صفحات الثقافة

من رام الله الى إعزاز : مشاهدات وقصص مروعة عن الثمن الباهظ للحرية في سورية

 

خالد حوراني

أيام قبل بدء الهجوم الاسرائيلي على قطاع غزة في عملية (عامود السحاب) وجدت نفسي في رحلة مستحيلة وغريبة الى شمال سورية. من رام الله الى جنوب تركيا، فشمال سورية ضمن وفد من فنانين عرب للزيارة وللتضامن مع اللاجئين السوريين في مخيماتهم على الحدود مع تركيا، في اطار مبادرة من مؤسسة المورد الثقافي التي مقرها القاهرة، وبمشاركة ناشطين معظمهم من مصر ومشاركة رمزية من فلسطين ولبنان.

لم اتردد بالموافقة عندما اتصلت بي بسمة من القاهرة تدعوني للمشاركة وكأنني كنت انتظر الدعوة وحزمت امتعتي وسافرت عبر جسر (اللنبي) الى عمان، فاسطنبول ومن هناك الى مطار غازي عنتاب في جنوب تركيا حتى وصلنا مدينة كليس البلدة الملاصقة للحدود مع سورية حيث يوجد مخيم كليس للاجئين السوريين ومعبر السلامة الحدودي.

لم اتردد لان الاحوال والثورة في سورية منذ بدايتها شغلتني وكانت هماً يسكنني ويؤلمني من بين ثورات ما سمي بالربيع العربي. لفتني حجم تعقيدها والتباسها المستمر وطول المدة والخسائر البشرية الباهظة التي يدفعها السوريون وحجم

المآسي التي تفطر القلب، عشرات الالاف من القتلى والدمار الكبير للقرى والمدن واضعاف مضاعفة من الجرحى والمشردين فاضت بهم البلاد الى الدول المجاورة. كل ذلك واكثر دفعني لمحاولة الاقتراب اكثر من الصورة. ليس رغبة في الاكتشاف فقط او التضامن او بدافع الفن وانما من اجلنا ايضا نحن الملفوفين بصمت ودهشة من لايصدق هول ما يحدث. ولكن كيف استطيع الوصول وانا اللاجئ الفلسطيني؟

وكيف يتضامن المنكوب واللاجئ من فلسطين مع منكوب في سورية؟

لفتني في البدايات الاغاني في المظاهرات وانتظام الناس في حلقات تشبه الرقص على اغان نحفظها في بلاد الشام عن ظهر قلب، شدني الهتافات واسماء الجمع والشعارات واللافتات التي تنم عن ذوق فني رفيع يسكن السوريين في خلفية المشهد.

عندما تطرب المظاهرة وينشد الجموع بدون نشاز هذه معجزة. ومعجزة عندما يصبح مجرد المشاركة في مظاهرة سلمية عملية انتحارية وقد استمر الحال حتى ادمت الاخبار من سورية قلوبنا، هل هذه هي ثورة المستحيل واين كان يختبئ كل هذا الموت والدمار للسوريين؟ ولماذا تبدو ثورتهم يتيمة الا من اضعف الايمان.

وكيف يسمح’العالم لهذه المآساة الانسانية ان تحدث وتستمر؟

على وقع الاخبار التي يسمعها ويشاهدها العالم كل يوم. وصلنا الى اسطنبول وآثناء انتظاري لبقية اعضاء الوفد ،تعثرت بالاثناء او تعثر بي احد السوريين الفارين من الاردن في محاولة للوصول الى سورية من الشمال للمشاركة في القتال. عبد الله من ادلب حدثني عن مأساة بلده وخروجه المعجزة الى الاردن وانقطاع السبل بينه واهله، وقد انشد قصيدة بالعامية ختمها ببكاء مر وهو ينشد اخاه الذي سقط الى جواره في مظاهرة سلمية. وجدتني اضمه الى صدري دون ان يكمل. وكانت هذه مقدمه من عيار ثقيل. بائع فواكه يتحول الى مشرد فمقاتل يا الهي.

ذهبنا بعد ان وصل الوفد وبعد تجميع الامتعه وصناديق التبرعات، والكتب وعلب الالوان وادوات الرسم والادوية، الى مطار غازي عنتاب محطتنا التالية قبل الوصول الى مدينة كليس على الحدود مع سورية. حيث يوجد الكثير من السوريين المهجرين.

بعد استراحة السفر اجتمعنا على العشاء في مطعم مجاور للفندق للتعارف وللحديث حول برنامج الرحلة، اليوم الاول زيارة مخيم اللاجئين في كليس والذي يضم قرابة 18 الف لاجئ سوري، واليوم الثاني، الدخول الى سورية عبر معبر السلامة وزيارة اللاجئين داخل الحدود السورية والتوجه الى إعزاز.. واليوم الثالث نعود للعمل في المخيم.

عادل امام

بالرغم من التنسيق المسبق مع الجهات المعنية الا أننا لم نتمكن من دخول المخيم في الصباح، واحتاج الامر لزيارة الوالي التركي، وترتيب الامر فالدخول ممكن بالتصاريح فقط. وقد ادار بعض اللاجئين عملية الترجمة والتوسط.. فلا يستطيع الدخول الى المخيم الا من يحمل بطاقة لاجئ او تصريحا. فهناك بوابات دوارة ونقطة تفتيش.. بينما تمكن بعض اللاجئين من الخروج لملاقاتنا بالترحاب والدهشة وبعض الاسئلة.. عن طبيعة الزيارة سألني لاجئ شاب فاجبته ونحن نتناول السحلب : نحن فنانون من مصر وفلسطين ولبنان وقال مبتسماً: هل عادل امام معكم؟

أثمرت محاولاتنا بالدخول إلى المخيم بعد تسجيل بياناتنا والكشف عن جوازات السفر والأمتعة… والذي كان أشبه ما يكون بمعتقل من الخارج ولكنه يدب حياة من الداخل.. بدا أطفال المخيم وكأنهم بانتظارنا ويعرفوننا.. منذ زمن ؟ يرافقنا مدير المدرسة ونائب مدير المخيم التركي إلى مرافق المخيم وأخذنا ننخرط مع الناس في السلام والسؤال’عن الأحوال.. وما هي الا لحظات حتى تكونت حلقات للنشيد والأغاني واللعب. ومن بين البيوت المتراصة تجمهر الناس حولنا، بعيدا عن الخطط والتحضيرات، قضينا وقتا ثمينا ونحن نستمع لأهالي المخيم والذي يلوذ بعضهم في صمت ثقيل من هول التجربة. ‘أنا من إعزار’ ‘وأنا من تل رفعت.. ومن مارع.. وأنا من حلب… ‘ باستثناء حلب لم أكن قد سمعت بهذه القرى والبلدات من قبل إلا من خلال أخبار القصف«’وكان قد علق في ذهني أكثر من أي شيء آخر لسبب لا أعرفه اسم جسر الشغور ومعرة النعمان وريف حلب.

انه اليوم الأول في المخيم ونحن بالكاد نعي ما يحدث وكأننا في حلم غريب.. كنت بدوري أتعجل التقاط الصور كدليل على أننا هنا وأننا نحظى أخيرا بمقابلة عينة من الضحايا لأكثر موجة عنف تشهدها المنطقة منذ عهود. الأطفال لا يمانعون بالتقاط الصور بل يتجمهرون حول الكاميرا بينما الكبار يلوذون بصمت وهم يطلبون بإشارة بطيئة باليد غالبا الرجاء عدم التصوير.. ولكن أهلا وسهلا..

سرنا باتجاه المدرسة عابرين طرق المخيم، وبسرعة أصبحت المدرسة مثل خلية نحل تمتلئ الصفوف عن بكرة ابيها.. ونحن بالكاد نخرج الألوان من الصناديق والكرتون والصلصال وبدء اللعب.. في غرفة مجاورة نسمع نشيد ‘جنة.. جنة.. جنة… والله يا وطنا.. يا وطن يا حبيب يا أبو تراب الطيب.. حتى نارك جنة.’ لم يكن لدي فكرة عما يمكن أن افعله مع الأطفال في هذه الحالة بعد أن نفدت الألوان وفتشت في حقيبتي عن أي شيء يمكن أن يبهرهم وكان هناك قلم تخطيط. وبدأت في كتابة أسماء الأطفال على ورق A4. ولاقى الأمر قبولا فاق توقعي. وكتبت الأسماء بخط النسخ، وطلب بعض الأطفال أن أضيف قبل الاسم صفة الدكتور، المحامي، الطيار، وحتى المجاهد. وطلبوا أن اتبع الاسم باسم البلد وفعلت. وعيونهم تلمع ونحن نحتفي بكل اسم بالتصفيق لمجرد وجوده سالماً على هذه الأرض.

وبعد أن نفدت مئات الأوراق، واستعنت بدفتر ملاحظات جديد لمتابعة المهمة أخرجت كاميرا التصوير واقترحت أن نقوم بعمل صور شخصية للجميع بالدور لنعيدها لهم مطبوعة في اليوم التالي بعد أن نرجع إلى بلدة كليس.

مر وقت لم أحس به، وكأنني احلم وكأنني عرفت هؤلاء الأطفال من قبل وأن ملامحهم مألوفة وأسماؤهم وطريقة نطقهم وحاجتهم للفرح. تخيلت نفسي في نادي شباب الخليل وأنا أقوم بالرسم مع أطفال ضحايا مجزرة الحرم الإبراهيمي. واختلط علي الأمر وقررت الاستئذان للخروج من الصف والمدرسة حتى أدخن سيجارة وأفكر قليلا، فقال لي بعض التلاميذ وقد جلسوا على مكاتبهم ‘ممنوع تدخن، صحتك يا أستاذ مهمة’ ‘ودخلك في شو بدك بتفكر؟’. رغم ذلك تركتهم مع مشيرة وهي تلفهم حولها بابتسامة وسع الدنيا ومرح. كان هناك مئات الأطفال في المدرسة بالرغم من أننا كنا’في وقت العصر. وهناك كان يجلس ياسر علام وحوله دوائر من الأطفال ليصغوا إلى حكاياته المرحة، وحمدي يوزع ما تبقى من الألوان…

الطريق الى حلب لم أكن منتبهاً لحجم المخاطرة، وانا اعبر في اليوم التالي مع ابو محمود الحدود التركية السورية مُهرَباً مشياً على الاقدام بعد ان تعذر عبوري مع زملائي من معبر السلامة لان الفيزا التركية على جوازسفري، دخول لمرة واحدة. كانت هذه الخطوة تحتاج الى’جرأة واستعداد للمجازفة، حياتي الان في يد ابو محمود وانا بالكاد اعرفه، وهواجسي تزداد وتثقل علي مثل تعلق كتل الطين في حذائي الرطب.

كيف أثق وهو يسير امامي مسرعاً بدون توضيح، وفقط كان يعطيني التعليمات، وما علي إلا أن امتثل لاوامره. يطلب مني التوقف تارة او الانتظار خلف شجرة زيتون قصيرة بالكاد تحجب قامتي ،ثم يحثني على السير مسرعا. . ثم امشي عاديا.. وتارة اخرى نعبر اسلاكا شائكة، هل يأخذني ابو محمود الى المجهول في هذه المنطقة الغامضة والمضطربة ؟

لا استطيع التراجع الان.. كأنني مخطوف بارادتي. ترى بماذا يشعر المخطوفون لحظة اختطافهم؟. هل سيقايض علي ومع من يا حسرتي، انني انفذ بدون تفكير اوتردد اوامره.. امشي. اهرول اختبئ مما لا اعرف بالضبط.

زاد الطين بلة وزادت هواجسي المجنونة، كيف اذهب بدون علم احد الى حتفي ربما؟

.. ثم لماذا يغامر ابو محمود وابنه الصغير معي دون مقابل ؟ وقد اسقط في يدي وانا اسمعه يتصل من هاتفه بشخص اخر، يطلب منه ملاقاتنا من الناحية الاخرى في تلال الشام بالسيارة عند وصولنا الاراضي السورية.

ما الذي يحدث؟.. قال لي ابو محمود هذا محمد من شبابنا في الجيش الحر سينقلنا الى إعزاز.. توكل على الله. واضاف لقد عبرنا الحدود الان نحن في سورية الحرة .. امشي عادي وعندما نصل الطريق تخلص من كتل الطين براحتك. عندها رن هاتفي والمتصل كان ابني عمرو من رام الله. ايش بابا وينك ؟ في تركيا يا عمرو.. واو بابا اسطنبول نيالك وأجبته بما تيسر.

وكنت اقول له في سري

– ابوك يا عمرو تائه الان في بساتين سورية الممتدة او تركيا لا اعلم بالضبط ، ابوك يا حبيبي لا يعلم الان انه اب.. وفرت دمعتي ،وانا اشاهد عشرات الاحذية امامي عالقة بالطين والوحل وقد تركها اصحابها اثناء هجرتهم القصرية من قراهم هرباً من القصف الى تركيا. وانا الان اتبع خطاهم، كنت أقرأ سيرة الفلسطيني وهجرته القسرية قبل 65 عاما في مرآة هذه الهجرة المأساوية.

في ارض ممتدة مزروعة بكروم وشجر الزيتون حيث الممرات التي خطتها اقدام من عبروا قبل ذلك.. بين حقول الالغام مررت على حدود الروح الساعية للخلاص من فظاعة ما يحدث. من هناك دخلت الى سورية متسللاً.. ربما مثلما يدخل المؤمنون القدس للصلاة في يوم جمعة حزين وممطر.. دخلت لأزور سورية واستمع واصغي وارى واشارك ولأقص شعري.. واكتب قصة الحلاق وبائع الحلوى. وهذا ما حدث.

تلال الشام

بعد وصولنا اليابسة تخلصنا من كتل الطين والوحل العالقة بأحذيتنا وكانت الطريق المعبدة على اطراف تلال الشام بالنسبة لي خيطا يوصلني من جديد الى الحياة ويلملم روحي. وماهي الا لحظات حتى أتت السيارة لتقلنا الى إعزاز، ابو محمود وابنه وانا وانضم الينا في الرحلة عقيد منشق عن الجيش وهو يرتدي بزة عسكرية أنيقة، أخبرني ابو محمود انه رجل طيب ،جلست الى جانب السائق وبدأت اشاهد الدنيا من خلال عدسة الكاميرا.. كان الضباب الذي يلف القرية والطريق ومتاريس الطين الموضوعة في الطرق، يضيف على الموقف هالة من الحزن والغموض.

فبالكاد استطيع ان اقرأ اسم مدرسة تلال الشام الابتدائية معلقة على باب مخزن كبير. وعلى جانبي الطريق استطيع ان ارى الكروم والاراضي المحروثة والمزروعه بعناية، الى ان وصلنا الى مفرق طرق كبير، على يمينه محطة السلامة للوقود وهي غير سالمة بالمرة ولا تعمل منذ طالها القصف.. انها اثار الحرب تبدو على البيوت المقصوفة واثار الرصاص والمركبات المحروقة، وقد اخبرني ابو محمود ان هذا المفرق شهد معارك ضارية قبل سيطرة الثوار والجيش الحر على المنطقة.

يقول كانت معارك كر وفر وسقط هنا الكثير من الضحايا من الطرفين عوضاً عن المدنيين فهذا نقطة هامة في ريف حلب، استبسل المقاتلون هنا لتحريرها. وعلى جانبي الشارع العريض باتجاهين، نرى بقايا بيوت ودكاكين تبدو مهجورة لتكتشف ان هناك حياة تبزغ. غسيل منشور ودكان لبيع المازوت ومحل خردة واطفال يلهون في زقاق معتم بفعل حريق ما. شعرت هنا ان الجدران والبيوت تتألم والهواء والشجر مصاب حرب ايضًا وتشوبه شائبة. بعد عدة كيلومترات وصلنا الى حاجز قرب اعزاز يسيطر عليه عناصر من الجيش الحر بأسلحة خفيفة ومتاريس ،كانو يشعلون الحطب في نصف برميل ويشربون الشاي. حياهم ابو محمود وتحدث اليهم قليلاً حتى مررنا بسلام ،وقال لي بعدها هنا أعزاز. واتفقنا على ان يوصلني الى وسط البلد حيث زملائي هناك وكنت قد تواصلت مع بسمة عبر الهاتف ،وهي غير مصدقة، وكانت مفاجأة لها انني تمكنت من الدخول. وقالت طبعا الفلسطينيون متعودون على تخطي الحواجز والطرق الالتفافية.. واضافت هيا نحن بانتظارك، ودعت ابو محمود ومحمود بعد ان تواعدنا على ان يرافقني في رحلة العودة في نفس اليوم لان علي ان اعود الى تركيا من نفس الطريق او طريق الخلاط وهي ابعد قليلاً كما قال. ونقطة اللقاء ستكون عند الفرن النووي، يا الهي ما هذه الاسماء المخيفة؟

مع ان النووي هذا مجرد مخبز عادي جدا قرب المسجد الكبير.

الحلاق ابن عمي

نعم قلت للحلاق في اعزاز انني اتيت من رام الله لاقص شعري في ريف حلب، واترك رأسي بين يديه يفعل به ما يريد،وأصور فيديو فقال مبتسما: اهلاً وسهلا يا ابن العم تفضل. هذا الحلاق بالنسبة لي كان يختصر ما يحدث في سورية وتحولاتها، وهو يحدثني على ايقاع صوت المقص. عن طموح السوريين الى الحرية، الثمن الباهظ الذي يدفعه الناس وحجم التضحية، وقصة جاره صاحب المطعم الشاب الوسيم الذي فقد النطق يوم القنابل الفراغية، وحدثني عن معجزة الصبر، المقاومة وخيبة الامل من العالم. وقال نحن لا نحتاج البطاطين من احد. نحن ليس لنا الا الله كما ترى. وبدأ يحدثني بحماسة عن الدين والجهاد وان ثورتهم في سورية هي اول الطريق الى بيت المقدس، رغم أن ديكور الصالون يبدو منفتحاً. ثم تابع :

قصص مروعه يا أخي ايه والله، وهو يصغي الى تعليقاتي والاسئلة.. حتى انتقل للحديث عن غسان كنفاني ومحمود درويش وكفاح الفلسطينيين من اجل التحرر الوطني. ثم غابت بالتدريج فكرة المقدس وكلمات الجهاد وجبهة’النصرة.

في بلدة إعزار، زرنا المدرسة التي أصبحت مركزا لتوزيع المؤن والمساعدات، إن وجدت، لاحظت في الممر الذي تتوزع على جانبيه غرف الصف مجلة حائط لطلبة المدرسة قبل الثورة وفيها موضوع عن الفراشات وصور، والى جانبها مجلة اخرى مرتجلة للمقاتلين عن الثورة. وانواع الصواريخ وصور وكتابات معلقة كيفما اتفق. إلى الشمال في غرفة الصف الكمبيوتر حسب اللافتة الصغيرة فوق الباب.. يجلس رجل ملتح ولباسه يشبه رجال الدعوة.. أمامه كمبيوتر محمول وحوله رجال ونساء منهكون ينتظرون تسجيل بياناتهم ربما.. فلا وجود لمساعدات عينية هنا. وبالطبع لا يوجد بالمدرسة طلاب رغم وجود بعض الصفوف الفارغة إلا من اللوح الذي كتب عليه بالطبشور آخر دروس في أكثر من موضوع ولغة.

هناك التقينا بمسؤول لجنة التعليم الذي أمطرناه بوابل من الأسئلة وهو شاب بلحية مشذبة وابتسامة مشاكسة يحاول أن يخفيها عنوة ليبدو متجهما كممثل فاشل.

وبدأ هذا الشاب الوسيم يشرح لنا سبب نقل الطلاب من المدرسة إلى الجامع.. وقد قادنا إلى غرفة المكتبة في آخر الممر المعتم وشرح لنا من الظلام ما لم افهمه.

هناك فراش في أرضية المكتبة وهناك عبارة قرب الباب ‘إن فيها كتبا قيمة’. على أية حال، لا يبدو أن هذا المكان يستخدم كمكتبة، ولا المدرسة مدرسة، إنها أشبه بثكنة.. وفي لافتة أخرى صغيرة فوق أحد الأبواب لاحظت عبارة ‘الفنون الجميلة’.

جزء عمّ

ذهبنا برفقة أحمد إلى المسجد المدرسة وهو مسجد قديم وصلناه عبر طرقات وأزقة ضيقة.. إنها وردية البنات الآن، هذا ما قاله أحمد. ويوجد أيضا روضة أطفال أو صف بستان.. دخلنا باحة المسجد. مئات الأحذية لبنات صغيرات في خزانة الأحذية عند الابواب وتفيض على الأطراف بالوان الطفولة الزاهية. خلعنا أحذيتنا أمام الباب ودخلنا المسجد ليستقبلنا شيخ صغير قصير القامة.. ربما هو إمام أو مؤذن الجامع بالعادة.. حلقات من الفتيات تنتشر في المسجد.. في كل حلقة صف ومعلمة محجبة وبعضهن يضع النقاب.

وقد استفسرنا عن نوع الدروس التي يتلقاها الطلاب ونظام التدريس.. كان الشيخ القصير القامة يلف ويدور وهو يجيب… أنهم كانوا يعلمون مختلف المواد في البداية، وأما الآن فإن الدروس تقتصر على الدين فقط.

وماذا عن الرياضيات والعلوم يا شيخ؟. استفسرت منه.

فقال: لا، هذا كان اول وهذا شغل المدرسة كما تعلم.

بلطف شديد شرح لنا الشيخ عن المدرسة بينما لم تقل أي من المعلمات شيئا..

والصفوف هذه مقسمة حسب الأعمار، يجلسون على الأرض مثل حلقات الذكر، او الكتاتيب ايام زمان لا لوح لا كتابة.. جلسات حفظ.. والتلميذات محجبات بالكامل حتى طفلات الروضة.

طلب الشيخ من إحدى التلميذات ان تقف وترينا مهارتها في الحفظ والتلاوة وقرأت لنا وأمام الكاميرا ما تيسر من سورة عمّ، فهي تحفظ عن ظهر قلب ‘جزء عمّ’ كاملاً. كانت الصغيرة تقرأ وهي تصوب نظرها الى الفراغ.

في ركن الروضة.. هناك آثار لقذيفة سقطت في إحدى غارات الأسد كما يقول الشيخ ولكنها الحمد لله لم تصب أحدا بأذى.. وقد أصلحت بالطوب والخشب…

في اعزاز البلدة المنكوبة والمحررة على الارض المهددة من السماء، بدا الناس وكأنهم يبحثون عن بقايا حياة ما وسط هذا الركام، فمن بين البيوت المهدمة يمر الناس من هنا وهناك، ينتشر غسيل معلق للتو. ترى دخان الطبخ، ومن بين عشرات الدكاكين في شارع ما تجد اثنين او ثلاثة تفتح ابوابها. وحتى ان هناك بسطة تبيع كفوف يد وكلسات وطواقي تركية الصنع. انها مدينة كغيرها من البلدات السورية المنكوبة تشم بها رائحة البارود ممزوجة بالصدمة والحزن.. تمر في مركز البلدة دوريات محمولة لمقاتلين من الجيش الحر في سيارات مدنية.. وعند المسجد الكبير والجديد نسبياً ترى’الدمار وقد احتوى دبابة معطوبة مكتوب عليها كلمة بشار.

من هناك في الطريق وفي اعزاز اجمالا.. يبدو المخيم في كليس وكأنه جنة مقارنة مع هنا،هناك في المخيم يوجد كرفانات للسكن ومدرسة وطرق وكهرباء وماء بينما احوال اللاجئين في غير أمكنة تبدو مأساوية وخاصة داخل الحدود السورية وعلى الحدود بعض اللاجئين يعيشون في خيم وبعضهم الاخر في العراء وفي مغر. وعلى الحدود تجد عائلات بكاملها تحاول التسلل واخرى تنتظر تحت الشجر، فيما يلقي الجيش التركي القبض على بعضهم ويعيدهم الي داخل الحدود السورية في مسلسل يتكرر يومياً او هكذا يبدو، رجال كهول، اطفال نساء ومرضى تقطعت بهم السبل يحاولون اجتياز الحدود في رحلة هرب غير آمنة.

تكبير.. الله اكبر

عندما تقرر مع المشرفين من المدرسة والتلاميذ وادارة المخيم اقامة نشاط ثقافي ندعو اليه الاطفال واسرهم للمشاركة في تقديم اغان ثورية وعروض للصور والرسومات التي انجزتها الورش، لم يكن ايجاد المكان المسقوف سهلاً والذي يتسع لاعداد كبيرة منهم في هذه الاجواء الماطرة، حتى تم اقتراح احد مستودعات المعونة والاغذية الضخمة وتم على عجل ترتيبه وافساح المجال للحفلة الموعودة في يومنا الثالث، وكذا فكرة الاعلان عن النشاط ومكانه لعموم المخيم وبعد جدال طويل واخذ ورد تقرر ان يتم الاعلان عبر مكبرات الصوت في جامع المخيم وكان البعض يتحفظ على وجود غيتار للعزف وعلى فكرة الغناء من حيث المبدأ.

ما ان أعلن عن ذلك عبر سماعات الجامع حتى تقاطر الاولاد يتبعهم اهلهم.. ساعة او اكثر قبل الموعد المعلن وكان الحضور كثيفاً ويشبه التظاهرة وبدأ الحفل دون ان يتمكن احد من ضبط الحضور او اتباع برنامج الحفل الذي اعدته بسمة وحنان بالدقيقة والثانية. كان عدد الحضور يفوق التوقع ولم يكن هناك كراسي للجلوس وفقط سجادات بسيطة للجلوس مدت على الارض بعجل.

غنى مادو اغاني ثورية كتلك التي في ميدان التحرير في مصر واغاني سورية يحفظها الاطفال عن ظهر قلب وكان نشيده يتقاطع مع اناشيد الاطفال واغانيهم والطريف ان الجمهو الغفير بعد نهاية كل فقرة واغنية يقوم وبصوت جماعي بترديد كلمة مشهورة في المكان.. تكبير.. الله أكبر، تكبير.. الله أكبر. امعانا في التقدير والبهجة. واستمر الحفل بمظاهرة اصبح فيها المنشد محمولا على الاكتاف.

أم مرعى

اختتمت الحاجة ام مرعي الحفل على طريقتها وهي سيدة عجوز من حلب وهي بمثابة ام لكثير من اللاجئين في المخيم.. وامام الكاميرات المتواجدة معنا وبالتحديد لطاقم تلفزيون اون تي في. قالت.. انتم من مصر اهلا وسهلا ومية مرحبا..

قولو لرئيسكم مرسي.. أخص وكررتها مراراً.. أخص عليه. تعشمنا فيه الخير حتى شاهدناه وهو يعانق السفاح نجاد على التلفزيون.. هل هكذا يكافئ الشعب السوري بأن يعانق رئيسكم من يقتلنا. واضافت نحن السوريين نعرف من يقتلنا ومن يقهرنا ونريده ان يعرف اننا نعرف. انه نجاد وحزب الله. وروسيا في الخلف ومصيرها على كل حال مثل مصير الاسد.

ملاحظة : هذه الشهادة كتب جزء كبير منها على جسر اللنبي اثناء رحلة الانتظار

الطويل في طريق العودة الى رام الله.

رام الله فلسطين 2013

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى