صفحات سوريةنجيب جورج عوض

زيارة محتملة… ومطلوبة جداً/ نجيب جورج عوض

 

 

إن كان العاهل السعودي، سلمان بن عبد العزيز، يعتزم فعلاً القيام زيارة روسيا الاتحادية فحسناً جداً سيفعل استراتيجياً. منذ فترة قصيرة، ظهرت معطيات تقول إن هناك رغبة بإعادة ترتيب الدور الروسي ومصالحه في المشرق، في ضوء تغيير الخارطة الجيوستراتيجية الذي سينتج عن اتفاق الشراكة الإيراني-الأميركي. وقبل أيام، قالت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، إن لا حل في سورية من دون المرور عبر روسيا، والمعروف أن السياسة الخارجية الألمانية تجاه الشرق الأوسط تردد صدى تحولات وأفكار مطبخ السياسة الخارجية الأميركية. هذا يعني أن ما تقوله ميركل يفيد بأن زيارة ملك السعودية إلى روسيا لن تسبب إي إزعاج للولايات المتحدة، ولا هي بالضرورة تعبير عن رد فعل انزعاجي سعودي تجاه الميل الأميركي الواضح للتقارب مع إيران. وتعني جملة ميركل أن هناك ضوءاً أخضر أميركياً وأوروبياً للدفع باتجاه دور جيوستراتيجي جديد لروسيا، أحد مقوماته لعب دور أكثر مباشرة في عملية مصالحة مطلوبة بين الإيرانيين ودول الخليج (من باب السعودية طبعاً) وباقي العالم الإسلامي العربي (بدءاً من مصر).

سيقدم مثل هذا الدور من الإيراني جائزة ترضية ما لحليفه الروسي الذي خدم مشروع الأول بقوة في السنوات الخمس الأخيرة، وشعر فترة ما بأن الإيراني ماضٍ في عملية الفوز بكعكة المشرق برمتها من يدي الأميركي، من دون أن يعير هذا الإيراني أي أهمية لحفظ حقوق حليفه الروسي. وسيخدم مثل هذا الدور، أيضاً، الروسي في سعيه المحموم إلى الفوز، لا بدور سياسي أو عسكري في المنطقة، بل بدور اقتصادي ودبلوماسي-أمني فاعل في مستقبل المنطقة الآتي. يدرك الروسي أن أميركا أوباما ماضية في عملية خروجها من المنطقة إلى النهاية، وأنها تريد أن تجعل لها وكلاء في المنطقة، لإدارة شؤونها عن بعد، وبأقل التكاليف المادية والاقتصادية الممكنة. لهذا، يريد الروسي أن يقدم نفسه للأميركي على أنه يستطيع أن يكون شريكاً نزيهاً في المشرق، وأنه لا يطمع سوى بدور اقتصادي دبلوماسي، يعتقد أنه الذي يمكن أن يثمر مكاسب له في سياق تغيرات منطق صراعات القوى الحالية في عالمنا. كما أنَّ ذاك التقارب المحتمل بين الروسي والسعودي، ومعه العالم العربي المشرقي، سيخدم عرب المشرق، إذ يمكنهم أن يستفيدوا من الروسي في لعب دور وساطة وتقارب بينهم وبين إيران، يجنب ساحات الحروب، مثل سورية واليمن ولبنان، المزيد من الفوضى والدمار والخراب والأذية، وربما يجلب بعض البراغماتية الروسية العريقة إلى المشهد.

في أثناء الحرب الأولى في سورية (ضد الثورة السورية المدنية، إذ أسلمتها وعسكرتها وملشنتها (من مليشيات) دول تناصر إسقاط الأسد، وكذا إيران ونظامها الدمية في دمشق)، لعبت روسيا دور الوسيط وناقل الرسائل بين إيران وأميركا وأوروبا. مع بداية الحرب الثانية في سورية (ضد السوريين أجمعين، إذ حولت سورية إلى ساحة معركة صرفة بين إيران ودميتها الأسدية وحزب الله وبين الكتائب الجهادية الإسلامية، مثل جبهة النصرة وأمثالها، والمترافق مع دخول الفانتازيا الداعشية إلى المشهد)، حين قرر الأميركي أن يفتح خط تقارب وصفقة مباشرة مع الإيراني بدون وساطة الروسي الذي فقد دوره المذكور، وشعر أنه أخرج من المعادلة، فتشدد دبلوماسياً في حماية نظام الأسد في سورية، مثبتاً للجميع أنه لا يمكن محوه من المعادلة المقبلة. نتج عن هذا رضوخ الإيراني والأميركي معاً لرغبة الروسي، ومحاولتهما الحالية جعلته يلعب دور وسيط وعميل تقارب مطلوب بين إيران والسعودية والعالم العربي. كما أنه قد يكون بداية دفع لروسيا للعب دور إيجابي في عملية إيجاد نهاية مقبولة ومحسوبة وهادئة لسفاح دمشق، وإنهاء الحرب الدائرة بين الإيراني والخليجي-التركي في سورية.

“نعيش، في القرن الواحد والعشرين، عصر حروب باردة اقتصادية وافتراضية صرفة، قوامها معايير الكلفة والمردود، معايير الربح والخسارة النفعية، معايير حركة السوق وآلية الهيمنة التكنولوجية”

في ضوء هذا التطور المقترن بوصول الاتفاق الأميركي-الإيراني إلى مراحل متقدمة جداً، وتمني الأميركي على الإيراني بأن يتوقف عن لعب دور بلطجي المنطقة، ويتحول إلى مدير أعمال وشريك فيها، يجب قراءة زيارة ملك السعودية المتوقعة إلى روسيا. إن نجحت هذه الزيارة ستكون لبنة أخرى تضاف إلى لبنات المشروع الذي يبنيه صناع القرار للمشرق، بدءاً من اليمن وصولاً إلى سورية، وانتهاءً بلبنان، وربما أبعد منها أيضاً. تحتاج سورية حتماً مثل هذا التقارب الروسي السعودي ومنعكساته وممكناته حتماً. تقول كل تلك المؤشرات إن مشروع الحل في سورية بدأ يتشكل، خلافاً لكل ما نسمعه في الإعلام بأن لا حل في الأفق قريب.

ولكن، الأهم والأعمق من سورية، والمشرق نفسه حتى، أن ندرك أننا نعيش، في القرن الواحد والعشرين، عصر حروب باردة اقتصادية وافتراضية صرفة، قوامها معايير الكلفة والمردود، معايير الربح والخسارة النفعية، معايير حركة السوق وآلية الهيمنة التكنولوجية. كل تلك النيران المشتعلة الإيديولوجية والدينية والدوغمائية والطائفية، أثواب فانتازية افتراضية، هدفها شغل المجموع العام الشعبي بما ليس هو التنافس ومصدر الصراع الحقيقي بين صناع القرار في العالم اليوم. حين ندرك طبيعة الحرب الباردة ما بعد-الحداثوية الاقتصادية والمالية الصرفتين، نستطيع أن نفهم ولا نستغرب، أبداً، كيف يمكن للسعودي الوهابي والمتزمت دينياً أن يلتقي الروسي ذي الخلفية الشيوعية الماركسية العلمانية الصرفة، بعد أن تقاتلا حتى الموت في أفغانستان في معركة دعمتها السعودية المسلمة أيديولوجياً ضد أيديولوجيا الإلحاد المتمثلة بالاتحاد السوفياتي. ونستطيع أن نفهم، أيضاً، كيف يمكن للأميركي الشيطان الأكبر، ومصدر الشر المستطير إيديولوجياً، أن يلتقي ويتقارب مع الإيراني مصدر الإرهاب والتهديد الإيديولوجي للعالم أجمع، بثورته الدينية المناهضة لقيم التمدن والديمقراطية، كما درج الطرفان على اتهام بعضهما في العقود الماضية. ونستطيع، أيضاً، أن نفهم ما تفعله تركيا في علاقتها المتطورة مع إيران، أو حتى علاقة تركيا القوية والثابتة مع إسرائيل. نعم، المنطقة العربية بحاجة إلى استيعاب قادتها أننا نعيش قرناً جديداً، علينا قراءته بشكل صحيح، وتعلم الخوض فيه. وإلا، فلا حل لا في سورية ولا في اليمن ولا في لبنان ولا في مصر، ولا في أي بؤرة مشتعلة في هذا العالم العربي التعيس.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى