صفحات الناس

عن الجريمة التي ارتكبها  “سليمان الأسد” وردود الفعل عليها _مقالات متنوعة_

سليمان الأسد: من أنتم؟/ عمر قدور

الله يعين السيد الرئيس على هالشعب، بالفعل شعب جحش”. هكذا ينهي سليمان هلال الأسد منشوراً على صفحته في فايسبوك، يستهله بإعلان براءته من حادثة قتل العقيد حسان الشيخ التي صارت معروفة على نطاق واسع في سوريا وخارجها. عبارة سليمان الأسد ليست مفاجئة، أو جديدة، فالمؤيدون طالما استخدموها من قبل لوصف الذين انتفضوا على حكم آل الأسد. والعبارة أيضاً إعادة إنتاج لعبارة رائجة أيام الأسد الأب، مفادها “الرئيس جيد، لكن الذين حوله هم السيئون”، لكنها طويت مع الثورة عندما بدأ بشار الأسد نفسه وصف الثائرين بالجراثيم، ما يذكر بوصف القذافي ثائري ليبيا بالجرذان، وأيضاً بقوله الشهير “من أنتم؟”. إذاً، لا يغادر سليمان الأسد ما هو شائع لدى الطغمة الحاكمة عندما يصف الذين اعتصموا في اللاذقية تنديداً بما اقترفه بأنهم “شعب جحش”.

أيضاً ليس مدعاة للتوقف أن تُسمى صفحة على فايسبوك باسم “كلنا العقيد الشهيد حسان الشيخ”، ما يذكّر تماماً بالصفحات التي ينشئها الثائرون تكريماً للشهداء والمعتقلين والتي تبدأ بـ”كلنا..”، فصفحة العقيد الشيخ تحسم عدم وجود قواسم مشتركة مع المقلب الآخر بمنشور واضح نصُّه “جماعة المعارضة الإرهابية… وكلاب داعش والنصرة: مكانكم ليس في سوريا بل تحت أقدام الجيش العربي السوري. سيتم حظر كل مسيء وكل إرهابي من الصفحة”. الصفحة ذاتها تستقوي بما تقول أنه قول للأسد الأب أكد عليها الأسد الابن عن عدم السكوت عن الخطأ، لكن الأهم أنها تشير إلى مقولة الأب بالصياغة التالية: قالها الأب القائد حافظ الأسد قدس الله روحه!

لذا سيكون من باب الاصطياد في المياه العكرة أن يحاول البعض في المعارضة تأويل الخلاف “الداخلي” الحاصل على أنه بوادر ثورة ضد العائلة الحاكمة، فهذا أمر جرى التحسب له جيداً والمعتصمون رفعوا صور رئيسهم للدلالة عليه، وتولت صفحات موالية أخرى تفنيده. المياه ليست عكرة في صفوف الموالاة، ولن يعكرها تصرف أرعن من شاب لا يمثّل قيم عائلته التي تبدو في أحسن حال، بل يصل تنقية المياه مداه بالإشادة بمناقب والد الشاب “الشهيد المجاهد هلال الأسد” الذي قُتل في ظروف غامضة قبل نحو سنة ونصف، وكانت تجاوزاته على أهالي اللاذقية يجري تداولها همساً نظراً للخوف من بطشه. ثم أن صفحة “كلنا العقيد…” تزيل أي التباس بنشر صورة لواحد من عائلة الأسد، أتى معزياً عائلة الشيخ، مرفقة بالتعليق التالي: هدول هنن بيت الأسد اللي منفديهم بالروح. وتنقل عن والدة القتيل قولها: حقنا مضمون بإذن الله وأي حدا من أعداء الله بدو يرمي فتنة بين بسنادا والدولة بدي قلو: أنا وكل ولادي فداه لضي عيوننا.. رئيسنا الغالي.

من بين ألف معتصم، قيل أنه عدد من اعتصموا استنكاراً للجريمة، قد لا يخلو الأمر من وجود ناقمين يريدون الخلاص من عائلة الأسد برمتها، لكن مجريات الاعتصام لا تشير إلى تأثير لهم. القوة المؤثرة في الاعتصام، كما خارجه، لا تزال لموالي النظام، وشبيحته في الدرجة الأولى، وهذا ما ينبغي أن يكون واضحاً عندما يُشار إلى “الحاضنة الشعبية” للنظام لأن الحديث يُقصد به أولاً القوى الفاعلة لا الصامتة، ومن المؤسف أن تشكل الأولى منهما نسبة عددية غالبة حتى الآن. ومع أن موالاة عائلة الأسد ليست قدَراً إلا أن المجريات السابقة على الثورة واللاحقة عليها تثبت رسوخها. فمعلوم أن تجاوزات أبناء العائلة، بما فيها الترويع والقتل، صارت واضحة منذ أكثر من ثلاثة عقود، وما كان يرويه أبناء الساحل عنها كفيل وحده بإشعال ثورة. وكما هو معلوم أيضاً لم يلتقط أولئك المتضررون فرصة اندلاع الثورة، حتى في طورها السلمي الذي امتد لأشهر، بل كان بعضهم في طليعة متهميها بالإرهاب.

نعم، ثمة تململ في الحاضنة الشعبية للنظام، تململ متأتٍّ من عدم قدرته على إحراز النصر الذي وعد به مراراً منذ أربع سنوات، النصر الموعود الذي ذهب ضحيته عشرات الآلاف من الموالين. ومن الخبث تحميل الثورة مسؤولية عدم استغلال ذلك التململ مع الشرخ العميق الحاصل حالياً، فالأولى بأصحاب التململ أنفسهم أن يكون لهم مَن يعبّر عنهم، أي أن تخرج أصوات وقيادات من البيئة الموالية تقول للعائلة الحاكمة: كفى.. انتهى زمنكم. الجدل الحالي في صفوف النظام ومواليه أدنى من ذلك بكثير. الأصوات المتذمرة تقول تقريباً التالي: نحن نضحي بأبنائنا في ساحات المعارك، ومستعدون للاستمرار في التضحية، أما أن نضحي في الميدان ونُقتل ونُذلّ خارجه فأمر يفوق الاحتمال. في هذا الجدل الداخلي يأتي شاب أرعن من بيت الأسد ليضع النقاط على الحروف. يكتب سليمان الأسد على صفحته أيضاً: بقلكن يا كلاب.. المظاهرة يلي صارت ضدي كلها شباب.. لو رحتو انقلعتو والتحقتو بالجيش وصدّيتو الإرهابيين بسهل الغاب كان أحسن من هالتعواية.. بس كلكم خونة وكلاب وستندمون.. خليتو كلاب المعارضة الإرهابية يشمتو فينا.

لنلاحظ كيف يتفق الطرفان على عدم السماح للمعارضة “الإرهابية” بالاستثمار في الخلاف بينهما. وإذا كان من فضيلة تُحسب فهي لسليمان الأسد الذي يوضح ما لم يكن غامضاً إذ يقول للمعتصمين ما فحواه: مكانكم هو في جبهة القتال، حيث ينبغي أن تُقتلوا هناك دفاعاً عنا، وألا تتطاولوا على أسيادكم إذا قتلنا أحداً منكم بأية ذريعة كانت، أو حتى بحكم المزاج فحسب. في الواقع سيكون الرد جدياً فقط عندما يعلن الموالون استنكافهم عن تقديم أنفسهم قرابين في ساحة المعركة وخارجها. هذا الفصل لم يكن موجوداً لدى عائلة الأسد يوماً ما. إنه من اختراع الضحايا، العبيد الذين يوهمون أنفسهم بأنهم أيضاً أسياد على ضحايا آخرين.

المدن

 

 

 

 

دولة الشبيحة الأسدية/ نجاتي طيّارة

منذ أيام، يسود التوتر بعض أحياء اللاذقية وقرى ريفها الذي شاعت تسميته بالحاضنة الطائفية للنظام السوري، غداة تشييع جثمان العقيد حسان الشيخ الذي قتل، مساء الخميس 6 أغسطس/آب الجاري، على يد سليمان الأسد، نجل هلال الأسد، ابن عم رئيس النظام، والذي كان قائداً لقوات الدفاع الوطني، وسقط قتيلاً قبل أشهر في معركة مع الثوار السوريين.

كان مركز عمل العقيد حسان في مطار المحطة الرابعة العسكري، المعروف بالتيفور شرق الطريق الواصل بين حمص وتدمر. وكان معروفاً في أوساط القوى الجوية باستبساله في الدفاع عن النظام، وإيغاله في الإجرام، المتنوع المهارات، ضد عامة الشعب السوري. لكن ذلك كله لم يشفع له، حين ذهب في إجازة لزيارة أهله في اللاذقية التي تعتبر عرين الأسد، وربما عاصمة دولة الساحل المزعومة. وحين تجول المذكور فيها مع عائلته، خلال اليوم الأول، كان من سوء طالعه وقدره أن تجاوز بسيارته سيارة الشبيح المعروف، سليمان الأسد ابن العم الأقرب إلى الرئيس المجرم، فما كان من ذلك الشبيح إلا أن أرداه قتيلاً ومباشرة، بإطلاق النار عليه من نافذة سيارته، وأمام أعين أولاده وباقي العابرين، عقاباً على ذلك التمادي والتجاوز، والذي ربما لم يكن في أسوأ الأحوال أكثر من شطارة أو مخالفة مرورية.

قد يبدو الخبر لبعض القراء غير قابل للتصديق، أو مجرد ادعاء وتهويلة من تهويلات معارضي النظام، لكن إعلان السلطات السورية ومصادرها عن اعتقال القاتل الشبيح وبدء استجوابه والتحقيق معه، وتصريحات المسؤولين السوريين بصدد الحادثة، والتفاعلات التي تبعتها، ومن بينها تبرؤ إخوة القاتل وزوجة والده من فعلته، واستنكارات محافظ المدينة، واعتصام حوالي ألف شخص، عند المدخل الشرقي للّاذقية، احتجاجاً في اليوم التالي، ذلك كله يؤكد الحادثة، وينفي أي مبالغة عنها.

“إنه نظام حكم الشبيحة، نظام التجاوز في كل شيء. تجاوز للقانون، وتجاوز للأعراف والأخلاق، وتجاوز للقيم والتاريخ الوطني السوري”

والتشبيح، أو التجاوز بتعبير آخر، هو سمة العائلة السورية الحاكمة وسلوكها العميق خلف كل غطاء آخر. وكانت له ذاكرة مؤلمة، صارت نكتها السوداء جزءاً من الثقافة الشفوية في الثمانينات، وأبطال قصصها، الشديدة الغرابة، كانوا شيخ الجبل وفواز الأسد وباقي أبناء عم الرئيس الراحل وإخوته. صحيح أنها تراجعت أو خفّت لاحقاً، لكنها بقيت متوافرة دوماً، ولم يعد هناك مجال لمقارنتها بما حدث لسورية كلها، من تشبيح تجاوز تاريخها ووحدتها وبنيتها الاجتماعية والوطنية، على يد النظام منذ قيام الثورة، قبل أكثر من أربع سنوات.

فقط، يكفي تذكر أن الرئيس الحالي نفسه شبّح على الدستورالسوري وتجاوزه، حين تم تعديل مواده في أقل من نصف ساعة، كي تناسب عمره، بعد رحيل والده. أما أكثر الحوادث رمزية ودلالة في ظاهرة تشبيح العائلة، فكانت أيام إعداد باسل، الابن الأكبر الذي كان يتجاوز الآخرين دوماً، ليكون الأول في كل شيء استعداداً لولاية العهد. فهوالناجح الأول، والمهندس الأول، والضابط الأول، والفارس الأول.. إلخ.

ولم يكن مسموحاً لأحد بتجاوز ذلك الأول في كل المجالات، فهو وحده الذي يحق له ذلك. وفي إطار ذلك، يروى أن حصاناً خرج عن طوع فارسه (عدنان قصار) بطل الفروسية السورية في مرحلة سابقة، وتجاوز حصان باسل الأسد في أحد سباقات الفروسية السورية، فكان السجن المطول، وبدون أيّ محاكمة، من نصيب الرجل، ولم يخرج منه إلا أشيب الشعر قبل سنتين، إثر مبادرة عفو عام وتنظيف بعض المعتقلات. ولم يتوقف عقاب ذلك الفارس عند السجن فقط، بل كان من سوء حظه أن باسل الأسد توفي بعد توقيفه، إثر الانقلاب الشهير لسيارته على طريق المطار، لأنه كان يسوقها بسرعة فائقة، وهو الأول دوماً!. فانعكس ذلك على السجين عدنان، وصار ينال عقابه بالضرب المبرّح على قصة التجاوز في كل ذكرى لوفاة باسل، بحيث أصبح العقاب نظاماً دورياً متكرراً، لا يتغير مهما تغير السجانون.

أما موت باسل حينها، فلم يجرؤ أحد على ذكر سببه، العائد طبعاً إلى تهوره وحماقته وجنون إحساسه بالتفوق، بل سمي شهيداً بصفة رسمية. وقالت الثقافة الشفوية يومها في تحديد الفرق بينه وبين الميت: الشهيد هو الذي يسوق سيارته بسرعة 240 كم في الساعة على طريق مطار دمشق، أما الميت فكل من يقول عكس ذلك.

الأكثر أهمية في حادثة اليوم، مهما أدت إليه أو تمت لفلفتها على جري العادة، أنها تكشف، مجدداً وبصورة شديدة الوضوح، حقيقة النظام السوري، وعلى طريقة من فمهم أدينهم وفي عقر دارهم. فهو باختصار شديد، وبصرف النظر عن كل محاولة للتنظير والدراسة الاجتماعية والسياسية لا يستحقها. إنه نظام حكم الشبيحة، نظام التجاوز في كل شيء. تجاوز للقانون، وتجاوز للأعراف والأخلاق، وتجاوز للقيم والتاريخ الوطني السوري.

إنه التشبيح، الذي يتجاوز سورية والسوريين ويدمرهما، حفاظاً على حكم العائلة.

العربي الجديد

 

 

 

 

“المُحاسبة” في سورية/ هيفاء بيطار

سمع كثيرون بالجريمة التي ارتكبها الشاب الذي يتربع فوق القانون، سليمان الأسد، حين أطلق النار على ضابط يقود سيارته، لأنه (حسب سليمان) لم يوسع الطريق له . شهد كثيرون الجريمة، وعرفوا القاتل والقتيل، ولست ُ في صدد مناقشتها، ولا إن كان الفاعل سوف يُعاقب. ولكن، ثمة أمر أهم من ذلك بكثير، هو انعدام المحاسبة الحقيقية في سورية. وأعطي مثالاً، من عملي طبيبة عيون ربع قرن في المستشفى الوطني في اللاذقية، فقد تعاقب عليها سلسلة من مدراء الصحة النصابين، بالمليارات، ولم يُحاسبوا ولم يُعاقبوا. بقي الأول مديراً للصحة 23 سنة، وكان يقبض 5% من حصص الأطباء في القطاع العام، قانون ابتدعه لنفسه بمساعدة شلة كانت تساعده. وكان متواضع الحال، ثم اشترى مزرعة بالملايين، وكان يسافر في مهمات طبية سياحية، يقبض عليها بالعملة الصعبة. وبعد ربع قرن، حدثت فضيحة (تجهيزات وسرقات مستشفى طرطوس) ولم يعد ممكناً تغطية ورقة توت الفساد، فبدأت مرحلة المحاسبة الشكلية للمدير، وظل عناصر من جهاز التفتيش المركزي يقصدون المستشفى الوطني، ليحققوا مع العاملين والأطباء والمدير، وعلى الرغم من ثبات تهم الفساد والسرقات على المدير، والثروة الطائلة التي حققها، وعلى الرغم من رحلات الذهاب والإياب لعناصر التفتيش المركزي، فإن أهالي اللاذقية (والشعب السوري) فوجئوا بسفر المدير إلى لندن أربع سنوات، عاد بعدها وكأن شيئاً لم يحصل. وعاد مدير الصحة الذي استغل منصبه لمصالحه الخاصه ومنفعته، ربع قرن، إلى مزرعته في اللاذقية، وكأن شيئاً لم يحصل، والسؤال الذي تفجر عند كثيرين: لماذا لم يُسجن؟ كيف سمحوا له بالهروب إلى لندن وكل التهم تكبله؟ وكيف عاد وكأنه لم يرتكب أي جريمة؟

اتبع مدير الصحة الذي استلم بعده أسلوباً في السرقة مختلفاً، ويبدو أن من أسهل الأمور نهب المال العام، فلجان الشراء مع حفنة من الموظفين المنتفعين يؤلفون شلة النصب التي يجيدون تغطيتها والتلاعب بها، وتكررت القصة نفسها، وفاحت رائحة النهب والفساد، إلى درجة لا يمكن السكوت عنها، وبدل عقاب المدير المرتشي، فإنه ترقى إلى منصب دبلوماسي مهم! ومن المفارقة المضحكة المبكية أن الجرائد كتبت، في اليوم نفسه، (حين ترقى المدير المرتشي) أن أحد الموظفين حكم عليه بالسجن بالحبس عدة أشهر، لأنه ارتشى وطلب عشرة آلاف ليرة من مواطن، كي يُسهل له المعاملة.

لا عقاب حقيقياً في سورية للفاسدين، إلى درجة أنه يشيع عند السوريين أن هناك فئة فوق القانون لا يطاولها مهما فعلت، وأكثر المدن السورية فساداً وإنتهاكاً لحقوق المواطن وإهانته في الطريق هي اللاذقية، عاصمة التشبيح. ويمكن لكل لاذقاني أن يستشهد بمئات القصص عن عائلات اضطرت للفرار من سورية، لأن أحد أبناء المسؤولين أراد إقامة علاقة جنسية مع شابة من أسرة محترمة، كما لو أن البلاد والعباد ملكه.

تجد في اللاذقية أشكالاً من جنون السلطة وجنون العظمة، تجد شاباً شبيحاً، يقود سيارة هامر بسرعة جنونية، ويلاحق الفتيات، أو يحلو له أن يتوقف في عرض الطريق، ينهال ضرباً على رجل بعمر والده، لأن مزاجه أوحى له بذلك، أو يتسلى بأن يقصد مقهى رصيف، ويطلب من رواده (وعادة عجائز) أن ينبطحوا تحت الطاولات، ويبدأ بإطلاق الرصاص في كل الإتجاهات، غير مبال إن أصاب رصاصه الطائش أحداً.

لو أن هنالك عدالة حقيقية طُبقت منذ عقود في اللاذقية، ولو وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ولو كانت الأخلاق أساس توظيف المدراء والعاملين، لما وصلنا إلى هذا الدرك المخزي من الإجرام وانتهاك حقوق المواطن.

لقد بلغ السوري حداً يفوق قدرته على الصبر، وهو يشهد، خلال عقود، انتهاكات أبناء المسؤولين، وكأن الناس بهاليل بالنسبة لهم، ولا ينطق بكلمة، لأن صمغ الخوف ألصق شفتيه ببعضهما، ولأنه لم يجد عدالة نزيهة وحقيقية، بل جرائم الزعران الذين يتربعون فوق القانون يحملونها لأشخاص أبرياء فقراء وضعاف النفوس ويحتاجون المال. تتطلب جريمة سليمان الأسد الوحشية عقاباً صارماً، لأن ثورة الكرامة لم تعد في قمقم، بل انفجر هذا القمقم، وخرج منه مارد الكرامة والعدالة.

العربي الجديد

 

 

 

 

الحرية لسليمان الأسد/ مازن عزي

يبدو أن اعتقال سليمان الأسد، هو ضريبة سيدفعها الشاب المتنمر، ابن مؤسسة “الشبيحة”، لقاء تحول يطرأ على بنية السلطة في سوريا، أو ما تبقى منها. اعتقال سليمان، جاء رضوخاً إلى “ما يطلبه المحتجون” في الساحل السوري، ورغبة في تهدئة مشاعر الطائفة العلوية المتململة من امتداد زمن الحرب الأهلية.

استشهد سليمان في “فايسبوك”، بالآية السادسة من سورة “الحجرات”: “يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين”، وذلك لنفي اتهامه بقتل العقيد حسان الشيخ. استشهاد سليمان بآية من “الذكر الحكيم”، لا تجعله عضواً في حركة “أحرار الشام الإسلامية” ولا حتى “جبهة النصرة”، فالرجل بحسب قوله هو “ابن البطل الهمام”، والهمام هو هلال الأسد، ابن عم الرئيس بشار الأسد، وقائد قوات “الدفاع الوطني” في الساحل السوري، والذي قتل في العام 2014.

البيان الاستنكاري، منحول أو من “معجزات” سليمان، فاللغة راقية، والخطاب يعتمد استعارات وكنايات، وهو أمر لم يتوافر في كل أدبيات سليمان السابقة واللاحقة، والمقتصرة على الشتائم.

مقتل العقيد حسان الشيخ، على يد سليمان، تسبب في موجة غضب شعبية بين سكان بلدة بسنادا التي أضحت جزءاً من مدينة اللاذقية. الغضب لم يتعدّ سقف التظلم إلى رأس النظام، لكنه تمكنّ من حشد الناس في الشارع، ومطالبتهم بإعدام “القاتل” سليمان الأسد، واعتبار الضابط القتيل “شهيداً”. المتظاهرون هتفوا “الشعب يريد إعدام سليمان”، و”بدنا راسك يا سليمان”. للمرة الأولى منذ خمسة أعوام، ظهر “شعب يريد” في الساحل السوري، والمطلب ليس بسيطاً.

المحتجون، على اختلاف مشاربهم، يجمعهم اليوم بدءُ تشكل سردية مظلومية علوية، ضد نظام المحسوبيات. فالدولة العميقة، التي يُشكل المسؤولون الأمنيون العلويون عمودها الفقري، لم يعد لها نفوذ واسع في معظم الأراضي السورية، ما جعلها سلطة على العلويين، بشكل رئيسي. هذا التحول الذي طرأ على جمهور المحكومين، بدأ ينتج تناقضاته الداخلية؛ تناقض طبيعي بين سلطة قمعية ومحكومين من لون مذهبي واحد. فالسلطة التي لطالما كانت تمييزية واحتكارية تجاه الغالبية السورية، صارت شبه مقتصرة على “العلويين” والأقليات، وباتت مجبرة على تقديم تنازلات تمس بطبيعتها. وبحكم تناقص المساحة الجغرافية للحكم، وعدد المحكومين وانزياحهم المذهبي، فإن التمييز ونظام المحسوبيات سيصبح أشد تناقضاً ضمن المجتمع العلوي.

الشدّ المذهبي الذي خيّم طوال السنوات الماضية، غيّب هذا الفارق بين السلطة والمحكومين العلويين. وللحظة بدا من الصعب بمكان التمييز بين العائلة والطائفة. فإضفاء الهويات الماهية على الأزمة السورية، تسبب في خلق تحالفات واستقطابات، أخفت طبيعة الصراع الراهن على السلطة، وأحالته إلى بُعد تاريخي وهمي. ولا تنفي الإحالة التاريخية للصراع، وما تستجرّه من تغذية عقائدية واستعانة بالماورائيات، راهنية الشقاق السني-العلوي، وما اكتسبته من زخم ومرويات معاصرة، لكنها تطمر عميقاً أزمة السلطة وتغوّلها على الدولة. ظهور شقاق ضمني، بين الطائفة والعائلة، مع حفظ الاحترام والتبجيل للرئيس الأسد، هو ظهور علني لحالة عصيان غير مسبوقة ضد نظام المحسوبيات.

خطر هذه الحادثة، على تماسك الصف الواحد المذهبي المشدود، دفع إلى عدم انقطاع زيارات كبريات عائلات العلويين، وكبار مسؤولي الدولة، لأهالي الفقيد، وبعضهم نقل تعازي الرئيس الأسد، وتعهد بأن دم الشهيد لن يذهب هدراً. حتى أن أم سليمان وزوجة هلال، فاطمة مسعود الأسد، تبرأت من ابنها عبر منشور في مواقع التواصل الاجتماعي.

ذلك بالضبط ما يُحزن سليمان اليوم: “موقف الأهل والأصحاب والأحباب”، الذين لم يقفوا معه ويساندوه إزاء ما اتهم به، وهو البريء “كبراءة الذئب من دم يوسف”. سليمان على حائط اعترافه، قال: “في ما مضى، كانت هناك تصرفات لا أرتضيها الآن لنفسي”. اعتراف يندر وجوده في مثل تلك الأجواء، اعتراف ينسب الغلط إلى طيش الماضي البعيد، ويؤكد أن التطهر قد تمّ بعدما قدّس “البدلة العسكرية التي يرتديها رجال الله”، وقدّس “كلّ من حمل السلاح دفاعاً عن سوريا لأنهم رفاق السلاح مع أبي ورفاق دربه”. لكن اتهامات القتل لسليمان، أكثر من أن تُعدّ، ولا تدرج فعلياً في خانة الماضي؛ فهو مُتهم بقتل ابن خالته الطالب الضابط في الكلية الحربية علي خير بيك، في أواخر العام 2013، واطلاق النار على أمه واخوته منذ فترة قريبة.

في الأمر بداية تحول؛ فالسلطة التي تمكنت من ركوب مخاطر الحرب الأهلية، خلال الأعوام الماضية، تمكنت من إعادة هيكلة بنى النظام: الحد من وظائف الدولة العمومية، وخفض النفقات، والتركيز على المناطق المفيدة من سوريا. إعادة هيكلة الدولة السورية، كانت أشبه بالخصخصة، على شكل ومثال الدولة-العميقة. واليوم الدولة العميقة، بعدما أصبحت ظاهرية، أضحت مجبرة على لجم متنمريها العلنيين، في الساحل.

انكماش نطاق الحكم، والتحول المزدوج من دولة-أمة إلى دولة-طائفة، ومن دولة عميقة إلى ظاهرة، سيرافقه مأسسة “الشبيحة” وتحويلهم إلى شرطة وقوى أمن و”حسبة”. الخروج من الظل إلى العلن، سترافقه تضحية بمن يرفض شروط التحول.

سليمان الأسد، هو نموذج الضحية، التي أصبحت السلطة المتحولة مجبرة على تقديمها ككبش فداء. من سوء حظه، أن الدولة ضاقت، واتسعت دائرة الغضب، بعد “التضحيات” الكبيرة التي قدمتها الطائفة. وما كان مستحيلاً في لحظة انفجار غضب أهالي درعا على أفعال ابن خالة الرئيس عاطف نجيب، قبل خمسة أعوام، أصبح اليوم غير قابل للتفادي.

في مطالعة سليمان، وُجدت عناصر التراجيديا كاملة: إنكار وحزن واعتراف. فالملحمة التي سطرها، كانت انفجاراً لغضب عميق قابع في ذاته، عندما تجاوزته سيارة العقيد الشيخ. سليمان، بحسب شهود عيان، وأهل الفقيد، أخرج بندقيته، وقتل متجاوزه، أمام ابنائه وزوجته. ليس في الأمر ثأر شخصي، ولا ضغينة غائرة في النفس البشرية. مجرد انفلات لغضب آني، تجاوز حدود الكبت، بفعل ارتكاب المحظور: التجاوز.

الأمر كان ليمر بسهولة، قبل سنوات قليلة، وكان من الممكن للدولة العميقة حماية شبيحتها ومتنمريها عبر “أساليبها الغامضة”. لكن المسكين سليمان، قد لا يتمكن من استيعاب وفهم اعتقاله، فهو لم يغير شيئاً في طباعه، وما نشأ عليه.

المدن

 

 

 

مؤامرة كونية على الثورة/ فاطمة ياسين

امتلأت، أخيراً، صفحات المواقع الإخبارية والاجتماعية بصورة شاب أسمر بلحية خفيفة، يرتدي “تي شيرت” أسود وبنطالاً مموهاً، وبارودة على كتفه وفي يده مسدس، يدعى سليمان هلال الأسد. الخبر كما بات معروفاً هو مقتل حسان الشيخ، العقيد في الجيش السوري، بينما كان في إجازة مع أسرته، على يد هذا الشاب الأسمر.

قرأتُ الخبر على صفحة شاب موالٍ، يقيم في اللاذقية، ويدير موقعاً إعلامياً لنشر أخبار (انتصارات) الجيش السوري، ونشر الأمل وتلوين حياة سكان الساحل، على طريقة سعاد حسني، باللون “البامبي”، لكن أسلوب نقل هذا الخبر كان مختلفاً عن خط الموقع الإعلامي، فأتى مستاءً غاضباً واستخدم أول مرة وصف “شبيح” على أحد أقرباء الرئيس السوري بشار الأسد.

تلت ذلك تعليقات وطرائف، بعضها لمؤيدي النظام والجيش السوريين، ملأت مواقع التواصل الاجتماعي، استوحى أحدها من حادثة عقاب الخليفة عمر بن الخطاب أحد أبناء الأكرمين الذي جذع أنف رجل، بزَّه في أحد السباقات، فقال التعليق: “أتدوبِلُني وأنا ابن هلال الأسد؟” ورسم آخر لائحة عقوبات جديدة لمخالفات السير، وضمَّنها العقوبة بالقتل لفعل “الدوبلة”، أي تجاوز سيارة تسبقك بالالتفاف عليها، في إشارة إلى ما قام به العقيد المغدور مع ابن “شيخ الجبل” سليمان الأسد. وشاهدنا مقاطع فيديو تمثل الحادثة بطرائق طريفة، بعضها استخدم ألعاب سيارات، رفض سائقها إفساح الطريق للشبيح، فقتله الأخير، وأخرى مثلت مكالمات هاتفية بين بشار وابن عمه، ذكَّرت بتضامن الأسد مع ابن خالته، عاطف نجيب، الحدث الذي أدى إلى اندلاع الثورة الشعبية في درعا، ثم في عموم سورية.

بعد ذلك، نشرت قناة سما الفضائية، التابعة للنظام، خبراً اعتبرت فيه العقيد المغدور شهيداً، من دون لفت النظر لهوية القاتل. زاد هذا التغاضي من غضب الشارع، فخرجت مظاهرات بالمئات سألت: من يحاكم آل الأسد؟، وطالبت برأس القاتل، وذهب بعضها إلى التهديد بالانتقال إلى الجهة الأخرى من القتال في الحرب السورية، ومساندة “المسلحين” ضد النظام. أغرتْ هذه الأحداث، التي جرت في عقر دار النظام، بعض العقول المتفائلة، وبدأ شكل جديد من التحليلات، يلون مجالس المعارضين. وفي غمرة انشغال الناس والإعلام بتظاهرات اللاذقية، وبينما أصبحت متابعة أخبار الصفحات الموالية على أشدها، أطلق قائد جيش الإسلام في ريف دمشق، زهران علوش، تهديداً غير مفهوم التوقيت، بإغراق مدينة القرداحة بالصواريخ! وبعده بساعتين، سمعنا عن بيان لجيش الفتح، يبشر فيه الناس بأنه “سيحرر” قريتي الفوعة وكفريا الشيعيتين وسيدخلهما قريباً.

وكانت قرية الفوعة قد هُددت بالتحرير مرات من جبهة النصرة وكتائب أخرى، وباءت تلك التهديدات و”البشائر” بالفشل، حتى مل الناس خبر تحرير الفوعة وتناسوه، ولا يخفى على أحد الحماية الدولية التي تتمتع بها القريتان تحت مسمى “حماية الأقليات”، فإذا أضفنا إلى أقليات الفوعة وكفريا الأقلية العلوية في القرداحة، المتمتعة مع كامل مدن الساحل وقراه بحماية روسية أميركية غير معلنة، فسنستنتج أننا أمام حرب كلامية من جهة زهران علوش وبعض فصائل جيش الفتح، لن تلقى سمعاً إلا في آذان مؤيدين بدأوا بالتململ من تصرفات شبيحة آل الأسد في الساحل، لتذكّرهم أن عليهم نبذ الخلافات التافهة، والتسامح مع قاتلهم الداخلي، ليواجهوا معاً خطر صواريخ علوش ومتطرفي النصرة..

نستطيع أن ندرج تلك التصريحات في خانة الغباء السياسي، ونستطيع، أيضاً، أن نفلت لخيالنا المؤامراتي العنان، لينطلق إلى ما هو أبعد، ونتصور أن الجميع يعمل ضد ثورة الحرية والمواطنة التي سعى إليها الشعب السوري منذ نصف عقد ولا يزال.

العربي الجديد

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى