صفحات العالم

حسابات روسيا السياسية هل ستكون رابحة


د. رياض حمودة ياسين

بدا مع اشتعال الأزمة في سوريا قبل عام ونصف أن الموقف الروسي تجاه الثورة السورية عصي على الانصــــياع للإرادة الدولية، كما هو الحال بالنسبة لما جرى من أزمات في العالم العربي، ففي الوقــــت الذي لم يرق فيه لروسيا توجيه الأطلسي ضربة لليبيا،لم تستطع ان تقف بوجه الحــــرب الأمريكية في العراق، ولم تستطع كذلك وقف الضرب على صربيا، فما الذي تغير وجعل الموقف الروسي يستأسد ويدافع دفاع المستميت عن النظام في سوريا؟ هل ترى روسيا مثــــلا بأنها قد خــــدعت في تجارب الحرب في العراق وصربيا وليبيا، وأنها في هذه المرة لن تقف مكتـــوفة الأيـــدي إزاء التحرك الدولي، خاصــة إذا كان أحاديـــا.

فهل باتت السياسة الروسية واضحة تجاه رفض أي تحرك خارج المنظمة الدولية حتى لو ارتكب النظام في سوريا المزيد من المحرمات؟ يؤكد ذلك كله أن روسيا عارضت استعمال القوة ضد نظام الأسد ووقفت عقبة أمام مجلس الأمن واستخدمت حق النقض وتكرر ذلك في أكثر من مرة، الأولى في تشرين الأول/اكتوبر 2011 والثانية في شباط/فبراير 2012 والثالثة في تموز/يوليو 2012.

تتذرع موسكو وتبرر رفضها لأي قرار دولي ضد نظام الأسد على أساس انه سيفاقم المشكلة ويزيد من صعوبتها، والأصل هو البحث عن حل ومخرج يضمن الحفاظ على مكتسبات معينة، بمعنى أن روسيا تفضل الحل السياسي أكثر من العسكري مهما كانت الظروف والتطورات المتسارعة على الأرض. فهل الموقف الروسي بات وفقا للقاعدة المعروفة ب(خالف تعرف) وهل الهدف هو الظهور بمظهر اللاعب السياسي على الساحة الدولية سعيا لتسجيل حضور يعيد امجاد الدب الروسي، أم ان المصالح الروسية في سوريا أكبر من مجرد فتل عضلاتها السياسية أمام المجتمع الدولي؟.

لاتنظر روسيا لما يجري في سوريا باعتباره حركة احتجاج شعبية، والإعلام الروسي على ما يبدو لا يعترف بما يسمى ثورة سورية، ويصر على أن هناك متمردين خارجين على الدولة ولا يمثلون حركة معارضة حقيقية متأصلة نابعة من الشعب، ويتورط الاعلام الروسي متماهيا مع الخطاب الذي يتبناه الاعلام السوري، واتضح ذلك بصورة صارخة عندما تناغم الاعلام الروسي وبرر المجازر في درعا والحولا والقبير وغيرها على انها ناتجة عن سلوك جماعات ارهابية جاءت من خارج حدود البلاد.

ينطلق الروس من براغماتية متشددة للحفاظ على المصالح على ما يبدو أكثر من البعد الايدولوجي كمزاحم للغرب في فكرة صراع في منطقة ما من العالم كما كان الحال عليه وقت الحرب الباردة، فالمسالة باتت نفعية براغماتية أكثر منها مسألة ايدولوجية، ولا ضير في ذلك فالحسابات الروسية في سوريا عديدة، فمن المعلوم أن روسيا تهتم بقاعدتها البحرية في مدينة طرطوس كونها القاعدة الوحيدة التي تؤمن لها النفاذ الى المياه الدافئة وعندها ستضمن الملاحة البحرية على مدى السنة باعتبار أن البلطيق والباسيفيك الشمالي تبقى متجمدة طيلة ايام السنة، كما أن روسيا لدىها مصالح اقتصادية تقدر بحوالي 4 مليارات دولار تستثمرها الشركات الروسية وعشرات المليارات لشركات في الغاز الطبيعي، هذا ناهيك عن أن سوريا تحتل سوريا المرتبة السابعة في لائحة الدول المستوردة للسلاح الروسي، بحيث تشكل الواردات السورية من الأسلحة الروسية حوالي أكثر من النصف من مجمل الصفقات. كما أن لها مصالح تجارية وأفضلية تجعلها حاضرة في المشهد السوري أكثر من سواها، ولهذا يمكن قراءة تفضيل الروس للحل السياسي بدلا من التدخل العسكري، لأن المخاطر التي ستطال روسيا في حال جرت الرياح عكس ما تشتهي سفنها ستكون كبيرة،ولهذا تحرص روسيا على لعب الدور الرئيس سعيا وراء الحفاظ على الحظوة اقتصادية في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، وهي على استعداد لعقد صفقة سياسية للخروج من المأزق لضمان مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية بعد السقوط الحتمي للنظام السوري حسب مراهنات وتطمينات الدول المنخرطة في المعسكر المناهض للنظام السوري وحلفائه.

لذلك تستميت روسيا في الابقاء على مكونات النظام السوري حتى لو قبلت فكرة تنحي الأسد، فهي تناضل من أجل ضمان مصالحها في مرحلة ما بعد الاسد، وهي على استعداد لدفع خسائر مرحلية جراء ذلك على ان يكون لها ضمانات بعد تنحيه خاصة إذا استلمت حكومة جديدة بعيدة كليا عن سطوة النظام الحاكم وأتباعه.

تتمايز موسكو عن الدول الغربية الأوربية والولايات المتحدة في تعاطيها مع الحراك الشعبي في العالم العربي، فهي تنظر إلى الثورات العربية من منظور له طابع استراتيجي وأمني. ففي الوقت الذي ينظر الغرب ويروج إلى أن ما يجري هو في صالح الشعوب والتخلص من النظم الاستبدادية وبناء حكومات توافقية سعيا لبناء شراكات جديدة وتعاون مختلف، تنظر موسكو بتشاؤم لما يجري فهي لا تتماهى مع الغرب بهذا المعنى ، وأكثر من ذلك هناك من يرى بان روسيا تلمح إلى أن ما يجري في العالم العربي يشترك الغرب في تدبيره، سعيا لخلق حالة جديدة من الفوضى تشبه الحالة في أفغانستان والعراق وليبيا.

يتخوف الروس استراتيجيا وأمنيا من فكرة امتداد الثورات إلى الأراضي القريبة من آسيا الوسطى وشرق أوروبا، علما بان هناك مناطق حكم ذاتي في حوض الفولغا والقوقاز أي في الداخل الروسي، وبهذا المعنى لا تريد روسيا أن تمتد شرارة الثورة إلى أراضيـــها عندئذ ســـتكون حساباتها ومكتسباتها في مهب ريح الضياع. ولعل الأخطر من ذلك كله أن روسيا لا تتحمس لفكرة التغيير في النظم المستبدة في العالم العربي من منطلق أن وصول الإسلاميين من شأنه أن يرسل رسالة قوية إلى دول انفصلت عن الاتحاد السوفيتي وهي الجمهوريات الإسلامية الخمس الصاعدة اقتصاديا والغنية بالثروات النفطية والايدي العاملة، بمعنى أن إمكانية ولادة حركات متشددة ذات طابع اسلامي ستكون قائمة في هذه الجمهوريات وعندئذ سيستنسخ النموذج الشيشاني في قض مضاجع النوم الروسي على حرير الاستقرار والازدهار.

تسعى روسيا الى لعب دور أكثر من سياسي في الازمة السورية، فهي على ما يبدو تدعم نظام الأسد لوجستيا وعسكريا واقتصاديا، وتراهن في ذلك على مزيد من صموده وإدامة بقائه الى حين التوصل مع الغرب الى صيغة تفاوضية لا تخسر فيها روسيا كثيرا من مصالحها ومنافعها، فموسكو ستكون حاضرة في أي تسوية بهذا المعنى لطالما بقي النظام سوريا صامدا وربما يحقق انتصارات على الجيش الحر، ولهذا لا نستغرب أن روسيا يمكن أن تتفاوض على كل شيء مقابل مصالحها حتى يمكن أن تتفاوض على تنحي الأسد نفسه.

‘ كاتب اردني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى