التي أعيش فيها وحسب، بل بمنطقة البلطيق بشكل عام. أيّ شيء كان يؤثر بي هناك، كان يشكل بداية لقصيدة جديدة أو لتعبير جديد.

÷ كيف هي علاقتك كشاعر بالفلسفة؟

{ لم أهتمّ أبداً بالفلسفة… ومنذ البداية والشباب الأول لم أحفل بها. لطالما كانت الفلسفة بعيدة عني. لم أشعر بأن لي أية علاقة بها. وكان الاهتمام الأكبر الذي انكببت عليه هو تاريخ الأدب وتاريخ الأديان وعلم النفس. حتى في أشعاري، أنا لا أفلسف الأمور.

÷ كتبت شعراً وكتبت نثراً كذلك. متى الشعر ومتى النثر؟

{ ساعة يأتي الوحي يظهر إذا ما كانت الكتابة شعراً أم نثراً. عندها أتبين إذا كان من الأفضل أن تأتي هذه الكتابة نثراً أو نظماً.

÷ في أشعارك، تتكلّم دائماً عن أشياء غير مقروءة… رسائل غير مقروءة… طبيعة غير مقروءة… وكأن الشعر ليس لتوضيح الأشياء ولا لقراءتها بل لإنشاء سرّ في مقابلها… سرّ آخر مقابلها…

{ عندما تقرأ آخر ما كتبته »اللغز الكبير« تحصل على جواب يفيد بأن أشعاري ليست أجوبة على قضاياً معيّنة… هي ألغاز مقابل أسئلة. هناك دائماً العالم المجهول.

في شعرك تحاول رفض ونقض مفهوم الأنا. تحاول تدمير الأنا إذ انها دائماً مفتوحة على الخارج… الأنا دائماً تحت أنظار الآخرين، على الرغم من ذلك فإن شعرك سيرة…

{ الأنا غير واضحة… هذا صحيح. لكن كلّ أشعاري هي سيرة ذاتية… ÷ أودّ أن أبدي مجرّد ملاحظة… فعلى الرغم من تكريس حياتك للشعر إلا ان انتاجك غير كبير…

{ يتساءل الجميع لماذا انتاجي محدود. وكثيرون هم الذين يعتقدون بأن هذا الكتاب هو كل ما أنتجته… لكن هذا غير صحيح. فهناك مسودات أكثر بعشرات المرات مما هو منشور… لكنني لم أصدرها لأنني أشعر بأنها غير مكتملة. هي مسوّدات. وإذا لم تكتمل القصيدة فمن غير الممكن أن أنشرها. وهذا أمر يعود إلى التحرّر من كون الشعر مصدر لقمة عيشي…

{ كان لي زملاء كثيرون ينتمون إلى اليسار السويدي، وأنا لم أكن أبداً من المحافظين أو الرجعيين. لكن رحلاتي إلى دول البلطيق جعلتني أكتشف كم هو مخيف ما هو حاصل وما تمارسه السلطات الحاكمة الشيوعية من قمع.

÷ أريد أن أسأل هل الشعر حقاً، كما هو مذكور هنا، مهم في الثقافة السويدية، أكثر مما هو النثر؟

{ عندما يقرأ المرء الصحف اليومية السويدية وخاصة الصفحات الثقافية، فإن هذا يولد لديه ارتباكاً إذ لا مساحة كافية للشعر. وعندما يقصد المكتبات يكتشف أن لا مساحات كافية لبيع كتب الشعر… إلا انه عندما تنظم الأمسيات أو الندوات الشعرية، يفاجأ المرء بحجم الجمهور الواسع الذي حضر.

قصائد لترنسترومر استلقى على الأرض وتحول إلى أفق

ـ المحطة

ها قد بلغَ المحطةَ قطارٌ. هنا تتراصفُ العرباتُ واحدةً تلو أخرى،

لكن دون أن تُفتحَ الأبوابُ، لا أحد ينزلُ أو يصعد. تُرى، هل ثمة أبوابٌ؟

في الداخل أناسٌ تتزاحمُ جيئةً وذهاباً.

ترنو إلى الخارجِ عبر نوافذَ راسخةٍ.

خارجاً بمحاذاةِ القطارِ رجلٌ يمضي بيدهِ مطرقةٌ يضربُ العجلات بها، فترنُّ بوهنٍ.

هنا تحديداً! هنا يتعالى الرنين بغموضِِ:

وقعُ صاعقةٍ، رنين ناقوس كاتدرائيةٍ، رنينٌ يطوق العالم رافعاً القطار برمته وأحجارَ المكانِ الرطبة.

كلُ شيءِ يصدحُ. ينبغي أن نتذكر هذا

تابع الرحلة.

* * *

حلم بالاكيريف 1905

هذا البيانو الأسود، هذا العنكبوتُ المتلألئُ

وقف مرتعداً في شبكة موسيقاه.

في قاعةِ الحفلِ الموسيقي عُزفَ وطنٌ

حيث لم تكن الأحجارُ أثقلَ من الندى.

غير أن بالاكيريف غفا أثناءَ الموسيقى

وحلمَ حلماً عن دروسكا القيصر.

التي دارت عجلاتُها على أحجارِ الطريق

في العتمةِ والنعيقِ.

جلسَ في العربةِ وحيداً يرنو

لكنه مع ذلك كان يركضُ بجوارها على الطريق.

كان يعلمُ أنَّ الرحلةَ قد دامت طويلاً

وأنَّ ساعته أشارت إلى سنين، لا دقائق.

كان ثمة حقلٌ فيه محراثٌ

ولم يكن المحراثُ سوى طائرٍ قد هوى.

كان ثمة خليجٌ بقي فيه المركب

متجمداً، خامداً، على متنهِ أناسٌ.

انزلقت الدروسكا وانحرفت فوق الجليد

وغزلت، غزلتِ العجلاتُ بصوتٍ حريريٍّ.

بارجةٌ حربيةٌ صغيرة “سفاستوبول”.

كان على متنها، حينما أقبل طاقم المركبِ.

“ستنجو إن استطعت العزف”.

أظهروا له آلةً غريبة.

كانت أشبهَ ببوقٍ نحاسيٍّ، أو فونوغراف،

أو جزءٍ من آلةٍ مجهولةٍ.

هلِعاً وعاجزاً عن فعل شيءٍ أدركَ: إنها

الآلةُ التي تُسيّرُ بها البواخرُ.

التفت إلى أقرب بحارٍ،

مُشيراً له بيدهِ متوسلاً عبثاً:

“اصنع إشارة صليبٍ مثلي، اصنع إشارة صليبٍ!”

حملق البحارُ بأسىً ككفيفٍ،

بسط ذراعيهِ، انخفض رأسهُ –

تدلى كأنه مثًّبتٌ في الهواءِ.

قُرعت الطبولُ. قُرعت الطبول. تصفيق!

أفاق بالاكيريف من حلمهِ.

أجنحةُ التصفيقِ أمطرت في القاعةِ.

شاهدَ الرجلَ ينهضُ عن البيانو.

كانت الشوارع مظلمةً خارجاً بسبب الإضراب.

سريعاً مضت الدروسكاتُ في الظلمةِ.

(*) ميليج بالاكيريف ملحنٌ موسيقيٌ روسي 1837-1910،

* * *

القبطان المنسي

لدينا ظلالٌ كثيرةٌ. كنتُ في طريقي إلى البيتِ، في ليلةٍ من أيلول

عندما خرجَ إيف

من قبرهِ بعد أربعينَ عاماً،

ورافقني.

كان في بادئِ الأمرِ فارغاً، اسماً وحسب

غيرَ أنّ أفكاره.. سالت أسرع من الوقت

ولحقت بنا.

وضعتُ عينيهِ موضعَ عينيَّ

فشاهدتُ بحرَ الحربِ

آخرَ السفنِ التي كان يقودُها

أخذتْ تنمو تحتَ أقدامنا

أمامنا وخلفنا زحفت قافلةُ سفنِ الأطلسي

التي نجا فيها البعضُ

ومُنحَ البعضُ الآخرَ علامةَ لا مرئيٍ.

بينما حلّتِ الأيامُ والليالي الخاليةُ من النومِ محلَّ بعضها

ظَلَّ هناك لا ينوبُ عنه أحدٌـ

سترةُ النجاةِ كانت تحت المعطفِ الواقي

لم يرجع أبداً إلى البيتِ.

كان نزيفهُ

في أحد مشافي كارديف بكاءً داخلياً.

استطاعَ في نهايةِ المطافِ أن يستلقي على الأرضِ

ويتحولَ إلى أفق.

وداعاً يا قافلةَ السفنِ ذواتِ الإحدى عشرةَ عُقدة! وداعاً يا 1940!

هنا ينتهي تاريخُ العالمِ.

لو بقيَت القاذفاتُ معلقةً.

لو أزهرتْ شُجيرةُ الخلنجِ

صورةٌ التُقطت في بدايةِ القرنِ الحالي على شاطئٍ

يظهرُ فيها ستة فتيةٍ واقفين بكاملِ زيّهم المدرسي.

حاملينَ بين أحضانهم سفناً شراعيةً.

يا لها من وجوهٍ عابسة!

السفنُ التي أضحتْ للبعضِ حياةً أو موتاً

والكتابةُ عن الموتى هي بحد ذاتها لهوٌ،

مُثْقلٌ بما سيأتي.

خربشات نارية

في الشهورِ الكالحةِ تلك

توشحتْ حياتي بالنور

فقط عندما مارستُ الحبَّ معكِ

اليراعةُ تتقدُ حيناً وتنطفئُ

تتقدُ وتنطفئ

بوسعِ المرء تقفي أثرها بين النظرة والأخرى

في دجى الليلِ بين أشجارِ الزيتون.

خلالَ الشهورِ الحالكةِ تلك بقيتْ الروحُ منكمشةً ميتةً

غيرَ أنَّ الجسدَ عاد أدراجَهُ إليكِ.

وخار ليلُ السماءِ.

أحتلبنا خلسةً المجرَّة لنبقى على قيد الحياة.

ـ فنان في الشمال

أنا ادوارد غريغ تنقلتُ رجلاً حراً

بينَ الناسِ.

كثيرُ المزاحِ،

قرأتُ الصحفَ، سافرتُ وارتحلتُ.

قدتُ الأوركسترا.

اهتزتِ القاعةُ بأضوائها منتشيةً بالنصرِ

كسفينةٍ غازيةٍ ترسو.

لقد جررتُ نفسي إلى هنا كي أنطحَ الصمت.

مقرُّ عمليْ صغيرٌ،

حيثُ البيانو محصورٌ، كسنونو

تحتَ قرميدِ السقف.

غالباً ما تصمتُ تلك المنحدراتُ الحادة، الخلابة.

ليس ثمة ممرٌ

بل منفذٌ ينفتحُ أحياناً

فيتدفقُ ضوء ٌلافتٌ للانتباه من الترول(*).

تراجع!

ضرباتُ المطرقةِ من الجبلِ.جاءت

جاءت

جاءت

جاءت في ليلةٍ ربيعيةٍ لغرفتنا

متقمصةً ضرباتِ القلبِ.

سوف أرسلُ في العامِ الذي يسبقُ موتي

أربعَ تراتيل مقتفياً أثر الله.

بيد أنه ستبدأ أغنيةٌ من هنا

عمّا قريب.

فينا ساحةُ قتالٍ.

حيث نحن عظامَ الموتى

نتقارعُ كي نغدو أحياءً.

الترول ( جبارٌ خرافيٌ.. في الميثيولوجيا الاسكندينافية )

كيريه

أحياناً كانت حياتي تفتَح عينيها في عَتمةٍ.

شعورٌ كما أن حشوداً من الناس جابت الشوارع

في عماءٍ وقلقٍ في الطريق نحو معجزةٍ،

بينما أبقى واقفاً غيرَ مرئي ٍ.

كالطفلِ الذي يغفو في هلعٍ

منصتاً إلى خطى القلبِ الثقيلة

طويلاً، طويلاً حتى يُدخل الصباح الأشعة في الأقفال

فَتُفتحُ أبوابُ العَتمةِ.

* * *

توماس ترانسترومر: 30 قصيدة هايكو

الترجمة من الإنكليزية: تحسين الخطيب

محمولاً في ظلّي مثل كمَانٍ في حقيبتهِ السّوداءِ. غابةٌ كثيفةٌ جنّةُ الإلهِ المُعدمِ تلمعُ الجدارنُ.

*

ريحُ اللهِ وراءَ ظهري.

الطّلقةُ التي تأتي بلا صوتٍ

حلمٌ مديدٌ لا ينتهي.

*

العشبُ الصّاعدُ . . .

وجههُ، حجرٌ رُوْنِيٌّ

منتصبٌ في الذّاكرة.

*

عالياً، على طولِ المنحدراتِ

أسفلَ الشّمسِ: كانَ الماعزُ

يرعى النّار.

*

ينحني الموتُ عليّ

مسألةٌ في الشِّطرنجِ أنا،

والحَلُّ لديهِ.

*

محمولاً بالعتمةِ.

أقابلُ ظلاً هائلاً

في عينينِ اثنتينِ.

*

واقفاً في الشّرفةِ

في قفصِ أشعّةِ الشّمسِ:

كقوسِ قزح.

*

البحرُ جدارٌ

أسمعُ النّوارسَ تصرخُ

إنّها تُلوّحُ لنا.

*

صمتٌ رماديٌّ

يعبرُ الماردُ الأزرقُ،

نسيمٌ باردٌ من البحر.

*

شيءٌ ما قد حدثَ.

أضاءَ القمرُ الغرفةَ.

والله يعرفُ.

*

ريحٌ أكّالةٌ

تعصفُ عبر البيتِ في اللّيلِ:

اِسمُ الشّياطينِ.

*

يشربُ الصبيُّ حليبَهُ

وينامُ آمِناً في زنزانتهِ،

أُمّاً من حجر.

*

شاحنةٌ هائلةٌ

تدمدمُ بعدَ أنْ حلّ الليلُ. ترتعشُ

أحلامُ النزلاءِ.

*

ركلوا كُرةَ القدمِ

فجأةً عمّتِ الفوضى:

الكرةُ تطيرُ فوقَ الجدارِ.

*

مُهمهماً في السّديمِ

قاربُ صيدٍ في الخارجِ هناكَ:

نصبٌ تذكاريّ على المياهِ.

*

جدارُ اليأسِ

يأتي ويرحلُ،

حماماتٍ بلا وجوهٍ.

*

ديرُ رهبانٍ لامييّنَ

بحدائقَ معلّقةٍ.

صورُ معركةٍ.

*

ساكنةً تقفُ الأفكارُ

كبلاطات فسيفساءٍ

في باحةِ القصر.

*

يتشمّسُ الأيّلُ في الشّمسِ

يطيرُ الذبابُ بسرعةٍ ويخيطُ الظلَّ

على الأرضِ.

*

صنوبراتٌ شعثاءُ

في السّبخةِ الفاجعةِ

إلى الأبدِ إلى الأبد.

*

عَقْعَقٌ أسودُ أبيضُ

حَرُوناً يقفزُ، يتعرّجُ

في الحقولِ.

*

ظلالٌ منكمشةٌ . . .

نحنُ ضائعون في هذهِ الغابةِ

بينَ عشائرِ الفِطر.

*

في ساعةٍ محدّدة

ستستريحُ الريحُ العمياءُ

أمامَ الواجهاتِ.

*

شمسٌ وهّاجةٌ هنا

صاريةٌ بأشرعةٍ سوداء

من الأيّامِ العتيقةِ.

*

ينشقُّ السقفُ

فيراني الرجلُ الميّتُ

هذا الوجه . . .

*

أسمعُ أنينَ المطرِ . . .

أهمسُ بسرّ

كي أدخل.

*

هَا لوحةٌ معتمةٌ

رُسمَ فوقها الفقرُ

أزهاراً في السّجنِ.

*

لقد كنتُ هناك

وعلى جدارٍ مُبيّضٍ

يحتشدُ الذبابُ.

*

راقداً على رفٍّ

في مكتبةِ الحمقى

كتابُ المواعظِ، لم يُلمَس.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى