صفحات المستقبل

أمّي وأخواتها والثورة/ نور دكرلي

 

 

 

لا يشبه بيت جدي أبداً بيت جدّ رامي في مسلسل الفصول الأربعة. فلا تجتمع أمي وأخواتها كلّ أسبوع برفقة أبنائهنّ عند والديها ويحضّرون الغداء ويتناولونه معاً. لكريم ونبيلة خمسة أحفاد، بينما بلغَ عدد أحفاد ابراهيم وآسية اثنين وسبعين حتى لحظة كتابة هذه السطور.

لن يكفي طبق التبولة الذي دخل من خلاله لبنان كتاب غينيس للأرقام القياسيّة، أحفادهما. وأذكر مرّة أنّ جدتي آسية وضعت أمامي وخمسةٍ من أبناء أخوالي وخالاتي صحن بوشار بحجم منفضة السجائر، طالبة منّا التروّي بأكله بلهجتها الراميّة الثقيلة، إذ تلفظ الألف، واواً، “شوي شوييو عين ستوك، الشغلة تسلوي مو للشبع”.

جلّ ما يستطيع خالاتي وأخوالي فعله، هو الشكوى المتواصلة من الفقر والقلّة. لا تفرح العائلة لبعضها في السراء ولا يعينون بعضهم في الضرّاء، وأكاد أجزم أنّهم يشمتون.

كنت قد عاهدت نفسي في عام 2009 أن لا أدخل بيت جدّي مرّة أخرى، بعد أن غضبت جدتّي على أمّي، لأنّ أخي طه استعار مدفأة تعمل على الحطب من عند جدّي، وأعادها مكسورة، وسط رفض أمي مطالبات جدتي إياها بدفع ثمنها الذي يبلغ تسعمائة ليرةٍ سوريّة. ومع مرور الأيّام وجدت نفسي مضطراً للذهاب، لأهنئهما بعودة خالي سالماً إليهما بعد خمسة عشر شهراً أمضاها في معتقلات نظام الأسد.

دخلت الباب لأجد الجميع مجتمعين. خالي وقد ظهرت عليه آثار الإنهاك، جدّتي مستاءةً من كلّ هذه الحشود في بيتها، جدي ملتحفاً، وحشد الجماهير الغفيرة المكوّن من أمي وخالاتي وأزواجهن وأبنائهم وأحفاد بعضهم.

لا مجال لإلقاء التحية مع صعوبة بالغة في الوصول للخال، فناديته مهنئاً بسلامته في مشهدٍ يشبه ما كان يبثه التلفزيون الحكومي لأشخاص وذويهم ينادون بعضهم بمكبرات الصوت على حدود الجولان في المناسبات الوطنيّة. حلقات نقاش مشكّلة من أعداد مختلفة من الأشخاص وبمواضيع متنوّعة جداً، وضجيج يشبه إلى حدٍّ كبير ذاك الذي تشتهر به كليّة الآداب في جامعة حلب.

وجدت بصعوبةٍ لنفسي مكاناً للجلوس في إحدى الزوايا، وهممت باستخراج سيجارة لأدخنها وإذا بالأنظار تتجه نحوي ويصمت الجميع، لتقاطع خالتي هيفاء هذا الصمت: “عبتدخّن مالبورو!”. لتجيبها سهام: “أنت لا تقولي عبيدخن مالبورو، قولي إذا عبدخّن مالبورو قديه عبيدخلو مصاري بالشهر يلعن أبو هالثورة”.

“والله يا ويلاه لا عبيدخلو لا أبيض ولا أحمر” دافعت عنّي أمي وأكملت: “أنت قولي قديه عبيدخلكن بالشهر راتب جوزك، أربعين ألف، وابنك سليمان بالسعودية عبحوللكن بالريال. يلعن أبو هالثورة، كان راتب جوزك عشرين ألف، بعد هالثورة صار أربعين”.

قطعت هند استطراد أمي وسهام بتوجيه سؤال لي: “قديه حقها؟” أجبتها: “500” لتضيف: “معناها بلا ما تضيّفني، غالية. أنا يا حسرتي بشرب رويال فايف يلعن أبو هالثورة”.

ـ”مبلى خليه يضيفك أكيد معو كروز بالسيارة” تدخلت سهام مجدداً.

ـ”أنتَ ابن أخت أنتِ! يلعن أبو هالثورة، إذا سلّة إغاثة ما جبتلي لهلق”، قالت إحدى النساء الجالسات، ولا بدّ أنّها خالتي. ولتدافع أمّي مجدداً: “إذا أنا أمو ما عبيعطيني، يلعن أبو هالثورة”.

الكثير من الأحاديث دارت باتّجاهي على اعتباري وفق مقاييسهم مسؤولاً ثوريّاً بنكهةٍ أسديّة، كوني كنت أجري المداخلات على القنوات الإخباريّة. فمن السؤال عن إشاعة طلاق غادة عويس وجلال شهدة، إلى إيجاد عمل لأولاد بعضهم في تركيا، إلى تأمين كرفاناتٍ في مخّيم كلس حصراً، لأنّه بحسب ما سمعوا، هي أفضل مخيّمات النازحين في تركيا، حيث أشعر أنّ العائلة التي أحمل لقبها “أوغلو” وليس “عبدو”.

وليس آخراً بطلب زوج خالتي منّي، إرسال ابن أخته لتركيب طرف صناعيٍّ ذكيٍّ في ألمانيا متعهّداً لي بأنّه سيعود إلى سورية بعد إجراء العمليّة ولن يطلب اللجوء هناك! وهنا، حاولت البحث عن أواصر القربى بيني وبين رئيسة الوزراء الألمانية “أنجيلا ميركل”.

وقبل أن ألملم أغراضي وأسحب بالقوة سترتي من بين أيدي أولادهم الذين كانوا يفتشون في جيوبها. وأثناء النهوض، أجبت زوج خالتي: “خليه يطلب اللجوء يا زلمي، شو رح يزيد على ألمانيا واحد !” وخرجتُ من الباب لاعناً حاتم علي، مخرج المسلسل، في لحظة كانت ترن موسيقى الشارة الهادئة في أذني.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى