صفحات العالم

هل ينتقم التاريخ من نفسه؟

الياس خوري
في نهاية ثلاثية القاهرة، وقف بطل نجيب محفوظ الشاب كمال عبدالجواد حائراً بين انتماءين: الاخوان والتيار الماركسي. لكن التاريخ كان يمتلك خيارا آخر. جاء انقلاب الضباط الأحرار عام 1952، ليسدل الستار على الخيارين. ومع تحول الانقلاب الى ثورة اجتماعية وسياسية، نجح جمال عبدالناصر في سحق التنظيمين. اعدم قائد الاخوان وزج بأعضاء التنظيم في السجون، كما سحق الحزب الشيوعي والتيارات الماركسية، واذاق المناضلين الشيوعيين والاسلاميين هوان السجون الصحراوية.
لكن بعد عام 1961، اي بعد ما اطلق عليه اسم القرارات الاشتراكية، وبعد ترسخ التحالف بين مصر الناصرية والاتحاد السوفياتي، افرج عن الشيوعيين والماركسيين وجرى ابتلاع معظم رموزهم في اجهزة الدولة وحزبها الوحيد.
حكم الشيوعيون التقليديون في مصر على انفسهم بالاعدام السياسي، ولم تنفعهم مجلة ‘الطليعة’، التي كان يرأس تحريرها لطفي الخولي في الحفاظ على تميزهم. ومع الانقلاب الساداتي وما تلاه، صار اليسار التقليدي المصري هامشيا، لا يمتلك سوى ذاكرة ثقافية وادبية، حملها ادباء الستينات كشهادة على القيم الكبرى التي تم اهدارها. وجاء سقوط الاتحاد السوفياتي ليطوي الصفحة برمتها. ومع ثورة 25 يناير وجد اليسار المصري التقليدي نفسه ملحقا بالتيار الليبرالي الذي يقوده المليونير نجيب ساويرس.
اما الاخوان فعرفوا تاريخا آخر، استخدمهم الانقلاب الساداتي من اجل تحطيم النفوذ اليساري في الجامعات، وعرفوا حركات عن يمينهم تمثلت في القوى الجهادية، لكنهم نجحوا في المحافظة على انفسهم من التلوث بالسلطة، وعرفوا كيف يكونون حذرين في بدايات ثورة يناير قبل ان ينضموا اليها ويقطفوا ثمارها في انتخابات مجلس الشعب، وها هم اليوم يصارعون المجلس العسكري ويتحالفون معه، ويبرزون كقوة معتدلة مقارنة بحزب النور السلفي.
المعادلة التي رسمتها رواية نجيـــــب محفوظ ســــقطت باندثار احد طرفيها. وهــــذا ما حدا بعلاء الأسواني وهو يعيد كتابة ‘ميرامار’ في روايته ‘بناية يعقوبيان’، الى اسقاط شخصية الشيوعي من روايته واستبدالها بالجهادي الاسلامي.
عندما كتب محفوظ استعارته المصرية الثانية في ‘ميرامار’ عبر شخصية زهرة، اخرج الاسلاميين من الرواية، فالتيارات الاسلامية كانت في الستينيات تعيش صحراء التغييب الكامل عن المجال العام، لكنه نجح في المقابل في اكتشاف عمق الخيانة التي اخرجت اليسار من اللعبة السياسية عبر شخصية منصور باهي.
صعود الاخوان في مصر بعد سقوط مبارك مسألة تحتاج الى تحليل، وهي تشير الى مسألتين:
الأولى، ان المسألة لا يمكن عزلها عن مناخ عام يسود المنطقة، وتلعب فيه دول الخليج دورا بالغا، ان على مستوى المصريين الذين عملوا او يعملون هناك، او على المستوى الاعلامي، حيث نجحت فضائيات السعودية وقطر في ادخال الاسلام الى الحيز العام، بل تحويله الى مركز هذا الحيز.
اما الثانية فتتعلق بالفراغ السياسي الذي وجدت فيه الثورة المصرية نفسها، عبر انهيار احزاب المعارضة التي عاشت في كنف النظام من جهة، وغياب مؤسسات العمل السياسي التي سحقت في ظل الديكتاتورية.
هكذا ومع سقوط النظام بدت الحياة السياسية المصرية محكومة بثلاث قوى:
الجيش الذي لا يزال يسيطر على السلطة، وسوف يتابع مناوراته من اجل ان تكون له اليد العليا في اي حكم مدني سوف تسفر عنه الانتخابات الرئاسية.
الأخوان وعلى يمينهم السلفيون الذين اجتاحوا مجلسي الشعب والشورى، ويناورون من اجل تسلم السلطة عبر علاقة معقدة مع الجيش.
شباب ميادين التحرير، الذين فجروا الثورة، ويمثلون الطيف الديموقراطي المدني العلماني، والذين ضمر دورهم بعد اسقاط حكومة شرف.
المعادلة التي ارساها نجيب محفوظ في الثلاثية تعود الى البروز، ولكن مع تغير ميزان القوى بحيث صار الاسلاميون هم القوة الكبرى التي تتنافس مع الجيش و/ستتحالف معه، وليس قوى الشباب الديموقراطي اليساري.
هل يعني هذا ان التاريخ ينتقم من نفسه؟
هناك اشارات لا بد من التوقف عندها، وخصوصا التوتر الكبير بين الاخوان والدول الخليجية، المرشح للتصاعد. وبعده يأتي دور الأخوان الفلسطيني الذي يبدو انه يميل الى تبريد الاجواء بين حماس والسلطة تمهيدا لادراج حماس في معسكر الاعتدال.
هاتان الاشارتان الى جانب الخلاف الذي يتعاظم بين الاخوان والسلفيين تعني ان المسألة ليست جامدة، وان مسألة الحسم في مبنى السلطة المصرية لا يزال بعيدا، وان افق الصراع ينذر باحتمالات شتى.
من هنا فان خيار شباب الثورة بتفجير شرارتها، وخيارهم اليوم بالضغط ضد الحكم العسكري هما خياران صائبان، لكنهما لا يشكلان سوى نواة يمكن البناء عليها. وهنا يبرز التحدي الكبير الذي لا يواجهه الديموقراطيون المصريون وحدهم، بل يواجه كل الديموقراطيين العرب.
غير ان الدرس الأكبر الذي يجب ان لا يغيب عن البال هو ان انهيار اليسار المصري كان نتيــجة سياسة استسلام رعناء للنظام الناصري، قادت الى تغييب القوى الديمــــوقراطية قبل ان يأتي انهيار جدار برلين ليقلب المعادلات الايديولوجية برمتها.
السؤال هو عن معنى التاريخ؟ هل ينتقم التاريخ من نفسه، ام ان حقائق المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المصرية سوف تتغلب على هذا الخطاب الهوياتي السائد، وبذا تستعيد الثورة احتمالاتها الديموقراطية؟
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى