صفحات الناس

سقطت على أبوابها جيوش وحاصرتها أخرى: حمص السورية: مدينة الثورات والضحكات/ رند صباغ

 

 

حمص العدية مدينة الوليد، وعاصمة الثورة، أسماء وألقاب أطلقها السوريون على المدينة، روح الدعابة السورية، والنكتة الحاضرة في وجدان أهالي الشام، واحدة من أعرق وأقدم المدن في العالم، عرفت الإنسان منذ العصر الحجري، حاربت وانتصرت على أعتى الملوك والإمبراطوريات، دمرتها الزلازل والحروب، وآخرها الحرب الدائرة اليوم في سوريا، إلا أنها بقيت مدينةً صامدة بجمالها وقوتها وابتسامتها التي لا تختفي.

تعددت النظريات في أصل تسمية حمص، ومنها القول أن اسمها اتخذ من اليونانية «إيميسا» وهو اسم مشتق من إله الشمس الذي كان معبوداً في تلك المدينة وتم بناء هيكل كبير على اسمه استمر حتى القرن الثالث الميلادي، أما النظرية الثانية فترجح أن الاسم يعود لقبيلة إيمساني التي حكمت المدينة عدة قرون، فيذكرها المؤرخ اليوناني سترابو في مؤلفاته متحدثاً عن السلالة التي حكمت حول العاصي جنوب أفاميا مشيراً إلى كونها مملكة مستقلة، كما ذكرت في التوراة باسم صوبة، وعندما وصلها العرب أطلقوا عليها اسم حمص، في حين تتحدث نظرية أخرى ولكنها غير مثبتة بالفعل أن الاسم اشتق من الخمس، بسبب دمار المدينة خمس مرات وعودتها للحياة.

يعتبر نهر العاصي شريان الحياة لحمص، وسبب بدء أولى أشكال الحضارة فيها، فسكن الأوائل على ضفتيه مستغلين خصوبة الأراضي والمناخ المعتدل، ومع تقدم الزمن، حظيت حمص بأهمية أكبر مع نشوء الممالك والحضارات المحيطة، فصارت نقطة استراتيجية في منتصف إقليم بلاد الشام، وطريقاً تجارياً هاماً، حيث تفصلها مسافة 160 كم عن مدينة دمشق لتشكل نقطة عبور أساسية بين دمشق وحلب، وبين صور وصيدا والعراق وبيروت. وتشير بعض الدلائل في وثائق تاريخية أن حمص لعبت دوراً هاماً في العصرين البرونزي والحديدي، في حين تشير اللقى الفخارية إلى وجود الإنسان فيها منذ العصر الحجري، قبل أن تتوالى عليها الممالك والإمبراطوريات وصولاً إلى عصرنا الحالي، إلا أن علماء الآثار يعيدون بنائها إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، بناءً على لقى تل حمص (قلعة أسامة) الذي يُعتقد بأنه كان مسكوناً منذ منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد، بالإضافة إلى ذكرها بأسماء مختلفة في وثائق أثرية مثل التي وجدت في مملكة إيبلا.

جوليا دومنا

عرفت حمص أولى مراحل الازدهار مع حكم الملك سامبسيكروموس أول ملوك سلالة إيمساني، والتي حولها إلى عاصمة أساسية في المنطقة، ذات قوة ونفوذ عسكري وصل في قوته إلى مساعدة الرومان في حصار الإسكندرية في القرن الأول قبل الميلاد حيث اشتهرت بالصناعات الحربية وكانت ترفد الجيوش الرومانية بالرماة، ويعتبر المؤرخون أن العصر الذهبي للملكة كان بين عامي 20 إلى 14 قبل الميلاد.

مع القرن الثالث حكمت المدينة السلالة السيفيرية التي ينحدر معظمها من حمص لتحكم الإمبراطورية الرومانية بأكملها، وتزوج الإمبراطور سيبتيموس سيفيروس من جوليا دومنا التي كانت ابنة الكاهن الأعظم لإله الشمس في حمص، لتبقى جوليا دومنا واحدةً من أهم شخصيات المدينة التاريخية، متحولةً إلى رمزِ حمصي لا يزال أثره والتغني به حتى يومنا الحالي.

واستطاعت حمص فرض عبادة إله الشمس على أصقاع الإمبراطورية الرومانية، فتأخرت المسيحية حتى دخلت المدينة، وبقيت لوقت طويل محصورةً بالريف المحيط، بالرغم من وصول أحد أبنائها وهو أنكيتوس إلى منصب البابوية في روما بين عامي 154 و166. ومع حلول القرن الخامس الميلادي (قرن الكنائس في سوريا) أصبحت حمص مدينة مهمة للديانة المسيحية ومركزاً للمطرانية، وربما من أشهر شخصياتها المسيحية هو الطبيب والقديس مار إليان الحمصي (وهناك كنيسة أثرية باسمه في حمص حتى يومنا هذا).

وعرفت مدينة حمص تنوعاً كثيفاً في الحضارات والأعراق، فإلى جانب الرومان والبيزنطيين، اليونان والسريان والغساسنة والعرب الذين كان أولهم قبيلة كلب، وفي القرن السابع الميلادي كانت معركة اليرموك التي استطاع خلالها جيش عمر بين الخطاب هزيمة جيش هرقل، ليدخلها خالد بن الوليد بالسلم مقابل فدية مالية ضخمة تضمن الأمان لأهلها، لتعرف المدينة الإسلام في ذلك الوقت، وتم تحويل قسم من كنائسها لمساجد، مثل كنيسة يوحنا المعمدان.

ومع دخول الإسلام كان لحمص شأن كبير، وامتدت الولاية من تدمر شرقاً إلى اللاذقية غرباً ضامةً معها حماة وطرطوس وجبلة زمن الخليفة عمر بن الخطاب، إلى أن سيطر عليها الخليفة معاوية بن أبي سفيان وأعاد تقسيمها، و وثار سكانها مرتين على الأمويين زمن الخليفة مروان بن محمد، ليتم حصار المدينة لأربعة أشهر.

نسج الحرير والصوف

وامتدت ثورات أهالي حمص إلى الزمن العباسي، ما جعل المدينة في اقتتال دائم، فزاد الخليفة المتوكل على الله الضرائب على المسيحيين فيها، فزاد الغضب بين الأهالي واحتد الصراع، ما دفع الخليفة إلى حرق وهدم خمسين كنيسة وطرد المسيحيين منها.

ومع توالي الممالك على بلاد الشام توالت على حمص، فسيطر عليها الطولونيون والقرامطة والحمدانيون، وبقي سكان هذه المدينة ضحية للحروب والاقتتال، حيث عرفت مذبحة كبيرة على يد البيزنطيين في القرن العاشر، وكانت مركزاً للمعارك بين الدولة المرداسية (دولة بني كلب) والبيزنطية، وخلافات السلاجقة مع الفاطميين.

وانتقلت حمص لتكون جزءاً من الدولة العثمانية بشكل سلس، وابتعدت المدينة عن النشاط السياسي لتركز في العمل الصناعي والزراعي والرعوي، فاشتهرت بنسج الحرير والصوف، وعرفت معاصر زيت الزيتون ومطاحن القمح ومصافي المياه، وتبعت إدارياً ولاية حلب حتى عام 1579 ومن ثم تم إتباع سنجق حمص بولاية طرابلس حتى 1888. ومع نشوء ولاية بيروت انضمت لها، إلا أن العثمانيين أهملوا المدينة، بل وقاموا بهدم سورها التاريخي وأبوابها السبعة، ولم تتحسن أحوالها وتستقر حتى وصول جيوش محمد علي باشا من مصر (1832-1840)، ليعود سكان المدينة للثورة على الحكم الجديد بعد مدة رفضاً للضرائب المرتفعة والقمع، فقام المصريون بتدمير القلعة، إلى أن عادت إلى يد العثمانيين من جديد حتى انهيار الدولة والثورة العربية الكبرى.

لعبت حمص أدوراً هامةً جداً على الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية في العصر الحديث، بدءأ من خروج العثمانيين مروراً بالانتداب الفرنسي وأطوار تأسيس دولة الاستقلال والجمهورية، وحتى يومنا الراهن، وقد تبعت إدارياً أثناء الحكم الفرنسي لدولة دمشق (بحسب التقسيم الطائفي)، وبعد خمس سنوات كانت حمص ثالث المدن السورية المنتفضة في وجه الاحتلال ضمن الثورة السورية الكبرى.

بعد الاستقلال صارت حمص محافظة مستقلة، مركزها مدينة حمص، وفي عام 1959 تم تأسيس مصفاة حمص لتكرير النفط والتي غطت استهلاك سوريا بأكمله، والتي تضررت خلال حرب تشرين (أكتوبر) 1973 بسبب القصف الإسرائيلي، وخلال هجمات النظام في السنوات الأخيرة.

تشتهر حمص بزراعة الحبوب والخضار والقطن والشمندر السكري، أما في مجال الصناعة، فتألقت في مجال المنسوجات منذ زمن الحكم العثماني بالإضافة إلى المصانع الحديثة ومنها مصنع الفوسفات، ومصفاة النفط.

وما تزال حمص تحتفظ بآثار عدد من الحضارات التي احتضنتها، منها قلعة حمص، وتحصينات تعود للعهدين المملوكي والعثماني، بالإضافة إلى عدد من المساجد التاريخية منها مسجد الصحابي خالد بن وليد الذي يحتوي على ضريحه، وجامع نوري الكبير والذي كان معبداً وثنياً وحوله محمود نور الدين الزنكي إلى مسجد، بالإضافة إلى الحمامات القديمة والأسواق والخانات، وعدد من الكنائس لعل أشهرها كنيسة مار ا ليان الحمص، وكنيسة أم الزنار (التي تم تدمير قسم منها خلال الحرب الحالية) ويقال أنها تحتوي على حزام السيدة العذراء.

مدينة المفكرين والسياسيين

كما تشتهر حمص بالدعابة وهي مدينة النكتة في الوعي الشامي، وإن كان لا يمكننا التأكد من دقة المعلومة، إلا أن الباحث الحمصي جورج كدر يذكر في كتابه «أدب النكتة: بحث في جذور تاريخ النكتة الحمصية» بأنه وعندما اجتاح تيمورلنك بلاد الشام، كانت حمص الوحيدة التي لم تقع في شره، حيث تظاهر سكانها بالجنون فصاروا يقرعون على الصحون النحاسية وعلقوا القباقيب على رؤوسهم، فما كان من جيوش تيمور لنك إلا أن تمر مسرعةً وتترك المدينة خوفاً من الإصابة بلوثة الجنون.

ديموغرافياً، فإن معظم سكان حمص من العرب المسلمين، إلا أنها تعرف تنوعاً دينياً وعرقياً وطائفياً، فيسكنها السنة والعلويون والمسيحيون بطوائفهم، ومجموعة من الأقليات العرقية مثل الأرمن والشركس والتركمان.

وفي عام 2010 تم اقتراح مشروع سياحي وسكني وتجاري ضخم على مدينة حمص باسم «حلم حمص» قاده المحافظ الأسبق إياد غزال، وكان قد أثار غضب السكان، إلا أن السلطات القمعية لم تكترث وكانت على وشك التنفيذ، ومع بداية الثورة السورية عام 2011، انتفضت مدينة حمص لتشهد صدامات دامية، ومنها مجزرة الساعة في 18 نيسان (أبريل) 2011، بعدما قامت القوات النظامية بفض اعتصام شارك فيه عشرات الآلاف من أهالي المدينة، ولكن الحماصنة استمروا بالتظاهر بشكل مكثف، وشيئاً فشيء بدأت بعض الأحياء بالخروج عن سدة نظام الأسد، ما جعل الجيش يتدخل ويبدأ باقتحامه لبعض الأحياء منذ أيار (مايو) 2011، ومن ثم شهدت المدينة التي قاومت حتى الرمق الأخير حصاراً استمر مدة عامين، وكان شاهداً على أبشع الجرائم، وبرزت شخصية عبد الباسط الساروت حارس مرمى نادي الكرامة خلال الثورة في حمص، لقيادته للمظاهرات السلمية بداية الأمر ومن ثم وقوفه مع الجيش الحر وبقاءه تحت الحصار حتى النهاية.

ما زالت حمص تعاني إلى يومنا هذا، وأهلها ما زالوا تحت وزر الاعتقال والتهجير والعنف اليومي، وما زال حي الوعر الحمصي ضحية للحرب والاعتداء من جيش النظام السوري الذي يعمل على تغيير شكل الديموغرافيا في المدينة وإعادة التوزيع بشكل قسري.

حمص مدينة الوليد، وإن كبت اليوم فهي لن تنام، تلك المدينة التي أردفت سوريا والعالم بالمفكرين والسياسيين، فكان منها أبو الدستور السوري السابق الرئيس هاشم الأتاسي، وأهم شخصيات المعارضة السياسية في عصرنا الحالي مثل رياض الترك وبرهان غليون، والمفكرين المعاصرين مثل طيب تزيني وفراس السواح.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى