صفحات الثقافة

جردة حساب.. الدولة الواحدية…تجذر وإعادة بعث…


خيري الذهبي

منذ بضع سنوات أجرت معي الفضائية السورية حواراً مطولاً في برنامج لطيف كان اسمه (طيب الكلام ) ويبدو أن الحوار احتدم إذ أن السيدة المحاورة فاجأتني بسؤال صادم وكان الحديث يدور حول رواية لي كان اسمها لو يكن اسمها فاطمة، قالت: كأني أحس في كلامك حنيناً إلى أيام الاستعمار!!! كانت الجملة مستفزة، فالحنين إلى أيام الاستعمار في بلد ايديولوجيته المعلنة هي البعث بكل شعاراته المهيبة. هذا الحنين هو اتهام مرعب ليس أمام السلطة فقط، بل أمام الجمهور المؤدلج ضخاً بالاعلام، والمدارس، والمنظمات الشعبية. توقفت قليلاً، ولم أرغب في التراجع أمام هذا الاتهام، فقلت: لم يكن الاستعمار كله سواداً صافياً، فهذا الاستعمار قدم لنا وللمرة الأولى في تاريخنا حريات لم نعرفها منذ زمن طويل، قدمها ليس أعطية ولا كرماً، بل لأنها كانت جزءاً من ثقافته، قدم لنا حرية الصحافة، والتي استغلها الجيل المعاصر للاستعمار حتى القطرة الأخيرة في محاربة الاستعمار نفسه، وقدم لنا حرية تشكيل الأحزاب، ولم نكن نعرفها من قبل، وقدم لنا حرية الملكية فلم تعد خزينة السلطان هي جيوب المواطنين. قدم أيضا حرية التظاهر وحرمة الأماكن الدينية من جوامع وكنائس وغيرها، وحرمة المدارس والجامعات، فلم يكن جندي واحد يجرؤ على اقتحام مسجد أثناء مطاردة المحتجين أو المتظاهرين، ولم تكن الجامعات تعرف الحرس الجامعي عين السلطة على الطلاب، أو تعرف اتحاد الطلاب المرتبط بالنظام. كانت تصغي حائرة، فلم تكن تتوقع مثل هذا الجواب، ولكنها والشهادة لله لم تقاطعني وكان بإمكانها ذلك لتغيير مسار الحديث، ولكنها لم تفعل. ثم صمتت قليلاً فجأة من دون إقامة مقارنة بين الزمنين والعهدين وما جرى زمن الاستعمار من عدوان فظ على الحريات المدنية التي كفلها لنا الدستور السوري قبل فرض حالة الأحكام العرفية على البلد منذ بضع وخمسين سنة تخللها سنتا ما أسموه بالانفصال. أربكها الصمت قليلاً، فقد كانت تنتظر متابعة الحديث، فليس من المنطقي التوقف، ولكني توقفت، فقد كان جوابي كافياً على سؤالها كما اعتقدت، وعلى من يريد المقارنة والفهم أن يفعل ذلك بنفسه. كانت السيدة المحاورة لبقة فانتقلت مباشرة إلى سؤال آخر واستمر الحوار في مساره المألوف. فيما بعد سأسائل نفسي: لم أجبت بهذه الطريقة، وكان بإمكانك التهرب من الجواب بطريقة مسالمة على الطريقة التي دربونا عليها سورياً، فأقول: لا ليس صحيحاً القول بأني أحن إلى زمن الاستعمار، فأنا ملتزم بعداوة الاستعمار الشر المطلق، ولكني حين أعدت التفكير في الأمر تذكرت أني كنت في ذلك الحين أعمل على نشر كتاب كنت قد كلفت به صديقة هي الدكتورة فوزية زوباري بترجمته عن الفرنسية، وكان الكتاب للفرنسي بيير لامازيير واسمه (مسافر إلى سوريا) وقد نشر في باريس 1926. كان الكتاب مفاجأة لي حين قرأته في حينه، عندما قدم لي سوريا أخرى وفرنسا أخرى تختلف عما نعرفه، أما سوريا التي يتحدث عنها الكتاب فلم تكن سوريا السياسية المعاصرة التي نعرفها، بل ما يسمى حالياً وحسبما رست عليه الأمور سوريا ولبنان ولواء اسكندرون وإقليم الجولان والإصبع الصحراوي الضخم والذي لا أهمية له اقتصادياً ولكنه انتزع من سوريا وأضيف إلى الأردن فقط لمنع تسلل الثوار السوريين من سوريا إلى السعودية. المهم كان لا مازيير كاتباً روائياً وصحافياً ميدانياً، وها هو يصف السوريين الذين حاورهم: محامون وأطباء ومثقفون ووزراء قدماء للملك فيصل، كانوا قد أتموا دراساتهم في أوروبة، وهم متمكنون جداً من لغتنا ويعرفون شخصياتنا السياسية، يقرأون صحفنا، ويفهمون مواضيعها من كلماتها الأولى، وأسئلتها الأولى، والأهم أنهم كانوا يحاجوننا بما تضمنه دستورنا وما كتبه روسو ومونتيسكيو. ثم يتحدث لامازيير عن ضباط الاحتلال الفرنسي، فيقول: إلا أن عسكريينا الذين ربحوا الحرب في فرنسا وفي الشرق، كانوا منتشين بانتصاراتهم. وكانوا قد مارسوا الاحتلال في ألمانيا ومقدونيا وتركيا… كانوا عسكريين جبابرة قساة، اتخذوا تدابير قمعية عشوائية حارقين وداكين قرى غدا سكانها محرومين من سبل الحياة والملجأ، ولم يتبق لديهم من مصدر للحياة إلا الالتحاق بصفوف الثوار… وكثير من موظفينا شاركوا في الادارة الاستعمارية بنية حسنة، فتصوروا أن المطلوب منهم كان تطبيق الطرق التي استعملوها في الهند الصينية وفي إفريقيا السوداء مع شعوب أقل تطوراً، فهم لم يأبهوا بالطقوس والأعراف المحلية، وبخصوصية كل مجموعة سكانية، وبالحساسية الفردية أو الجمعية متجاهلين أن سوريا بلد عريق ذو ثقافة عريقة جداً في التاريخ، لقد تصرفوا كما كانوا يتصرفون مع عبيد. ما بين السياسيين والمثقفين السوريين الذين أخذوا عن مدرسيهم وجامعاتهم الفرنسية مفهوم تشكيل الأحزاب، ولم تعرفها سوريا من قبل، وأخذوا حرية الصحافة ولم تعرفها سوريا أثناء الوجود العثماني وأخذوا الحريات التي تحدثت عنها في اللقاء التلفزيوني. وما بين العسكريين السوريين الذين أخذوا عن معلميهم العسكريين الفرنسيين مفهومهم عن الشعب المستعمَر وكيفية التعامل معه… هذان المفهومان سيكونان موضوع الصراع على السلطة في سوريا لما تبقى من القرن العشرين منذ ما بعد الاستقلال ومنذ قفز أول ضابط إلى السلطة وأعني حسني الزعيم وحتى تاريخنا هذا. ولكن… لا.. لم يكن هذا الصراع مقصوراً على المئة سنة الأخيرة، بل ربما كان يعود إلى زمن الصراع ما بين الهلينيستية التي جعلت من سوريا تقدم أجمل ما فيها من أدب وعمارة ومسرح وتعايش سلمي فتركت أسماء كبيرة مثل لوقيانوس السميساطي وميلياغروس وابولودوروس الدمشقي وغيرهم، وما بين البيزنطية التي أرادت توحيد المنطقة تحت راية فكرية واحدة حين حوّلت المسيحية الناشئة إلى دوغما ومجامع دينية تحرم الآخر، وفكره ورؤيته للعالم، وتفرض عليه مفهومها الموحد، الدين الواحد، والرب الواحد والفكرة الواحدة التي أجمع عليها دهاقنة الدول البيزنطية، وكل من يخالف هذه الواحدية فهو كافر ويستحق القتل.. وبالفعل بدأت رحلة القتل والمطاردة للفكر الآخر، في البدء ضد الوثنية وفلاسفتها ومعابدها ومكتباتها، ثم ضد المذاهب المسيحية الأخرى، واستمر هذا القتل لما يزيد على القرنين. وهرب من رفضوا فكرة الواحدية إلى الجبال النائية والوديان القاصية ثم إلى الصحارى التي لا تستطيع جيوش بيزنطة اللحاق بهم إليها. ثم جاء الإسلام وتنفست سوريا الصعداء، فتحالف مسيحيو الشام وأكثرهم من القبائل العربية مع المسلمين الحجازيين وطردوا بيزنطة من الشرق. وعاشت سوريا في بدايات العصر الأموي سعادة التعايش الحر وكان جزء كبير من جيوش الفتح محاربين مسيحيين من كلب وغطفان وتغلب إلى أن بدأ الصراع الداخلي بين المسلمين، الزبيريون ضد الأمويين، والأمويون والزبيريون ضد الكيسانيين أشياع محمد بن الحنفية، والجميع ضد الخوارج، وخرج عبد الملك بن مروان منتصراً وبدأت فكرة واحدية الدولة والفكر والعقيدة تراوده وعادت بيزنطة ثانية إلى الواجهة وإن مخففة تحت اسم جديد. كانت فكرة الدولة الواحدة ذات العقيدة الواحدة عزيزة على قلب عبد الملك بن مروان الذي حاول الخروج من تأثير الدولة البيزنطية في تعريب الدواوين وتغيير العملة إلى عربية، ولكنه وقع في المطب البيزنطي، واحدية الدولة التي لا تكون إلا بواحدية العقيدة، ولكن هذه البيزنطية لم تتجل تماماً في الحضارة الاسلامية إلا في العهد السلجوقي، فالثقافة العربية الاسلامية الجديدة كانت شديدة التواضع والانفتاح أمام الحضارات السابقة فامتصتها بسرعة، ومقولة المعتزلي للأشعري أثناء مناظرتهما أمام الخليفة المأمون العباسي: لندع كتاب الله جانباً ولنبدأ الجدال… ووافق الأشعري والمأمون. وهذه المقولة بحد ذاتها ربما تفسر مفهوم قبول الآخر والتعايش معه زمن الصعود. أما مع قدوم السلاجقة الذين اختصروا الدين الجديد إلى دين واحد ورب واحد ورؤية واحدة للعالم، فكانت انتصاراً للبيزنطية الفكرية، وليس ظهور الألقاب بديلاً عن الأسماء لدى الخلفاء العباسيين كالرشيد والمعتمد إلا استمراراً للتقليد السلوقي والبيزنطي كالملك السلوقي المنقذ والعادل وهذا حديث آخر. مع الصراع الفكري في الحضارة العباسية تسرّب إلى أسلحة الصراع فجأة اسم الديصانية والمانوية والزنديق، صفات للمختلف عن الرؤية الفكرية المركزية للدولة، والديصانية نسبة إلى الشاعر والموسيقي السرياني بارديصان الذي اختلف مع الكنيسة السريانية فحرم ثم نسب كل منشق إليه. أما الزنديق فهي صيغة من الصدوقي وهو اليهودي الذي لا يؤمن بالقيامة والبعث، والمانوية نسبة إلى ماني. هل رأينا كيف تستعين الأديان والحكومات على خصومها بمقولات سابقة على الديانة نفسها تماماً كما تفعل الحكومات المعاصرة في نعت خصومها بالإرهاب والقاعدة والحوثيين الخ. المهم كان ظهور البعث نوعاً من مصالحة مفترضة بين العلمانية والبيزنطية التي استباحت الديموقراطيات التي سعت إليها المسيحيات الملتجئة إلى الجبال البعيدة والوديان القاصية، تلك الأماكن نفسها التي ستلجأ إليها الفرق الاسلامية التي لم توافق على الفكرة المركزية الاسلامية السلجوقية للعالم. وكان البعث والذي وضع في مانيفستوه الأساسي أنه حزب انقلابي، وكان انقلابه الأول والأخير على ميراث العقلانيين الفرنسيين وارتماؤه في أحضان ورثة عسكريي الهند الصينية والسنغال والجزائر، منقلباً على المثقفين الذين تحدث عنهم لامازيير في كتابه والذين تفوقوا على العسكرية الفرنسية في فهمهم للبرجوازية بمعناها الأصلي، وليس كشتيمة أطلقها أنصاف المتعلمين من البعثيين واليساريين مع أنها حلم البشرية جمعاء في تحول البشرية إلى سكان مدن، كما تعني الكلمة لغوياً بالضبط، ويعيشون حياة المدينة في ديموقراطيتها وتعدديتها مبتعدين عن القبلية والطائفية… الخ. حين استلم تلاميذ روسو ومونتيسكيو الحكم في بلدانهم العربية المستقلة أو قبيل الاستقلال حاولوا جاهدين الحفاظ على أزهار الديموقراطية والبرجوازية وتعددية الأحزاب السياسية وحقوق الإنسان التي كفلتها الشرائع الدولية ولنتذكر خالد العظم ومصطفى النحاس ورياض الصلح ونوري السعيد الذين آن الأوان لقراءتهم قراءة عادلة بعد الكوارث الغوغائية التي تلتهم. أصرّ هؤلاء على الأبناء الأبرار للبرجوازية على استعادة الهيلينستية المؤمنة بالتعددية، ولكن هؤلاء الناس كانوا للأسف قشرة رقيقة على جسد المجتمع، فانتهى أكثرهم إما بالقتل أو النفي حين انتفض الجسم العميق للمجتمع، هذا المجتمع الذي صنعته وصاغته وأعادت صياغته بيزنطات كثيرة تتالت عليه، بيزنطات كانت لا هم لها إلا الفكرة الواحدة والرأي الواحد والحزب الواحد. انتفض الجسم المبزنط (المشكل بيزنطياً) وهكذا ظهر حزب البعث والغريب أن هذا الحزب ظهر في أكثر من بلد في الشرق الأوسط في وقت واحد تقريباً، فهو قد ظهر في باكستان وايران تحت اسم راستاخيز والذي يعني البعث.. بعث ماذا؟ وسوريا والعراق تحت اسم البعث.. بل ربما لو أمعنا في الحفر فسنكتشف أنه قد ظهر تحت اسم الاخوان المسلمين، فما الدولة المثلى والدولة الأمل والدولة الحلم للبعث؟ إنها الدولة العربية المبكرة الأولى أي الدول الراشدية، وما الدولة المثلى والحلم والأمل لدى الإخوان المسلمين على اختلاف مسمياتهم إلا الدولة الإسلامية الأولى والمبكرة أي الراشدية. كان الحزبان يتنازعان على ملعب واحد، وماض مضى وانقضى ليجعلاه مثالاً للمستقبل، ومرجعاً تجب استعادته، ولم يكن أي من الحزبين ينادي بدولة لمجتمع تعددي فكرياً أو ثقافياً أو اشتراكياً أو ليبرالياً، بمعنى مجتمع مستقبلي وما الاشتراكية التي ألصقت بالبعث فيما بعد إلا رقعة لم تستطع ستر بيزنطيته المتجذرة. غرق الحزبان أصحاب الايديولوجية الواحدة جوهراً، في اصطناع دولة أو مجتمع خيالي ورقي يظنون أنه وجد في القرون العربية الاسلامية الأولى ناسين أن كل فكرة سياسية لا ارتباط حقيقياً لها بالأرض والناس والواقع الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع مصيرها التحول إلى البيزنطية أي إلى الفاشية.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى