صفحات سوريةعلي العبدالله

سلام يُنهي كل سلام/ علي العبدالله

 

 

تحدث المؤرخ الامريكي دافيد فرومكين في كتابه” سلام يُنهي كل سلام- تكوين الشرق الاوسط الجديد” عن “سلام” عملت المملكة المتحدة على ارسائه بُعيد الحرب العالمية الاولى، عبر مفاوضات مع فرنسا وروسيا، قبيل انفجار الثورة الشيوعية، على تقاسم تركة الرجل المريض: السلطنة العثمانية، فيما عُرف في التاريخ السياسي بمعاهدة سايكس بيكو، والتي تحكمت المملكة المتحدة بتنفيذ نتائجها بما يتناسب مع مصالحها في ضوء ميزان القوى الذي يميل لصالحها في مواجهة فرنسا من خلال اقامة دول ورسم حدود وسدود في وجه تحرك القوى الكبرى الأخرى، وقد حكم نظرتها ومساوماتها تأمين حماية درة التاج البريطاني، الهند، من الطامعين فأعطت وعد بلفور وساعدت على قيام دولة اسرائيل على ارض فلسطين العربية، لحماية قناة السويس، واقامت امارة شرق الاردن، كحاجز يفصل اسرائيل عن الكتلة البشرية العربية الكبيرة في العراق حماية لها، وأسست مملكة العراق والحقت كردستان بها، ومنعت روسيا من احتلال اسطنبول ومضيقي الدردنيل والبسفور لمنعها من الوصول الى المتوسط ومنه الى الاحمر فبحر العرب والمحيط الهندي، وسيطرت على ايران واحتلت افغانستان لتقطع الطريق البري على تمدد روسيا القيصرية نحو الهند، واسست امارات في الخليج العربي ووفرت غطاء لتمدد عبدالعزيز آل سعود في الجزيرة العربية، فأنتجت بنية جغرافية سياسية تنطوي على تناقض في المصالح والحقوق تنذر بصراعات قومية وقبلية ودينية ومذهبية، ما دفع الكاتب فرومكين الى استعارة وصف المارشال ايرل ويفل لما حصل بـ “سلام يُنهي كل سلام”عنوانا لكتابه.

على أرضية هذه الخريطة تقوم الولايات المتحدة الامريكية منذ بضع سنين بصياغة “سلام” جديد بدلالة حماية اسرائيل والمصالح النفطية عبر المحافظة على الكيانات السياسية القائمة واللعب داخلها باقامة نظم سياسية على قاعدة المحاصة القومية والدينية والمذهبية، تبذر الخلافات وتشيع الهشاشة في دول تعاني أصلا من ضعف في اندماجها الوطني كي تبقيها عرضة لانفجار صراعات حادة وحروب أهلية بشكل دائم يستنزفها ويتركها نهبا للمشكلات وساحة للاستثمار والاستغلال، كما هو حال النظام اللبناني، منذ نشأته الى الآن، والنظام العراقي  الذي شكلته سلطة الاحتلال الامريكي بعد العام 2003، فتضمن عدم نهوض شعوب المنطقة وخروجها من تحت سلطات الامر الواقع التي فرضتها القوى الاستعمارية عليه وحمتها وباركت سياساتها غير الشعبية تأمينا لمصالحها واستمرارها وحمايتها.

وقد جاء تعاطي الولايات المتحدة مع تطورات الثورة السورية ومتغيراتها الميدانية والسياسية ليؤكد هذا التوجه جسده تبنيها لسياسة اطالة أمد الصراع ودفع الاوضاع الاجتماعية والسياسية نحو التفكك والتهتك من خلال غض الطرف عن قمع النظام لتظاهرات سلمية خرجت تطالب بالاصلاح واعادة الحرية والكرامة للمواطنين، واستخدامه للقوة المفرطة، وتسامحها مع مظاهر انتهاك حقوق الانسان وارتكاب مجاز بقصف المدن والبلدات والقرى، واستهداف المساجد والاسواق الشعبية والافران، وتقديمها دعما مباشرا للكرد دون بقية السوريين، من أجل اشاعة العداوة وتكريس القطيعة النفسية والشعورية بين السوريين على اسس قومية ودينية ومذهبية، وتحضير الرأي العام السوري للقبول بنظام المحاصة.

تقاطع التوجه الامريكي مع توجهي ايران وروسيا وتناغم معهما، الاولى بسعيها الى اشاعة العداوة والبغضاء بين السنة والشيعة العرب من خلال اللعب على مظلومية الشيعة وتحريضهم وتجييشهم وتحويلهم الى ميليشيات تخدم السياسة الايرانية في الاقليم، وقد دفعها فشل النظام في سحق الثورة السورية رغم دعمه بالاسلحة والخبرات العسكرية والمقاتلين والمال الى البحث عن حصة في الكعكة السورية عن طريق تبني نظام محاصة مذهبية وطرحت ذلك علنا في اقتراحها لحل الصراع في سوريا ببند يدعو الى تعديل دستوري “بما يتوافق وطمأنة المجموعات الإثنية والطائفية في سوريا”، والثانية(روسيا) من خلال تبنيها سياسة حماية الاقليات كغطاء لتبرير انخراطها في صراعات المنطقة وكسب موطىء قدم يسمح لها بمشاكسة واشنطن تحقيقا لهدف سياسي: الاعتراف بها كلاعب دولي على قدم المساواة مع الولايات المتحدة، واشراكها في صياغة القرار الدولي في نظام دولي ثنائي القطبية، واعلانها المتكرر عن استعدادها لحماية الاقليات، ووصفها تدخلها في سوريا بالحرب المقدسة، وتنسيقها مع ايران الشيعية في القتال في سوريا، وبيعها اسلحة متطورة تعزز قدراتها العسكرية في مواجهة خصومها من الدول العربية السنية. واللافت ان تبني روسيا لسياسة حماية الاقليات، وانخراطها في الصراع في سوريا وعليها، وتضحيتها بجنودها تنفيذا لهذه السياسة وسعيا وراء دور دولي يوازي دور الولايات المتحدة، يصب في طاحونة الأخيرة ويخدم هدفها في اقامة نظام ثان، بعد العراق، على قاعدة المحاصة المذهبية في سوريا. وقد ظهر هذا التوجه والتقاطع بصيغة عائمة في بيان فيينا1 في بنده الثالث الذي يقول بـ “ضرورة حماية حقوق السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الدينية”.

ينطوي هذا التوجه على مخاطر كبيرة على الكيان السوري وعلى مستقبل الشعب السوري لانه يتركه تحت وطأة الصراعات السياسية والحروب الاهلية المتكررة، لذا من الضرورة بمكان ان تتنبه المعارضة السورية عندما تجلس على طاولة التفاوض، وعندما تجتمع في لجنة صياغة دستور سوري جديد، الى هذه الزاوية وان تقاوم وترفض أي توجه لدستور يؤسس لنظام على المحاصة، كما وعلى دول اصدقاء الشعب السوري، وخاصة العربية والاقليمية، ان تعي خطورة الموقف وان تقاومه وترفضه لانه بمثابة سابقة وكمين قد تقع فيه، وانه في حال قبلت به لسوريا سيطالها في قادم الايام في ضوء وجود تنوع قومي وديني ومذهبي في مجتمعاتها ما يجعلها عرضة للابتزاز والتدخل في شؤونها الداخلية ودفع الاوضاع الى اقامة نظام محاصة يقيد وحدتها واندماجها الوطنيين ويحقنها بفيروس الهشاشة والتهتك.

على المعارضة وداعميها التمسك بالمواطنة كقاعدة دستورية لنظام ديمقراطي وسيادة القانون، نظام يحقق العدالة والمساواة بين المواطنين، بغض النظر عن العرق والدين والمذهب والجنس، يكرس الحريات العامة والخاصة ويشرك المواطنين في تحديد الاختيارات السياسية والاقتصادية الرئيسة، ويفتح الحقل السياسي امامهم عبر تشكيل الاحزاب والنقابات والمنظمات المدنية والحقوقية والجمعيات الخيرية والاجتماعية.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى