صفحات العالم

سوريا إنقاذ سلطة أم ولادة وطن؟


فيوليت داغر

ترى ما الذي يفرق بين جندي يصوب بندقيته ضد مواطن له وآخر يتمرد على الأوامر ويهجر وحدته العسكرية ولو كان الثمن خسارة حياته أو الاعتقال والمحاكمة؟ هل هو في الحالة الأولى الخوف من العقاب، أم الاقتناع بصوابية الأوامر العليا وإطاعتها مهما كانت لا إنسانية؟ هل هو الشعور بفائض القوة التي لا تقف عند حد، أم النزعة العدوانية والغرائز البهيمية ورد الفعل الشرطي بمواجهة خطر محدق؟

ثم هل هي، في الحالة الثانية، قيم راقية يستظل المرء بها وتسدد خطواته، وبناء نفسي وفكري وأخلاقي يتيح محاكمة الأوامر اللا إنسانية الحاطة بالكرامة ورفض الإذعان لها مهما تكن النتيجة؟

يقول عسكري أميركي سبق وخدم في جيش الاحتلال الأميركي في العراق: “اعتقدت بأنّني كنت سأصبح بطلا. كانت مهمتنا أن نقتل ونقتل بعيداً عن وسائل الإعلام. لأتمكن من تنفيذ واجبي ومن العيش مع ما كنت أفعله لهم، كان علي أن أرغم نفسي على كره هؤلاء الناس. أن لا أعتبرهم بشراً، بل أن أنظر لهم فقط كهدف وكعدو وتجريدهم من إنسانيتهم. لم أقل أيّ شيء لأني كنت سأتعرض للسجن والمحاكمة العسكرية، لكن فيما بعد أصبت بإحباط وخيبة أمل في بلادي وفي حكومتي”.

تعد تجربة ميلغرام من بين أهم التجارب التي تعرضت في علم النفس الاجتماعي لآلية الطاعة. لقد أبانت كيف يمكن حتى لطلاب خضعوا للتجربة بملء إرادتهم أن يرسلوا شحنات كهربائية لآخرين يصرخون ألماً ويرجونهم التوقف.

كما وأن يزيدوا رغم ذلك من حدتها، لمجرد أن هناك من يطلب منهم الاستمرار في مهمتهم. فالخضوع لسلطة أعلى غالباً ما يبرر اللجوء لما هو مناف للأخلاق والمنطق والقيم تجاه الغير، حتى ولو لم يكن هناك من فروقات وتراتبية مع أفراد المجموعة المعنية.

بداية التجربة على طلاب أميركيين، في دراسة مقارنة مع أقرانهم من ألمانيا، لاستكشاف العوامل التي حدت بالشعب الألماني للسير صفاً خلف هتلر والصمت على أعماله في تلك الحقبة الحالكة من تاريخ ألمانيا، حملت مليغرام لوقف متابعتها وكأنه كفر بالبشر.

الأمر الذي يجعلنا نفهم الضوابط التي وضعت في المواثيق الدولية لتجريم ومتابعة من يرتكب فظائع بحق البشرية، ولكن أيضاً لمن يصدر الأوامر التي تنتهك حقوق الآخرين، كما لمن يسهّل لها أو يغض الطرف عن ارتكابها.

علماً أن الجاني ليس فحسب من يصوب بندقيته لصدر خصمه، وإنما أيضاً من يستهدفه بالكلمة والموقف ويشوه صورته. بالتالي، هناك الكثير مما يقال حول مواقف اتخذها في الإعلام مثقفون ومحللون حللوا دم البشر واستباحة حرماتهم لاختلاف في الموقف ووجهة النظر.

كثيرون أيضاً من المثقفين والسياسيين العرب خصوصاً تخلوا في هذا الظرف العصيب عن موآزرة الشعب السوري بوجه الآلة القمعية، وكأنهم لم يعلموا باعتقال وتعذيب وقتل وتشريد عشرات الآلاف ومنع من الوصول للمشافي والعلاج بما تسبب بالموت.

وذلك بتهمة الإخلال بهيبة الدولة وبحجة ملاحقة الجماعات المسلحة والمندسين والسلفيين. والسؤال أي مصير ينتظر متواطئاً مع المجرمين عندما تتهاوى هذه السلطة وتظهر حقائق فظائعها بارزة للعيان، مثلما بانت فظائع أنظمة شقيقة سقطت؟

كل من يعيش في سوريا أو حتى يدخلها يعرف إلى أي حد يتابع الأمن كل شاردة وواردة ويحصي أنفاس كل مقيم وعابر. ثم لا يعطي وجود مسلحين مبرراً للسلطات السورية بمعاقبة الكل بجريرة الجزء، وهو الذي أساء للمعارضة والشعب قبل السلطة.

علاج هذه الظاهرة لا يكون القمع الوحشي وإطلاق يد القوات الأمنية والمخابراتية بل فتح الباب لخيارات أخرى تضع حداً لتفاقمها. فممارسات الطغمة الحاكمة هي من أعطت هذه المجموعة الصغيرة حجماً أكبر من حجمها الحقيقي ووفرت لها الدعم الداخلي والخارجي من ضحايا القمع ومن المتصيدين في الماء العكر، وأظهرتها بمظهر من يحمل راية التغيير والدفاع عن المظلومين.

من ناحية أخرى، اعتادت الشعوب العربية ومقاوماتها ومعارضوها على اتهامات العمالة والاستقواء بالخارج كلما خرجت مطالبة بالحقوق والحريات، في حين لا يخفى عليها أساسيات السياسات الدولية وأطماعها في المنطقة العربية عبر ظهورها بمظهر الحريص على حقوق الإنسان.

لكن في الواقع، القوى التي تنشد الحرية والديمقراطية هي من يقف ضد المخططات الخارجية، خاصة في سوريا كون المعركة واحدة. أما من يخلق المبررات للتدخلات الأجنبية، فهو من اختار الحل الأمني لإسكات احتجاجات الشعب على الفساد والاستبداد.

وبالتالي، لا يسدي الدفاع عن “نظام الممانعة” أية خدمة للشعب السوري، بل الأجدى المساعدة لوقف العسف وتزييف الوقائع والتعمية على الجرائم. أما من يعلم قدر نفسه من نظام العائلة الواحدة وحاشيتها، فلأي حدّ يحترم من يردد مقولاته ويروج ادعاءاته؟

لتحرير الأوطان، على الإنسان العربي تحرير الذات من عقدة الخوف والتبعية والشعور بالنقص تجاه من يمتلك موازين القوة. وهذا ما سجلته حركة المقاومة المدنية في سوريا. أما تقويض إمكانية الخيارات السلمية، فهو ما سيزيد من وتيرة السلوكات العنيفة والنهج الدوغمائي والمتطرف في البحث عن مخارج للوصول للتغيير المنشود.

إن الشعب السوري الذي يقاوم الطغيان، ليس أقل صمودا وقناعة بحقه بالحياة وبالكرامة من غيره من شعوب العالم العربي. تلك التي أظهرت تشبثها بأرضها وثوابتها وقيمها وحقوقها، وناضلت للتعايش المشترك والذود عن الهوية الوطنية الجامعة.

أما وسائل الإعلام، التي يفترض أنها تتحلى بالمهنية والحيادية والموضوعية، فقد حُرمت من الوقوف على ما يجري من أحداث وتأكيد أو نفي أطروحات الطرفين.

وكان هذا مصير بعثة تقصي الحقائق، التي صوت عليها مجلس حقوق الإنسان، ومنعت من دخول البلد كي لا تطلع على مجازر السلطات بحق الشعب. لكنها تعمل من الخارج لجمع الملفات وتكوين الأدلة.

من ناحيتها، بعثة الصليب الأحمر، لم تمكّن من الوصول لكل المجموعات المحتاجة لها. مع ذلك، صور بعض هذه المجازر -وبعكس مجازر حماة وغيرها في الثمانينيات، التي طويت فظائعها وغيب الموت من أعطى أوامره بارتكابها دون محاكمة أو مساءلة- وجدت طريقها للإعلام عبر وسائل اتصال متطورة، وبفضل أبطال غامروا بحياتهم ليوصلوا صوت المظلومين للعالم ويفضحوا الجرائم.

الأيام القادمة آيلة عاجلاً أم آجلاً لإنهاء حقبة اللا عقاب التي حمت زمناً طويلاً من استهان بالعباد باسم الحفاظ على أمن البلاد. من استولى على الدولة وسلم مقاديرها لأجهزة أمنية أحكمت قبضتها على الشعب لقاء بقاء الحاكم وتمكين تجمعات مصالحه.

فالشعب السوري يواجه أسبوعاً بعد آخر رصاص الأمن وفرق الموت وغدر الشبيحة، رغم أنه لم يعدم سبيلاً لتشديد على سلمية تظاهراته والتصدي للطائفية والتأكيد –خلا أقلية صغيرة- على عدم الالتجاء للخارج لمساعدته.

ألم يتسنى لهذه السلطة، وعلى امتداد أكثر من عقد من الزمن، أن تجري إصلاحات حقيقية لو رغبت، منتهزة فرصة تغيير بعض رموزها وعلى رأسهم من احتل قمة الهرم السياسي، ومستفيدة من فرص التحولات في المنطقة ودروسها العميقة؟

قبل 11 سنة، كتبت في مقدمة كتاب أشرفت عليه (“الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا”، منشور بثلاث لغات على موقع اللجنة العربية لحقوق الإنسان) ما مفاده: “بعد مضي أكثر من سنة على تولي الرئيس الجديد مقاليد الحكم، تبدو الأمور وكأنها ما زالت تراوح في مكانها. بعد فترة من التململ والأمل بانفراجات، تبدو ديناميات التغيير عاجزة عن قلب صفحة الماضي بشكل فعلي وفرض تحول جوهري.

ما زال -بتقديري- التكوين القمعي موجوداً هو نفسه عند المتحكمين بمقاليد السلطة. لكي يحصل تغيير جذري، أو على الأقل جدي ومجد، لا بد من تحول يمس عمق الوعي والسلوك عند الذين يقررون سياسات البلد.

وهذا لا يبدو ممكناً الآن، بل سيتطلب وقتاً طويلاً قبل أن يتحقق. كون بناء المجتمع بشكل صحيح يرتكز على بناء الإنسان بشكل سليم. لقد غلب الأمني على السياسي بشكل سافر. والخوف هو من تحول العنف الكامن عند المقموع إلى عنف فاعل مدمر لا يمكن التكهن بتعبيراته أو نتائجه”.

قد يكون من المجدي القول إنه بعد هذا العمل جرى منعي من دخول البلد في كل مرة توجهت فيها لسوريا. فالقرار الذي يتخذ في الدوائر العليا السياسية والأمنية يتعاطى مع الجريمة الفكرية بما لا يختلف عن الجرائم التي تستهدف أمن البلد.

أما اليوم، وقد خرج الشعب السوري منادياً بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، فكان أن اختصرت السلطة قراءتها لما يحدث بـ”جيل من الأطفال تعلم الفوضى وعدم احترام المؤسسات”. وهل هناك من مؤسسات في تكوين لا يرقى لمستوى نظام؟

كان الأمل في بداية الحراك الاجتماعي فهم رسالة الشعب واستيعاب عِبَر التجارب القريبة لتجنيب البلد مآسي إضافية وإخراج الوضع السوري من عنق الزجاجة. لكن ظهر جلياً عدم وضوح في الرؤية عند الساسة وصعوبة تقبل العقلية التي كلستها عقود من الزمن لتطورات الواقع والتغييرات التاريخية.

هذه التركيبة التي أثبتت فوق ذلك قلة نباهة وحذق سياسي، لم تقدّر أن دعوتها للحوار ووعودها ببعض إصلاحات لم تعد تكفي لطمأنة من خرجوا من منازلهم ولن يعودوا إلا بتغيير جذري يقطع مع الماضي ورموزه ونهجه. في حين كانت المطالب الأولى إجراء إصلاحات لا غير، وهذه الفرصة لم تتوفر لأنظمة أخرى تهاوت أو على وشك.

أما وقد وصل الوضع لما وصل إليه، فالحوار الجدي يجب أن يجري وقبل فوات الأوان مع الحركة الاحتجاجية والمعارضة الديمقراطية، وليس مع أشخاص يتم انتقاؤهم ولجان تشكل من فوق.

هذا في حال قبل المحتجون بالحوار، لأن للحوار شروطاً ومستلزمات وأرضية صحية تمنحه المصداقية وفرص النجاح. بدون ذلك، لن يتعدى الأمر ذر رماد في العيون وهربا للأمام واستمرار آليات النفي الدفاعية وإسقاط المسؤولية على الآخر.

إن التضحيات الباهظة، جراء الخيار الأمني وليس السياسي، هي ما جعل المطالبة بإسقاط النظام ترتفع فوق كل شعار. “الموت ولا المذلة” شعار يلخص على اقتضابه نبض الشارع.

وكون العنف ضد قوة الضعفاء السلمية يوسع دائرة من يتعرض للاضطهاد، موفراً بالتالي الحمالة الاجتماعية للتغيير، فقد ازداد في المائة يوم الماضية أضعافا عدد المنخرطين في الحراك المدني. هم من كل أطياف قوس قزح السياسي والاجتماعي والاقتصادي، خاصة مع انضمام مدينة حلب قبل أيام لركب المحتجين.

أما العقوبات التي اتخذها مؤخراً النظام الدولي ضد رموز السلطة السورية -بعدما ترك الحبل على الغارب وصمت طويلاً وانتظر تغييراً في المسلك والنهج ونصح بالإصلاحات- فهي تبدو رمزية بالنظر لما ارتكب من جرائم. ثم إنها لا تساعد على الخروج من المأزق الكبير. مساعدة المحتجين لا تكون بركوب الثورة ولا باستغلال الدماء الزكية التي سفكت.

والمطلوب تكاتف قوى الداخل والخارج السورية وعدم استقواء البعض بالخارج وتفويت الفرصة على من يسعى لشق الصف المعارض. ولعل هذا ما أدركته مبادرة هيئة تنسيق قوى التغيير الوطني التي مثلت الشرعية التاريخية للنضال الديمقراطي وجمعت في ورقتها قوة التشخيص وعقلانية خطة العمل.

هذه الأسابيع القليلة كانت كافية لتشييع الدكتاتورية، ولن تكفي دبابات الأرض لإعادتها للحياة. بالتالي، من الهراء، لا بل المغالاة في الإجرام، استمرار الحل الأمني. لا بد من وقف العدوان على المواطنة بأسرع ما يمكن، إن كان لدى المتحكمين بمراكز القرار أضعف الإيمان بأسبقية فكرة الوطن ومستقبله على مصالحهم.

خاصة في ظل تهديد الاقتصاد السوري بالانهيار بعدما توقف الاستثمار الأجنبي مع ما لحق من تدمير لقطاع السياحة، واستنزاف احتياطيات النقد الأجنبي مع محاولات الحكومة الحد من الضغط على العملة. لقد انخفضت الإيرادات عموماً لقاء تصاعد في الإنفاق الحكومي الإضافي.

ولوقف ذلك قد يلجأ الساسة للاستعانة بمن يمارسون أصلاً تدخلات في السياسات الإقليمية ويطوقون الثورات العربية من باب مد يد العون وتقديم المساعدات والقروض لمن يتصدرون المشهد. في حال كهذا، تصبح شرعية الشعب وسلطته المنتخبة هي وحدها القادرة على الخروج من الأزمة وتجنب الدخول في المجهول.

على القوى الوطنية والقومية والشريفة في الوطن العربي وخارجه مؤازرة قوى التغيير في سوريا (أكانت في الداخل السوري أم خارجه وهي التي شرّدت وهجّرت قسراً قديماً وحديثاً). وذلك بدعم حراك القوى الديمقراطية من تشكيلات شابة جديدة وتنظيمات مناضلة تقليدية وحقوقيين وشخصيات اعتبارية معروفة.

فانتصار الشعب السوري في معركة التغيير هو انتصار للشعب العربي برمته، وإنقاذ لهذا البلد من مآل لا يتمناه له إلا الأعداء والمتربصون به، بالنظر لوزنه الإستراتيجي وتأثيره على التوازنات في العالم وعموم المنطقة بنوع خاص.

وهذه المناشدة تتوجه لأصحاب الضمير من السوريين الذين ما زالوا على المدرجات يتفرجون، وأيضاً لمن هم داخل حلقات السلطات السورية السياسية والأمنية. فالنتائج يتشارك فيها الجميع وليس فقط لمن دفع الغالي وضحى بالكثير من أجل التغيير.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى