صفحات الناس

عن علي الشهابي: السوري – الفلسطيني…/ ماجد كيالي

 

 

ربما لا يوجد فلسطيني طغت فيه سوريته على فلسطينيته مثل علي الشهابي، على رغم معرفتي بكثيرين من الشبان الفلسطينيين، الذين اشتغلوا وفق قناعة مفادها أنه لا يوجد، في سورية، ما يميّز الفلسطيني عن السوري وبالعكس. فهم سواء، في كل شيء، في نمط المعيشة، والعادات، والثقافة، وفي الخضوع للظروف القهرية ذاتها: السياسية والأمنية والاقتصادية، وفي الآلام والآمال، وحتى في الشعار المدرسي: «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة».

اللافت أن علي ظل على هذا الرأي، إلى لحظة اعتقاله في المرة الأخيرة (17/12/2012)، إذ إنه اعتقل قبلها عدة مرات، الأولى في أواسط السبعينات، لتسعة أشهر، والثانية استمرت عقداً (1982ـ1992)، والثالثة في أواسط 2006، واستمرت سبعة اشهر. فهذه هي المرة الرابعة، وانقضى عليها الآن ثلاثة أعوام، من دون أن يعرف أحد عنه شيئاً.

قصة علي، الفلسطيني السوري، أو السوري الفلسطيني، الكاتب والأستاذ وصاحب الرأي، تحيلنا إلى حكايات السجون في سورية، وهي هنا تشمل أقبية فروع المخابرات، والسجون المختلفة، وكلها لا تخضع لأي قانون أو معيار، إلى درجة أنه لا يمكن تصور الأهوال التي يختبرها المعتقلون، أو المنسيون، في هذه السجون. فعدا الحرمان من المحاكمات، أو المحاكمات الصورية، ثمة أنماط من التعذيب والعقاب الجماعي في السجون إلى درجة أن مجرد السماع بها، أو تخيلها، أو قراءتها على نحو ما جاء في رواية «القوقعة» لمصطفى خليفة، يمكن أن تخلق عند أي إنسان صدمات نفسية يصعب التخلص منها.

أما فكرة الاعتقال عدة مرات فهي بذاتها قصة معذبة، وتنم عن ظلم لا حدود له، لا سيما إذا علمنا أن هذه حالة مئات وربما ألوف من الشبان الذين جعلت منهم الدولة الأمنية، عبرة للآخرين، في بلد حكم بوسائل الخوف والفساد والتسلط والاستبداد أربعة عقود.

ما يفاقم مأسوية هذه القصص أن هؤلاء المعتقلين لم يمارسوا أي فعل عنف، بل حتى لم يلوحوا مرة بإمكان استخدام العنف، إذا أتيح لهم ذلك. فعلي الشهابي لم يعتقل لا في المرة الأولى ولا الثانية ولا الثالثة ولا الرابعة بسبب أية مسألة تتعلق باستهداف النظام بواسطة أي نوع من ممارسة القوة على الإطلاق، وإنما اعتقل لمجرد الرأي، وهذا شأن ألوف الشبان من هذا الجيل، الذين دفع معظمهم أجمل سني عمره، بين 10 و20 عاماً ثمناً.

تعود معرفتي بعلي الشهابي إلى أواخر السبعينات، حيث زارني برفقة صديق مشترك (ح. ش) كان يدرس حينها في جامعة حلب، وذلك في أول بيت أسكنه في مخيم اليرموك. وقتها كنت في إطار حركة فتح، فيما كان علي شاباً يسارياً، مفعماً بالحماس، وله انتقادات كثيرة وقاسية على الحركة الوطنية الفلسطينية. ولعل ما جمع بيننا ميلي إلى الفكرة اليسارية، واحتسابي على التيار الديموقراطي أو النقدي في حركة فتح آنذاك، لكن عدم ميلي، في تلك الفترة، لاشتغال الفلسطيني في الشأن السوري، جعل هذا التعارف يقتصر على لقاءات متفرقة بين فترات متباعدة.

بعد هذا التعارف سيق علي إلى السجن (1982) مرة ثانية، ووقتها لم تحترم أجهزة المخابرات وجوده في قاعة الصف في المدرسة، إذ أخذوه عنوة أمام تلاميذه، علماً أن المدرسة تابعة للأمم المتحدة (وكالة الغوث)، وهكذا غاب لأعوام عشرة.

بعد خروجه من السجن أتيح لي التعرف عليه أكثر من ذي قبل، لا سيما أنني في تلك الفترة كنت تركت العمل الفلسطيني نهائياً، وكان ذلك أحد الأسباب التي جعلت المشتركات بيننا أكثر. مع ذلك، ظللت أحاذر العمل في إطار المعارضة السورية، وكنت أعطي الأولوية للعمل الفلسطيني، على رغم معرفتي بطبيعة النظام، في حين ظل علي يؤكد المشتركات، وأنه لا يمكن لعمل فلسطيني أن يتطور من دون تطور الحالة في سورية.

على أية حال، ففي تلك الفترة انشغل علي بمشروعه التعليمي، في معهد اللغة الانكليزية الذي أعطاه جزءاً كبيراً من وقته، وهو مشروع عمل، لكنه أفاد شباب المخيم كثيراً، بفضل الوسائل التي اعتمدها.

في 2006 صدر عن علي بعض المبادرات اللافتة للانتباه، إذ بدأ يطرح أوراق عمل تخص الوضع السوري، وبات يبحث، بكل جرأة، عن منابر لتقديمها، عبر وزارة الإعلام، ومدرج مكتبة الأسد، وغير ذلك. في تلك الآونة، صارحت علي، ربما مثل غيري، بخشيتي عليه من أجهزة الأمن التي لن تتركه في حاله، وبأن الوضع غير مناسب لطرح وجهات نظر، لا سيما أن هذا نظام لا يقبل الحوار، بخاصة أن لدينا تجربة ربيع دمشق، والمآلات المأسوية لها.

هكذا تم اعتقال علي لمرة ثالثة، حيث أفرج عنه بعد ستة أشهر، وعندما زرته في البيت للتهنئة بسلامته، سألته: ألم تتعب منهم، أو يتعبوا منك؟ ثم ألم يقولوا لك هذه المرة، أنت كفلسطيني ما شأنك بنا؟ ضحك علي، وقال: فعلاً، هذه المرة قالوها.

بعد خروجه من السجن، واصل علي عمله في التدريس، وأيضاً في الكتابة، إذ بات يكتب في جريدة «الحياة» مقالات سياسية عن الوضع السوري، كما بات يكتب آراءه ويوزعها على الأصدقاء، عبر البريد الالكتروني. وعندما اندلعت الثورة السورية وجد فيها فرصته لطرح آرائه في كيفية التغيير الديموقراطي في سورية، مع كل المخاوف التي كانت تنتابه من بعض المظاهر التي كان يرى أنها تهدد مسار هذه الثورة، ومسار التغيير الديموقراطي.

أما بخصوص قضية الفلسطينيين، فكان رأيه أن الفلسطيني في هذه الحال هو كالسوري، وكتب في ذلك ورقة وزعها على الأصدقاء.

يوم 17 من هذا الشهر، قبل ثلاثة أعوام، اعتقل علي، وكان الخبر موجعاً، على زوجته وأخواته وعلى رفاقه ومعارفه. قصة علي، هي القصة ذاتها للدكتور عبدالعزيز الخير والمحامي خليل معتوق ورزان زيتونة وسميرة الخليل وفائق المير وناظم ووائل وكل الأحبة…

فتحية لروح الحرية، التي لم تضعفها سنوات السجن الطويلة، في قلب علي الشهابي… تحية لفلسطينيته وسوريته… ففلسطين ليست مجرد قطعة أرض، فهي معنى للحرية أيضاً…

* كاتب فلسطيني/ سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى