صفحات الرأي

التّمييز أو نسيان “العقل والوجدان”

 

 رجاء بن سلامة

يتغذّى التّمييز* من النّسيان والغفلة، فهو يضع الأقنعة حتّى ننسى أنّه تمييز، بحيث يتمّ تمرير أبنيته وسلوكيّاته وكأنّها بديهيّة بداهة طلوع الشّمس كلّ صباح، ولكنّ التّمييز قائم على نسيان أساسيّ هو نسيان “العقل والوجدان” باعتباره أساسا للتّشابه بين البشر وأساسا للاختلاف الخلاّق بينهم.. إنّه يعتمد، في الكثير من مظاهره، على البيولوجيا لجعل الفوارق ماهوّيّة، ولتأسيس الفوارق والميزات عليها.

سأحاول طرح هذه القضيّة انطلاقا من بعض الوقائع، فالمفاهيم والتعريفات تحتاج إلى الواقع حتى نرفع عنها ما تراكم من التباس، أو نثريها أو نبين تعقدها.

فكّ الصلة بين مفاهيم حقوق الانسان والواقع في تعدده وتشظيه يؤدي إلى خطاب يمكن أن يدخل في باب “اللغة الخشبية” التي تنفّر الناس من كل المواضيع مهما كانت أهميتها.

فـ”الرّبيع العربيّ” بكلّ ما أتى به من عواصف وحرائق فتح إمكانيّات الصّدوح بطلب الحقّ، وفتح إمكانيّات العمل مع النّاس، وبلغة قريبة من لغتهم ومن معيشهم. لم يعد النّاشطون في مجال حقوق الانسان ضحايا، بل أصبحوا فاعلين ومسؤولين، ومن أهمّ مظاهر الفاعليّة تسمية الوقائع وربط الصّلة المتجدّدة بينها وبين القيم المنشودة.

1 – “كيف كيف”، “زيّ بعض”…

هذه التّعابير العامية التي نستعملها للمطالبة بالمساواة تنصب لنا فخاخا، لأنّها لا تعبّر بدقّة عن مفهوم المساواة، فتجعلها مرادفة للتّشابه. كنت أقول لوالدتي مطالبة بالمساوة بيني وبين ذكور الأسرة ما معناه إنّ النساء والرّجال “كيف كيف”، فكانت المسكينة تستغرب: هل سيقدر الرّجال على الحمل؟ هل سيكون لك أنت ما للرّجال؟ كانت تردّ مطلب المساواة إلى البيولوجيا، وأنا أريد شيئا آخر، لم أكن قادرة على التّعبير عنه لأنّني كنت أحدس بالحقّ ولا أحسن المطالبة به.

لا لوم على والداتنا اللاتي عشن قهر الحرمان من المعرفة ومن المشاركة في الحياة العامّة، وهذا أيضا تمييز قديم يجب أن نتذكّره، بل اللّوم على من يستغلّ اليوم ارتباط المساواة بالتّشابه ليخلط الأوراق ويشوّه المطالبة بالحقّ.

فالتّشابه مصدر للمساواة، ولكنّ المساواة لا تعني التّشابه. أي أنّ علاقتهما علاقة استتباع لا ترادف. المساواة ناتجة عن الاشتراك في البشريّة، فالنّاس “أولاد تسعة أشهر” كما نقول في تونس، وخلقوا “من نفس واحدة” حسب التّصوّر القرآنيّ، ولذلك فإنّهم متساوون. ولكنّ هذا الأساس للمساواة والتّشابه غير كاف، لأنّه موجّه إلى الأصل دون المصير، أصل الإنسان وهو في بطن أمّه، وأصل البشريّة وفق تصوّر يجعل الأصل وحدة قبل الافتراق، وأحاديّة قبل الاختلاف. ولذلك فإنّ أكمل تعريف للتّشابه الذي تشتقّ منه المساواة هو ذاك المفتوح على المصير، والمؤسّس للحقّ : “يولد جميع النّاس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق، وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء.” (المادّة الأولى من الإعلان العالميّ لحقوق الانسان).

فما هو المصير إن لم يكن الحريّة؟ وما الحرّيّة إن لم تكن اختلافا بعد التّشابه، ورغم التّشابه؟

المرأة مساوية للرّجل، وسوء الفهم المتأصّل يكمن في أنّها قد تصبح كالرّجل عندما تكون مساوية له. كلاّ، فالمساواة في البشريّة لا تعني تشابه المصائر، والمساواة في البشريّة لا تعني الانتماء البيولوجيّ إلى النّوع نفسه، بل تعني العقل والوجدان وفرادتهما. ولذلك فإنّ المرأة يمكن تبقى امرأة محافظة على أنوثتها ومبدعة لها خارج الأنماط المعهودة. بل إنّها لن تقدر على إبداع أنوثتها إلاّ بفضل مساواتها بالرّجل، وإلاّ فإنّ هذه الأنوثة ستكون أنوثة معلّبة على مقاس التّقاليد الذكوريّة.

وبما أنّ المرأة عنوان للاختلاف، وأّوّل اختلاف يكتشفه الطّفل سواء كان ذكرا أم أنثى، وبما أنّ قضيّتها ذات قيمة “جدوليّة” فإنّ مساواتها واختلافها ينطبقان على الكثير من المختلفين والمهمّشين. فذو البشرة السّوداء مثلا مساو للأبيض. وذلك لا يعني أنّ الأسود يجب أن يتحوّل إلى أبيض. فعل ذلك مايكل جاكسن، وكان مصيره حزينا. لم يقبل بسواده وملامحه الإفريقيّة، وكان فنّانا موهوبا، وكانت للمعجبين به، وأنا منهم، غصّة ناتجة عن هذه العنصريّة الذّاتيّة التي استبطنها. هل نسي أنّ له عقلا ووجدانا، وأنّهما الأساس؟ هل اعتبر الاختلاف في لون البشرة أهمّ من الاختلاف الذي مردّه “العقل والوجدان”؟ هل يمكن أن نقول إنّ المساواة تكون منقوصة إن لم تتأسّس على النّهوض بعبء الاختلاف وعلى تحويله إلى حرّيّة؟

ذلك أنّ المساواة لا معنى لها بدون حرّيّة، والحرّيّة لا معنى لها إن لم تكن اختلافا وقدرة على الاختلاف. والوهم العنيد يكمن في اعتبار البيولوجيا أساسا للاختلاف الحتميّ الثّابت، بدل اعتبار العقل والوجدان أساسا للاختلاف اللاّنهائيّ الذي هو حرّيّة.

فأكثر ما يرمز إلى اختلاف البشر وفرادة كلّ واحد منهم بصماتهم الجسدية، ولكن لهم بصمات وجدانية وفكرية تظهر في كلامهم وأهوائهم ومشاربهم المختلفة. إنّها “الذاتيّة” التي بها تتأسّس هويّة الإنسان واختلافه في آن. فلا حرّيّة بلا اختلاف تنهض بعبئه ذات واعية بنفسها.

عن التّشابه إذن تترتّب المساواة، وعن التّشابه المفتوح على الاختلاف يترتّب المصير، وعن الاختلاف تترتّب الحرّيّة، ولذلك فإنّ الحرّيّة اختلاف أوّلا وقبل كلّ شيء : اختلاف في الرأي والعقيدة واللّون وأمور كثيرة. هذا الاختلاف الذي هو مصدر للحرّيّة يجب أن لا يكون مصدرا للتّمييز : “لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولاسيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع أخر. (المادّة 2 من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان(.

ولا يكفي أن نقول إنّ هذه الاختلافات يجب أن لا تكون مصدرا للتّمييز، بل يجب أن نقطع شوطا إيجابيّا آخر لنقول إنّها ينبغي أن تكون مصدرا للحرّيّة، أي الاختلاف. كلّ ما جاء بعد عبارة “على أساس” هو أساس ممكن لاختلافاتنا وبصماتنا الفريدة اللاّمتناهية.

2 – “كلّ الحيوانات متساوية، لكنّ بعض الحيوانات أكثر مساواة من بعض “

هذا ما نقرأه في قصّة “ضيعة الحيوانات” لجورج أروال الصادرة سنة 1945، بعد أن قامت الحيوانات بالثورة وظهرت فئة جديدة من المنتفعين بالامتيازات، تمّ تغيير أحد مبادئ الثّورة السّبعة، فكان هذا البند الجديد المراوغ “كلّ الحيوانات متساوية، لكنّ بعض الحيوانات أكثر مساواة من بعض.”

لم يلغ المنتفعون الجدد أو “الرّاكبون على الثّورة” كما نقول اليوم بند المساواة، قائلين مثلا: “ليست كلّ الحيوانات متساوية”، بل أضافوا استثناء مضحكا ينفي نفسه بنفسه. إنّ في هذه الجملة تعبيرا عن لجوء التّمييز إلى أقنعة تسمّيه بطرق مختلفة.

التّمييز في العصور القديمة كان واضحا وكان أقلّ حاجة إلى التبريرات الإيديولوجيّة، العبوديّة كانت بديهيّة ولم تكن في حاجة إلى التّبرير، وكذلك المنزلة الدّونيّة للنّساء. كانت هذه المنزلة تحتاج إلى بعض أساطير الخلق التي تبيّن أنّ الرّجل أصل والمرأة فرع، وبعض القوانين والأحكام، أمّا في العصر الحديث، فلقد تغيّرت الأمور حسب رأيي، بحيث أصبح التّمييز لا يقول عن نفسه تمييزا بل يجد تسميات أخرى له، وحججا، بل رأينا نظريّات علميّة تظهر لتبريره مثل النّظريّات العنصريّة التي تعقد الصّلة بين السّمات الفزيولوجيّة الموروثة والسّمات الثّقافيّة والاجتماعيّة لمجموعة معيّنة أو فئة معيّنة، وتفترض أفضليّة العرق الأبيض على بقية الأعراق، أو أفضليّة فئات اجتماعيّة على فئات أخرى.

ذلك أنّ التّمييز يحبّ البيولوجيا وينسى “العقل والوجدان”. ففي القرن التّاسع عشر أولع العلماء الأوروبّيّون بقيس الجمجمة ثمّ بقيس الدّماغ ووزنه، فاعتبروا مثلا أنّ جمجمة المرأة تنقصها الحدبة الخاصّة بالرّياضيّات. وفي النّصف الثّاني من القرن التاسع عشر اشتغل الطّبيب الفرنسيّ بول بروكا Michel Broca (1824-1880) في مجال وزن الدّماغ والذّكاء، وتوصّل إلى أنّ “معدّل كتلة الدّماغ أهمّ عند الرّجل مقارنة بالمرأة، وأهمّ عند الرّجال البارزين مقارنة بالرّجال الوضعاء، وأهمّ عند الأعراق العليا مقارنة بالأعراق السّفلى.”(1)

وفي القرن العشرين أنتج الكثير من منظّري الاسلام السّياسيّ نظريّات شبه بيولوجويّة كهذه تبرر التمييز ضد النساء، فمتولي الشعراويّ (1911-1998) مثلا ينتقي من بعض معطيات البيولوجيا الحديثة، ما يبين به سلبية المرأة واختلافها الماهوي عن الرجل، يقول مثلا: “إنّ المواقعة بين الرّجل والمرأة يقوم الرّجل فيها بدور إيجابيّ لأنّه يقذف الحيوان المنويّ مؤهّلا للإخصاب، وهو في هذه الحال يبذل جهدا كبيرا ويسفح طاقة هائلة لقاء قذف هذه المحتويات الحيويّة، ولكنّ دور المرأة سلبيّ لأنّ إفرازاتها أثناء الممارسة الجنسيّة لا تحمل عنصر الحياة في توّها إنّما المقصود من هذه الافرازات تشحيم الذَّكَر (القضيب) حتّى يسهل الإيلاج وحتّى لا تصادفه أيّة صعوبة أثناء الإتيان (…) لذلك فالرّجل دوره إيجابيّ والمرأة دورها سلبيّ أو أقلّ إيجابيّة”(2).

ما قول الشعراوي في الرجل المازوشي الذي يريد من المرأة أن تضربه بسوط وتقيّده؟ أليست الأمور معقدة والقسمة بين “السلبي والإيجابي” موجودة داخل الإنسان الواحد وداخل كل زوج، بحيث أنها لا تتطابق تماما مع ثنائي “مذكر ومؤنث”؟

 طبعا المعارف الأحدث فنّدت كل هذه الأساطير، وبيّنت أنّ الإيديولوجيا تخترق العلم، وأنّ البيولوجيا بناء ثقافيّ للجسد وليست عرضا موضوعيّا له.

3 –  مختلف عنّي، إذن يستفزّني

آخر ما شهدته من التّمييز المقنّع نظريّة “الاستفزاز” الكامنة وراء الكثير من الخطابات المحافظة اليوم، ومفادها أنّ ما ينتجه المختلف عنّي من فنّ أو أفكار يستفزّ مشاعري الدّينيّة. والنّتيجة هي أنّ كلّ عنف نحو هذا المختلف يمكن تبريره، والنّتيجة هي تصادم الحقول والمرجعيّات، وتحوّل حرّية عمرو إلى اعتداء على “حقيقة” زيد.

هذه النّظريّة كسابقاتها قريبة من البيولوجية، إلاّ أنّ المعنيّ بالبيولوجيا فيها ليس ضحيّة التّمييز، بل ذاته؛ إنّها تقوم على فكرة الفعل وردّ الفعل أو الاستجابة، وتلغي لدى الإنسان العقل الذي يسمح له بالتّحكّم في دوافعه العدوانيّة، وتلغي إمكانيّة التّفكير قبل ردّ الفعل، وتلغي الوجدان، وإمكان التّعاطف بأخوّة مع المختلف، حتّى وإن اعتبر خاطئا وفق منظومة معياريّة بعينها.

فمن المفيد أن يلحق النّاشطون في مجال حقوق الانسان نظرية الاستفزاز هذه بالتمييز، وأن يفكروا في تبعات التعصب الديني أو الإيديولوجي من وجهة النّظر هذه، فربما يكون التعصب من “العصبية”، بحيث أن المختلف، ومن ليس منا لا يحق له الوجود.

4 – في سنة 2001 انفجر مصنع إنتاج الأسمدة البتروكيميائية بمدينة تولوز (جنوب غرب فرنسا)، كان هذا الانفجار كارثة أدت إلى خسائر مادّيّة وإلى مقتل 31 شخصا وإصابة الآلاف بجروح. تمّ جبر الأضرار وتلقّت كلّ الضّحايا تعويضات حتّى على الصّدمة النّفسيّة التي تعرّضوا إليها جرّاء هذه الكارثة، لكن ما نسيه الجميع هم المقيمون بأقرب مبنى إلى المصنع: إنّهم نزلاء مستشفى الأمراض العقليّة، هؤلاء لم يعتبروا ضحايا ولم يتلقّوا أيّ تعويض.

هل تمّ نسيانهم على افتراض أنّهم فاقدو العقل؟ لكنّهم ليسوا فاقدي العقل تماما، وعلى ألأقلّ ليسوا فاقدي الوجدان.

وإذا تأمّلنا تعريف التّمييز كما جاء في المادة الثانية من الإعلان العالمي عن حقوق الانسان، فإنّنا لن نجد هذا النّوع من التّمييز على أساس الصّحّة العقليّة أو النّفسيّة.

هذا يعني أنّ أسس التّمييز لا حصر لها، ومنها ما لا نعي به، بل نكرّسه ببداهة أو نعيد إنتاجه وكأنّنا في غيبوبة. وهذا يعني أنّ حقوق الانسان ليست قائمة ثابتة من الأحكام والقيم بل مشروع لا ينتهي.

فحقوق الانسان مشروع مفتوح لا شريعة مغلقة، وعبارة “العقل والوجدان” هي التي تفتح التّشابه على الاختلاف، والأصل على المصير، فتخلّصنا من الحتميّات البيولوجيّة والأساطير الفطرويّة التي تؤسّس لتشابه منقوص لأنّه بلا ذاتيّة ولا مصير، أو تؤسّس لاختلاف مشبوه لأنّه بلا مساواة ولا حقّ.

هذا المقال ثمرة لقاء جمعني يوم 7 جويلية 2012 بالمتدربات والمتدربين في الدورة الاقليمية لحقوق الانسان – دورة عنبتاوي – التي ينظّمها المهد العربي لحقوق الانسان سنويّا.

الهوامش

1 – Peters Georges, Racismes et race, Lausanne, 1986

2 – شعراوي الإمام محمّد متولّي: الفتاوى: كلّ ما يهمّ المسلم في حياته ويومه وغده، أعدّه وعلّق عليه د. السّيّد الجميلي، ج1. دار العودة، بيروت 1987، 2/203.

عــ48ــرب / الأوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى