رستم محمودصفحات الثقافة

كتّاب الشام إذ يبدأون بـ”ثانياً/ رستم محمود

يصرّ بعض الأصدقاء ممن يكتبون عن الشام، على قول الـ”لا شيء”. لاشيء سوى سرد العواطف والذكريات، كمٌّ من شحنات العاطفة والانفعال، مديح عميق لمكانة المدينة ودور أهلها، لغة رثائية لحالها ومصائرها المتوقعة، تهافتٌ محيّرٌ لحصر “المسألة الشامية” في مأزقها وخصامها مع “الخارج”، بذلٌ باذخٌ للتغاضي عن سيرة المدينة منذ عامين وأكثر، غرقٌ في الذاتية، تماهٍ مستتر ومتعمّد مع خيالات وخطاب طرف سياسي بعينه، استخدامٌ غزيرٌ لسيمياء الوطنية و”روح” الجماعات والهويات والذاكرة العميقة.

ثمة ما يخادع في ذلك كله، ليس من باب واجب الثقافة والفن ولوج السياسية بشكلها المباشر واليومي والمعين، بل من حيز ما، تخفيه تلك الخطابات من واجبات ومسؤوليات أخلاقية ومعرفية واجتماعية تاريخية للثقافة والفن.

 صحيح أن شحنات العواطف والانفعال لا بد منها في الكتابة عن مدينة برمزية دمشق. لكن، أولاً، ثمة سؤال المعرفة عن المدينة، والإجابة واجبة: إذ ما الذي حطّ من مكانة المدينة إلى هذا القدر؟ مدينة الحداثة العربية ومدنيّتها الأولى. كيف وصلت إلى ما وصلت إليه؟! مدينة مسوّرة بملايين المساكن العشوائية، لا يتوفر في عمرانها أي شرط للحياة والوجود، مدينة ملونة بالعوز والمهانة وصراعات الطوائف المبطنة، مدينة متخمة بمؤسسات القمع وسلطة الأمر الواقع، مدينة بكماء لم تقل شيئاً منذ نصف قرن، غير تماثيل “الأب القائد”.

نعم، الحمية عند الداخل، في مواجهة الخارج، واجب أخلاقي للأدب والثقافة والفن. لكن قبل ذلك كله، على حساسية الأدب وأدوات الثقافة وشفافية الفن، أن تزيل الحُجب وتفكك الارتباكات وتنزع الأغشية، وتجيب على عدد من الأسئلة: ما هو الداخل في ما تحياه دمشق، وما هو الخارج؟ أي داخل بائس قاس فظيع ومروع هذا؟ أي داخل لا توقظه شلالات الدم وصرخات الأطفال وأنين الأمهات في دمشق؟ أي داخل يتقصّد تدمير المدينة وخنق إرادة ناسها، لأجل بداهة واحدة بسيطة، اسمها الحق في الوجود الكامل لسكان المدينة. وهل لأي خارج كان أن يفعل بالمدينة وذويها ما يفعله هذا “الداخل النبيل”؟ وهل في التاريخ والجغرافيا، وحتى في الخيالات، أكثر فظاعة مما تلاقيه دمشق على يد “داخلها الودود”!

 الأكيد أنه لخطاب الثقافة أن يستخدم سيمياء الجماعات والحضارات والهويات والذاكرة. لكن من مسؤولية المثقف أن يسأل أولاً عن حجم التضليل الذي يمكن أن تخبئه تلك السياقات، ونوع القوى والسلطات “الوطنية-المحلية” التي يمكنها أن تستغل وتستخدم تلك المدرجات من خطابات الثقافة، عبر إدراج وتبرير سلوكها وأفعالها ومراميها مع هذه الخطابات. على المثقف أن يتحمل مسؤولية مآلات ما يستخدمه من مقولات في ذلك الاتجاه، كمقولاته عن الشرق والغرب والإسلام والأصالة والاستعمار والوطن والهوية. هي سلع بالغة الخطورة والطواعية لمرامي السلطة المسيطرة، لشرعنة سوء أفعالها وفظاعة سلوكياتها. فعبر تلك السياقات الهوياتية الجمعية، يتقصّد المساواة بين ما لا يمكن أن يستوي، قاتل وقتيل الجماعة الواحدة، سارق ومسروق الجغرافيا نفسها، سجان وسجين القضية ذاتها!.. مسألة لا يمكن لنباهة المثقف وحس الفنان التغاضي عنه.

 أخيراً، في عوالم السياسة والسلطة، لرأي المثقف ومزاج الفنان وخيارات المعرفة أن تنزاح حيثما تشاء، فذاك معطى تكويني في حرية الضمير. لكن ليس لأي منها، وبأي شكل ولأي ظرف كان، إلا أن تحتكم إلى المعيار الأخلاقي أولاً. المعيار الأخلاقي الذي يستوجب على كل منهم، أن يولي الكائنات الأضعفاً أولوية. أولئك الطامحون إلى مكانة أكثر عدالة، ولو بقليل.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى