صفحات الرأي

ما بين خلافة وأخرى/ ماجد الشيخ

 

 

من محلية «الخلافة» الأولى وعصبيتها، إلى كونية «الخلافة» الحالية ودولتها، يكون قد مر دهر من الزمان، تقلبت فيه أحوال الناس والدول. ولئن لم يكن لـ «الخلافة» دولتها أول مرة، فلكونها لم تكن لها أية مواصفات معيارية بين القبائل العربية، أو يمكن القياس والمقارنة بينها وبين دول «متقدمة» لها تقاليدها في ذاك العصر. حتى دولة «الخلافة» العثمانية/التركية، وإن توسعت كامبراطورية، بقيت قاصرة عن بلوغ مواصفات الدولة، مقارنة بمثيلاتها الأوروبية، بل هي ظلت أقرب إلى دويلات الملل والنحل، المحكومة من قبل ولاة وسلاطين.

أما «الخلافة» الداعشية الراهنة، وإن يسعى «أصحابها» الى أن تكون دولة، بالمعنى الحديث للدولة، على رغم أن إدارتها في الجوهر تعود إلى عقلية ماضوية عتيقة، فهي لا تعدو كونها مجرد فكرة مثالية، بل ما فوق المثال، فلا وجود لمثيل لها في عالم الدول، إلا إذا اعتبرنا الصحراء وغياب الناس منها وبعدهم عنها، المثال الأولى والأوجب لقيام تلك الدولة الموهومة، وهي بالفعل كذلك، طالما استمر النزوع «الداعشي» الأكثر تعصباً في تكفير الناس وقتلها وتدمير مجتمعاتها ودولها.

وطالما استمرت أو تواصلت عمليات الإخضاع السلطوية، بمثل هذه الوحشية، فلن يكون ممكناً إقامة دولة ولو بدائية، يحكمها «التدين المضاد»، بحسب معتقدات أصحابها وأوهامهم عن الدولة الدينية التي تتحول مع مزيد الأوهام التدينية، إلى أوكار صحراوية، لأناس اعتزلوا مجتمعاتهم وابتعدوا عن أقرانهم من البشر، بفعل عوامل فردية وجماعية نفسية وجسمية، تحاول التمايز عن المجاميع البشرية السوية، وعدم التماثل معها، ومع قيم أخلاقية معيارية تشترك فيها كل المجتمعات البشرية وتؤمن بتطبيقها، على الضد مما يغايرها من قيم وتقاليد خاصة باستبداد سلطوي، يستعمل التدين سلماً للصعود إلى السلطة، ومن ثم لإفراغ سموم معتقداته في صحرائه الخاصة المسماة «دولة الخلافة».

إن اعتماد «الخلافة» على مهاجرين أتوا من كل الأصقاع، لم يترك للأنصار المحليين، سوى أن يكونوا تبّعاً لأهواء ورغبات العديد من النزعات الإجرامية القادمة، من كل القارات، وبالتالي إقامة العديد من حفلات التنافس والتباري على الإجرام والقتل، وقتال الدول والمجتمعات والمجاميع البشرية في كل مكان، وعبر كل القارات، وذلك في حجة فاضحة على فساد التديّن الذي يريد أن يجعل من «الخلافة» رأس سنام تديّنهم، ومن «جماعة المسلمين» على اختلاف أطيافهم ومذاهبهم، ومن بقية الأديان والجماعات البشرية، طرائدهم القابلة للموت في كل لحظة.

لهذا بالتحديد لا تتجه دولة «الخلافة» بسماتها الصحراوية، إلى أن تتحول يوماً إلى «دولة كونية»، فما هكذا تُبنى الدول، ولا هكذا «يسوس» الدين أتباعه، ولا هكذا يكون المتدينون متفانين في خدمة العدم، والفناء، فالدين هدفه الإنسان أولاً والإنسان أخيراً، وحيث التفاني يكون في خدمة الدين، لا في خدمة التدين الفتنوي الخصوصي الانتقائي والمزاجي، وما نراه اليوم من تدين، لا يتعدى كونه الأشد خصوصية في استجلاب العدم، وتصحير المدن وتدميرها وتدمير كل ما فيها من مبان وآثار وشواهد الحضارات القديمة، وأماني أناسها وبشرها في بلوغ مراتب التقدم والعمران والتحضر، بدل الإيغال في الفوات والتخلف والتصحر، والتفنن في رسم دوائر الموت عند حدود التناقضات وفي قلبها ومن جرائها، من دون أن تنال رغبة «الخلافة» لا «تمر الشام» ولا «بلح العراق» ولا «سمك البحرين» ولا «قات اليمن»، في ظل هذه المقاتل والمذابح والمجازر التي يغرقنا في بحارها مهووسون بالاستبداد، ومن تغرقهم بارانويا السلطة، وما أنتجته من فصام فردي وجماعي، في عدم بلا حدود ولا ضفاف.

* كاتب فلسطيني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى