مراجعات كتب

من راي برادبيري إلى الكتّاب الجدد: تعلّموا من السحالي!/ أسامة فاروق

 

 

ولد مشروع “تكوين” في يوليو 2013 كمشروع ثقافي أدبي متخصص في الكتابة الإبداعية. انطلق “تكوين” منذ البدء بجناحين، كما تقول مؤسسته الروائية الكويتية بثينة العيسى، الأول هو تقديم دورات وورش عمل متخصصة في فنيات العملية الكتابية، والجناح الثاني كان تدشين قاعدة بيانات باللغة العربية متخصصة في قضايا الكتابة الإبداعية.

تقول العيسى:”الحقيقة أننا وجدنا أنفسنا شبه مضطرين إلى بناء قاعدة بيانات كهذه، لأن المكتبة العربية فقيرة إلى المحتوى العلمي الذي يتعاطى مع الجانب الحرفي من الكتابة، وحتى يتسنى للمشروع تصميم ورش عمل فعالة، كنا بحاجة إلى ترجمة مواد متخصصة في فنيات الكتابة الروائية والشعرية ونحوه”.

والبداية كانت مع كتاب “لماذا نكتب؟” لميريدث ماران، كانت بثينة قد قررت انتخاب بعض الاقتباسات المتعلقة بنصائح الكتابة لترجمتها، ثم وجدت أن الاقتباس لم يكن كافياً: “شعرت بأنني أمام مادة غنية بالتجارب وينبغي التعامل معها باحترام يليق بعمق التجربة”. وعليه، وجهت الدعوة من خلال موقعها الالكتروني إلى أولئك الذين لا يمانعون أن يعلموا بلا مقابل “باستثناء المتعة الخالصة للمنح والخلق”، وكانت المفاجأة هي تدفق طلبات الانضمام بشكل شبه يومي، فتكوّن فريق “تكوين” وولد الكتاب الأول -الذي حاول فيه عشرون من الكتّاب الناجحين أن يجيبوا على سؤال واحد “لماذا نكتب؟”- في شهور معدودة وخرجت طبعته الأولى في يونيو 2014.

والواضح أن إجابة السؤال ستكون محورا لكل كتب المشروع، فمؤخراً صدر الكتاب الثاني “الزن في فن الكتابة” لكاتب الرعب والفانتازيا الأميركي راي برادبيري – نشر 13 رواية وأكثر من 400 قصة قصيرة، من أشهر أعماله رواية “فهرنهايت 451 والتواریخ المریخية”، ومنها ما تحول إلى أفلام مثل “هیبة الرعد”- وهو لا يختلف كثيراً عن الكتاب الأول غير أنه محاولة مطولة من كاتب واحد للإجابة عن السؤال نفسه.

إجابة برادبيري لخّصها في الصفحات الأولى من الكتاب فقال:” أولًا وقبل أي شيء، إنها (الكتابة) تذكرنا بأننا أحياء، وأن الحياة هدية، وامتياز، وليست حقًا. يجب علينا أن نستحق الحياة بمجرد أن نحصل عليها. الحياة تطلب أن نردَّ لها الجميل لأنها منحتنا الحركة. ثانيًا، الكتابة منجاة؛ أيُّ فن، أيُّ عمل جيّد، هو بالتأكيد منجاة. عدم الكتابة، بالنسبة لكثيرين منا، يعني الموت”.

لنرجع خطوات إلى الوراء حتى نفهم من أين جاءت تلك الرؤية. في العام 1953 كتب برادبيري مقالاً لمجلة “the nation” يدافع فيه عن أعماله ككاتب لروايات الخيال العلمي، وبعد أسابيع وصلته رسالة من فلورنسا تحمل توقيع المؤرخ الفني الكبير ب.بيرنسون. لم يصدق نفسه، حتى فتح الظرف ووجد بيرنسون يمتدح مقاله، خاصة مقولته حول الجهد البدني المطلوب للكتابة، كتب بيرنسون: “إنها المرة الأولى التي أصادف فيها شهادة من فنان في أي مجال من مجالات الفن، يقول فيها إن العلمية الإبداعية تحتاج إلى جهد بدني، تحتاج أن يضع الفنان فيها من دمه ولحمه، أن يستمتع بها كمزحة أو مغامرة مدهشة”. وهكذا في عمر الثالثة والثلاثين حصل برادبيري على أول تأييد كبير لرؤيته وللطريق الذي اختاره لكتابته، بل وأصبح بيرنسون بمثابة أبٍ ثان له، وحصل على الدعم الذي يحتاجه: “كلنا يحتاج إلى شخص أعلى، أكثر حكمة، وأكبر عمراً ليخبرنا بعد كل شيء بأننا لسنا مجانين وأن ما نفعله على ما يرام”.

في سن المراهقة كان يكتب ألف كلمة في اليوم، ولعشر سنوات كتب قصة قصيرة كل أسبوع على الأقل، خمّن وقتها أنه سيأتي يوم ويحدث كل شيء تلقائياً، وجاء اليوم كما يقول في 1942 عندما كتب “البحيرة” في ساعة واحدة على المرج أمام المنزل ثم انهمرت دموعه: “بعد عشر سنوات من فعل الأشياء بصورة خاطئة، وصلت فجأة لفكرة صحيحة، للمشهد الصحيح، للشخصية الصحيحة، في اليوم والوقت الإبداعي الصحيح.. علمت حينها أنني كتبت أول قصة جيدة جدا في حياتي”.

وخلال العشرينات من عمره أتبع برادبيري الروتين التالي: صباح يوم الاثنين يكتب المسودة الأولى للقصة الجديدة، ويوم الثلاثاء يكتب المسودة الثانية للقصة، يوم الأربعاء يكتب الثالثة، ويوم الخميس الرابعة، ثم يكتب الخامسة يوم الجمعة، ويرسل المسودة السادسة المنقحة إلى نيويورك ظهر السبت، ولم تكن الرغبة في الكتابة وحدها دافعه للكتابة بهذه الطريقة، فقد كان يكتب مقابل عشرين دولاراً وتزيد إلى أربعين مقابل كل قصة تنشر في مجلات الإثارة: “لم تكن الحياة الباذخة طريقة عيشي، كنت بحاجة إلى بيع قصة أو قصتين شهريا لأتمكن من العيش على النقانق والهامبرغر وأطعمة عربات الشارع الأخرى”.

لا يتوقف برادبيري كثيراً أمام مأساته ككاتب، بل يحاول أن يجعل منها منطلقاً لطرح رؤيته للكتابة والعالم. فهو، بحسب فريق “تكوين”، من القلّة التي تنظر إلى الكتابة بصفتها “لذة ومتعة” عوضاً عن كونها معاناة. بالتالي جاءت تأملاته في الكتابة تحتوي طاقة تحفيزية هائلة، لأنه يحرض على تحويل الكتابة إلى لعبة، إلى مدينة ملاهي عملاقة يدلف إليها الكاتب قفزاً: “إذا كنت تكتب بلا لذة، بلا متعة، بلا حب، بلا لهو، فأنت نصف كاتب فقط. هذا يعني أنك مشغول جدًا في إبقاء عينك على السوق، أو أنك تنصت بأذن واحدة لما تقوله النخب الطليعية. هذا يعني أنك لا تكون نفسك. أنت حتى لا تعرف نفسك”.

لذا يؤكد على أن أول ما ينبغي للكاتب أن يكونه، هو أن يكون متشوقاً. أن يكون شيئاً مصنوعاً من النشاط والحمى. من دون حيوية كهذه، سيكون من الأفضل له أن يخرج لقطف المشمش وحفر الخنادق، لكن يجب أن يركض بوعي، أن يبدأ الركض وهو يعرف متى يجب عليه أن يتوقف، تلك الفلسفة القريبة من فلسفة “الزن” البوذية التي تحرض على الإخلاص في العمل للوصول إلى الكمال، يلخصها راى بقوله: “اركض بسرعة ثم قف ساكناً. هذه أحد الدروس التي يتعلمها الكتّاب من السحالي. بإمكانك ملاحظة ذلك لدى أي مخلوق يكافح للبقاء على قيد الحياة. فكلها تتقافز وتركض ثم تتجمد في مكانها كالحجارة.. كلما عجلت في التعبير عن مكنونات نفسك تدفقت الكتابة بانسيابية وصدق، مع التردد يأتي التيه في غياهب الفكر، وفي التأخير تأتي المجاهدة في اختيار الأسلوب المناسب عوضاً عن القفز مباشرة نحو الحقيقة، وهو الأسلوب الوحيد الذي ينبغي القتال من أجله”.

يحرض المؤلف على المحاولة، والمحاولة، فاللوحات الجملية حصيلة آلاف المحاولات، كذلك الكتابة، فالتجارب الكمية تمنح الخبرة ومن الخبرة تتحقق المهارة. لكن ذلك لا يعني أنه ينصح بالكم، بل على العكس يقول إن جميع الفنون صغيرها وكبيرها ما هي إلا تقليص للجهد المستنزف في سبيل الدقة والاختصار “فالأدب الرفيع إنما يكمن غالبا فيما لا يقوله الكاتب، فيما يختصره”.

لا يؤمن برادبيري بخلق الأحداث قبل البدء بالكتابة، كما لا يحبذ وضوحها وسهولة توقع ما سيحدث بعدها، فالوعي في نظرة هو عدو الفن بكل أشكاله “بل وعدو الحياة بذاتها”!

إذن، ما هو الجزاء الأكبر للكاتب؟ يسأل برادبيري ويجيب: تلك اللحظة التي يأتيه فيها أحد قرائه متهلل الوجه قائلاً بكل صدق وانشراح: “ما أروع قصتك الجديدة!”، حينها فقط تصبح الكتابة ذات قيمة. وهي عكس رؤية ديفيد بالداتشي التي طرحها  في الكتاب الأول “لماذا نكتب؟”، حيث يرى أن الكتابة لقرائك هو تعبير ملطف لكتابة ما تعتقد أن الناس ستقوم بشرائه، لذا يقول: “لا تقع في هذا الخطأ، أكتب للشخص الذي تعرفه جيداً، أكتب لنفسك”. وهذا اختلاف يؤكد أن الإجابة على سؤال “لماذا نكتب؟”، ليست سهلة، وربما لن نستطيع الوصول إليها أبداً.

(*) تُرجم كتاب “الزن في فن الكتابة” بجهودٍ تطوّعية لمجموعة من المترجمين في فريق “تكوين” للترجمة؛ بثينة العيسى، علي سيف الرواحي، أحمد العلي، هيفاء القحطاني، وليد الصبحي، نداء غانم، سارة أوزترك، ريوف خالد العتيبي، أسماء المطيري، جهاد الشبيني، هيفاء الجبري. وهو من مراجعة الشاعر والمترجم اليمني محمّد الضّبع. وصدر عن الدار العربية للعلوم ناشرون. وقد تنازل فريق الترجمة والمراجعة، بالإضافة إلى الناشر، عن حقوقهم من مبيعات هذا الكتاب لصالح تعليم الأطفال المتعثرين.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى