صفحات الناس

النزوح المليوني/ ساطع نور الدين

 رقم المليون نازح سوري في لبنان الذي اعلنته الامم المتحدة والحكومة اللبنانية، يوم امس الخميس، موجع. فهو يرفع التقديرات الدولية لعدد السوريين الذين هجروا من سكنهم في غير اتجاه في الداخل او الخارج الى ما يزيد على سبعة ملايين انسان. الحديث يدور الان عن واحدة من اكبر الهجرات البشرية على مر التاريخ. وهو يضاعف الاكلاف الانسانية والاخلاقية للحرب السورية التي فاقت كل التوقعات.

الرقم هائل، خصوصا اذا ما أرفق بالنزوح السوري غير المسجل وغير الموثق، والذي تمكن بالفعل من ازالة الحدود المصطنعة اصلا بين البلدين وبين الشعبين، واعاد التذكير مجددا بانها ليست موجة الهجرة السورية الاولى باتجاه لبنان، لكنها الاضخم طبعا. وهي مهما طالت في الزمن فانها لن تعادل تلك التي نفذها الجيش السوري في العام 1976 وامتدت حتى العام 2005.. ولن يكون لها بالتأكيد الاثر نفسه على الكيان اللبناني وعلى الصراع الابدي بين جماعاته المختلفة.

لكن ضياع لبنان او زوال حدوده نهائيا تحت وطأة هذه الموجة الجديدة ليس وارداً. فهو في الاصل محكوم بمثل هذا الدور التاريخي. ولعله مصمم للقيام به، والافادة منه الى الحد الاقصى، منذ الانفصال عن سوريا في النصف الاول من القرن الماضي، وحتى اليوم. فقد كان وسيبقى المفر الاول الذي يخطر في بال السوريين، من دون استثناء، وبغض النظر عن النظام السياسي الذي يحكمهم، وعن النظام السياسي الذي يسود في لبنان. الجغرافيا قدر ملزم للشعب. والتنقل في داخلها لم يكن ولن يكون في اي يوم من الايام معضلة سياسية، او انتهاكا لحدود شرعية معترف بها دولياً، بل مجرد رحلة عمل داخلية قصيرة، كانت تحفزها فترات الجفاف السوري المتعاقبة، وكادت تجعلها رحلات موسمية في معظم الاحيان.

هذه المرة، الكارثة أكبر، هي اقسى بكثير من ظروف الطبيعة التي عذبت البر السوري وكانت احد أسباب الثورة الحالية، ودفعت الملايين ايضا من السوريين الى النزوح في اتجاه السواحل. لكنها لن تؤدي الى تغيير جذري في خريطة المشرق العربي. يمكن بل من المؤكد انها ستقود الى تقسيم فعلي، غير معلن، على غرار التقسيم الواقعي الذي انتجته الحرب الاهلية اللبنانية، وتوابعها المستمرة حتى اليوم، والتي تتوج حاليا بفرز مذهبي ضمني بين السنة والشيعة، الذين يتباعدون يوما بعد يوم. وهنا لن يجد النازحون السوريون ما يشجع او يغري على البقاء في البيئة اللبنانية المضطربة على المدى البعيد، او على طلب التوطين الذي يطرح الان همسا في بعض الاوساط، مثلما هو الحال مع اللاجئين الفلسطينيين.

لهذا السبب ربما،  لم تزل مظاهر العنصرية اللبنانية تجاه النازحين السوريين في حدودها الدنيا، وتقتصر على قلة موتورة او متخلفة. وكذا الامر بالنسبة الى الحملات المناهضة لهذه العنصرية التي لا تزال تتركز الان في اوساط النخبة. ففي الماضي اللبناني القريب محطات كثيرة من العداء بل والاعتداء السافر على السوريين في مناسبات معروفة ومحفوظة جيدا في الذاكرة اللبنانية.. وهي لا تقارن مع الحوادث الفردية التي تسجل الان، والتي تشذ عن قاعدة الوعي والعطف، والسعي الى بناء علاقة ما مع المستقبل السوري المختلف عما ساد في العقود الاربعة الماضية، او عما ساد منذ اعلان قيام الدولتين.

يدرك اي لبناني ان النازحين السوريين لن يصبحوا لاجئين دائمين. سيعودون الى بلادهم، عاجلاً ام آجلاً. للوهلة الاولى، لن يجدوا سوى خراب ودمار لا يمكن وصفه او حصره. لكن تغيير نظامهم سيكون فاتحة لحركة اقتصادية لا حدود لها، تبدأ بأعادة الاعمار، وتنتهي بتحويل سوريا الى واحدة من اسرع الدول العربية نموا وازدهارا، وارتفاعا في اسعار الاراضي والعقارات والسلع.. ما يقلص دور لبنان ويخفض قيمته ، ويبدد مخاوفه المنضبطة حتى الان من موسم النزوح المليوني السوري الراهن.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى