صفحات سوريةميشيل كيلو

الربيع العربي والسلام!


ميشيل كيلو

قلل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير من فرص تحقيق السلام بين إسرائيل والعرب بعد الربيع العربي. بدوري، أقر بلير على ما قاله للأسباب المهمة التالية:

1 – إن أحدا لا يعقد سلاما دائما أو كاملا مع دول في حالة مخاض وعدم استقرار، والعالم العربي يمر اليوم بمرحلة عدم استقرار تقول علامات كثيرة إنها ستكون مديدة، بينما يتمسك الإسرائيليون بورقة الأرض العربية المحتلة ليضغطوا بواسطتها على العرب ويأخذوهم إلى حيث يخدم مصالحهم، بعد أن أضعفوهم وقوضوا جزءا رئيسيا من قدراتهم من خلالها، فليس من المعقول أن يتخلوا اليوم عنها مقابل سلام مجاني وغير مضمون، لكنه يرفع الضغط عنهم ويمنحهم الفرصة لالتقاط أنفاسهم ولإعادة بناء أوضاعهم، في أجواء تغيير جدي وعام يحتمل كثيرا أن تكون إسرائيل هي الخاسر الأكبر بسببه، وألا تجد ما تدافع عبره عن مواقعها الجيدة الحالية غير المزيد من التمسك بالأرض والاستعداد لحقبة جديدة من العدوان، تحتوي من خلالها القوى الجديدة، مثلما سبق لها أن احتوت بالعدوان القوى التي ظهرت بعد استقلال معظم دول العالم العربي في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

2 – لن تعقد إسرائيل سلاما مع العرب يحرر أو يمكن أن يحرر قدراتهم وطاقاتهم وإمكاناتهم الكثيرة، والتي كان الاستبداد يكتم أنفاسها ويقعد على قلبها ويشلها، وتعد ثورات الربيع العربي الراهنة بإطلاقها من عقالها وتحريرها من قيودها. لا يعقل أن تسهم إسرائيل في عملية تحرير قدرات العرب المغيبة والمقيدة، لأن تحريرها سيعني نهاية وجودها في فلسطين والعالم العربي، وإن بعد حين، وسيظهر كم هو كبير فارق القوة بين العرب وبينها. والحال، لقد شعرت إسرائيل دوما بأصدق الامتنان لنظم الاستبداد العربية التي تكفلت بتعطيل هذا الفارق من خلال قتل مواهب وطاقات شعوبها وبلدانها. ومن المعلوم أن الصهاينة أعلنوا على ألسنة رؤساء وزراء إسرائيليين متعددين، آخرهم نتنياهو، أنهم سيحمون نظم الاستبداد العربي بكل ما في حوزتهم من قوة، ولن يسمحوا لأحد بالقضاء عليها، كما أنهم لن يوافقوا على قيام أنظمة ديمقراطية قد تخرج المارد العربي من قمقمه، وتضعه بكامل طاقاته في مواجهتهم، فلا يقوون عندئذ على مواجهته، حتى إن كان لديهم ضعف ما امتلكوه في أي وقت من السلاح الأشد فتكا.

3 – لن تسمح إسرائيل بإسقاط نظم احتجز استبدادها السلام أو قاد إلى عقد تسويات مذلة أمعنت في إخراج ما يستخدمه العرب من قدرات محدودة جدا من المعركة ضدها، ومزقت العالم العربي أكثر مما هو ممزق. تخشى إسرائيل السلام، لأنه سيعيد للعرب أرضهم وحقوقهم في فلسطين انطلاقا من موازين القوة التاريخية والموضوعية ومن فارق القدرات الذي سبق الحديث عنه، والذي سيتكفل بكسر ميزان القوى العسكري القائم وبجعله لصالحهم. لذلك ترفض مبدأ السلام، لاعتقادها أنه سيؤسس لميزان قوى موضوعي – تاريخي وعسكري في غير صالحها، سيكون نتاج تنمية وتقارب الاقتصاد والسياسة العربيين الحتمي، الذي لا شك في أنه سيحرر قوة العرب الهائلة، وسيمكنهم من بناء نظم حرة قادرة على إقامة علاقات مؤثرة مع دول العالم الكبرى، وخاصة منها أميركا، تحظى بدعم اقتصادي وسياسي يجعلها غير قابلة للكسر. لقد نادت إسرائيل دوما بالسلام، لكنها فعلت ذلك من أجل كسب الرأي العام الغربي والحصول على مزيد من سلاح الدول المتقدمة، وليس لأنها كانت تريده أو تعمل في سبيله. بعد 1967، تهافت عرب الهزيمة على السلام معها، وقبلوه بالشروط التي تريدها، ووافقوا على تسوية كانت لصالحها مائة في المائة، لكنها رفضت سلامهم بازدراء وتجبر، وأفهمت محاوريها منهم بلغة لا تحتمل اللبس أنها تفضل الاحتلال مع الحرب على سلام يرفع سيفها عن رقابهم ويمنحهم فرصة الالتحاق بالعالم، ويمكنهم من تحقيق يقارب قد يفضي إلى عالم عربي موحد ومتقدم وعادل، ترتفع فيه أحذية العسكر عن أعناق الشعوب، وتنشأ بدايات تبدل جدي في الركائز التي يقوم عليها الواقع، فيمثل من جانبه خطرا جديا يهدد وجود إسرائيل وقد يكون بداية نهاية مشروعها. لا سلام إذن مع العرب، لأن السلام سيخرجهم بمرور الوقت من تحت ركام التاريخ، وسيتيح لهم ظروفا يصححون في ظلها ما اعوج من أمورهم، ويتداركون ما فاتهم من تطور، وينجزون انقلابا تاريخيا في أحوالهم سيعجز الصهاينة ومؤيدوهم في العالم عن مجاراته مهما فعلوا، علما بأن الأصل في الوجود العربي أن يبقى متأخرا ومتخلفا، وأن يعاني من إرباكات ذاتية تكبحه وتحول بينه وبين تحقيق أهدافه التي يجب أن تبقى متواضعة ومحدودة، وأن تديرها حكومات قوية على شعوبها ضعيفة أمام الخارج.

4 – لم يعد الأمر القائم قابلا للاستمرار. هذه مشكلة مخيفة من مشاكل إسرائيل اليوم وغدا، تضعها أمام سؤال البدايات الذي طرحته على نفسها قبل عام 1948 وبعد عام الانتصار الذي فاجأها أكثر من غيرها عام 1967: ما العمل لإبقاء العرب ضعفاء، متأخرين وممزقين؟. بقول آخر: ليست إسرائيل مرتاحة أو مطمئنة للتطورات التي تقع في عالم العرب. وهي ترى فيها بداية جديدة ذات منطلقات مجتمعية وفكرية وروحية مغايرة لتلك التي عرفتها بداية الخمسينات، وعانت الأمرين قبل أن تتمكن من هزيمتها. فهل يعقل أن تسارع إلى عقد سلام يجنبها معركة تاريخية جديدة مع عرب يرجح أن يكونوا مختلفين جدا عن أولئك الذين صارعتهم وغلبتهم، تقول إشارات متنوعة إن نتائجها قد تكون قاتلة بالنسبة لها؟. وهل تعقد سلاما هو نوع من التسليم المسبق بعجزها عن خوض هذه المعركة، ومن هزيمة محتمة لها، ما دام لن يبدل نظرة العرب إلى عروبة فلسطين ورغبتهم في استعادتها؟. وماذا تفعل إسرائيل إن رفض العرب منحها ضمانات بأنهم لن يعودوا إلى مسعاهم القومي – الوحدوي، الذي تحتل فلسطين واسطة العقد منه؟.

لا شيء يوحي بأن الربيع العربي سيجعل السلام مع إسرائيل قريبا. وهناك ما يشير إلى أن إسرائيل تتحفز لضربه، إذا ما فشلت محاولات احتوائه داخليا، في بلدانه، حيث بدأ يتعرض لتحديات سلطوية مختلفة ولتصدعات وخلافات بالغة الجدية والخطورة!

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى