صفحات الثقافة

سذاجة خطِرة/ محمد الأسعد

 

 

المواجهة الشهيرة بين دون كيخوتة وطواحين الهواء، أو بينه وبين قطيع الأغنام، وجملةٍ من المواجهاتِ الأخرى التي ظن أنه يواجه فيها عمالقة وجيوشاً، حولّت هذا البطل الروائي، المأساوي إلى حدٍ ما، إلى كاريكاتير مثيرٍ للضحك، أو إلى أحمق لا ضفاف لحماقته.

هذا الدون كيخوتة، أو فارس لامنتشا، الذي كتب سيرته الإسباني ميغيل ثيربانتس (1547-1616) استغرق استغراقاً تاماً في قراءة رومانسيات الماضي وأساطيره من دون أن يميز بين الواقعي والخيالي. وأصبحت هذه النصوص “المقدسة” التي قرأها مرجعه وصوره عن الواقع من حوله.

وبناءً على هذه الصور، بدأ يتعامل مع الواقع من حوله، مستهدفاً تنظيم ما بدا له أنه فوضى، وإزالة ما فهم أنه ظلم، وعين نفسه فارساً يخرج لإعادة تكوين العالم، يقضي على الأشرار وينتصر للمضطهدين. وتحت مظلة هذا الوهم ظل يفسر ويفهم ما بدا له عصياً على الفهم. أي أنه ظل يتخذ موقفاً نصياً (استناداً إلى النصوص الخرافية التي ملأت دماغه) في مواجهة ما هو حي وواقعي.

النص المكتوب، سواء كان موروثاً من الماضي أو مكروراً في الحاضر، وسواء كان نتاج خيال أو ملحوظة واقعية، يظلّ نصاً مكتوباً، لا يمكن أن نبصر الحاضر في مرآته إلا بنوع من التمحل والهبل.

في أساس هذا الموقف تكمن مغالطة أساسها فرضية أن الفوضى العارمة والإشكالية التي لا يمكن التنبؤ بمساراتها، يمكن أن تُفهم وتحل على أساس ما تقوله النصوص المحفوظة، والسالف منها بخاصة.

ويعتقد إدوارد سعيد، في معرض تحليله لهذا الموقف النصي من الواقع، أن ما يفرض هذه المغالطة أمران؛ الأول ذلك المجهولُ والمهدِّدُ نسبياً الذي يواجه الإنسان، أو ما يعتقد أنه يواجهه تحت ضغط تهاويل وسطوة الصور النصية على التفكير، والثاني امتلاك المكتوب مظهر النجاح. فإذا قرأ المرءُ كتاباً لمؤلفٍ يحمل ملحوظات صحيحة، أو كانت صحيحة في أزمان أخرى، مال إلى قراءة كتب أخرى للمؤلف نفسه وتصديق ما فيها، وبهذه الطريقة يتعزّز التمسك بنوع من الموضوعات والمؤلفين، سواء كانت جغرافية أو تاريخية أو دينية أو فلسفية.

ويمنح تعزيزُ الموقف النصي “المكتوبَ” سلطة على المخيلة والواقع على حد سواء، بل ويقود إلى تنميط سلوك وأذواق وميول عاطفية في عصر من العصور، ولا يظل ثمة مرجع للنص، بل يتحوّل النص إلى مرجع بذاته، أو كما يقال حالياً، يتحول إلى “دال” مكتف بذاته لا يحتاج إلى “مدلول”، أي ما يدل عليه، وتكون السيادة هنا لما يدعى المنقول لا المعقول.

الأمر، كما يقول إدوارد سعيد، يرجع إلى قصور إنساني عام، يفضّلُ الإنسانُ بسببه سلطة النصوص على الإحساس بالضياع الناجم عن المواجهة المباشرة لما هو إنساني وحي يحتاج إلى قراءة جديدة. ولكن الأمر في مضمار سيطرة سلطة النص الموروث يتجاوز القصور، فهنا ميل إلى التجريد الذي يطبع التفكير بطوابعه. ولئن كان التجريد في مجال العلوم يعني تطوراً عقلياً، فهو هنا في مجال الاجتماع الإنساني يعني ابتعاداً وانفصالاً متواصلين عن ما هو واقع إنساني.

الدون كيخوتة ليس هو الوحيد في سلوكه وتخيلاته وحماقاته ومغامراته الحربية التي يخوضها مؤمناً حتى العظم أنه يحارب كما كان يحارب فرسان العصور السحيقة، فيتخذ من حصان هزيل فرساً، ومن طاسة حلاقة مغفراً، ومن جاره الفلاح البسيط تابعاً حاملا للدرع، ومن جارته الفلاحة الجاهلة سيدة وملهمة على عادة الفرسان القدامى، بل هو تصوير متطرف للموقف النصي، أي للموقف الذي يتحرك فيه الناس في ضوء الصور التي زرعتها في أدمغتهم النصوص، بسذاجة أو بسذاجة خطرة كما يحدث في أيامنا هذه.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى