صفحات سوريةعمر قدور

شكراً لك.. لقد قتلتَ معلمي وأصدقائي


عمر قدور

لا تغيب عن الذهن تلك اللافتة التي رفعها طفل من درعا، في مستهل الانتفاضة السورية، تقول اللافتة: “شكراً لك.. لقد قتلتَ معلمي”. كانت هذه الصرخة قوية ومؤلمة، دون أن ننسى الأطفال الذين كانوا الشرارة الأولى في تأجيج الثورة بدءاً من درعا. أولاد لم يرجعوا ليحكوا لنا ما دار في خلدهم فدفعهم إلى كتابة الشعارات التي تنادي بإسقاط النظام على الجدران. لم يعد أحد منهم ليخبرنا عن الهول الذي لاقوه تحت التعذيب. أولاد كان بوسعنا وصفهم بأنهم ما زالوا في نعومة أظافرهم لولا أن اقتُلعت أظافرهم بسادية قلّ نظيرها. يصعب علينا فهم سادية الجلاد التي تجعله يقتلع عضواً قبل أن يرمي بالجثة إلى أهلها. هكذا لم يفهم أحد دواعي قطع العضو التناسلي لحمزة الخطيب، فابن الثالثة عشر لم يفعل شيئاً قبل اعتقاله سوى الذهاب مع آخرين من قريته “الجيزة” في محاولة لفك الحصار عن درعا.

هاجر الخطيب، ابنة السنوات العشر، ليست قريبة لحمزة إلا بالمصير. هاجر تلميذة في مدينة الرستن قتلت وهي عائدة من مدرستها نهايةَ العام الدراسي المنصرم. الرصاص الذي أطلق يومها على الحافلة لم يميز براءة طفولتها من بقية الركاب الأبرياء. صديقات وأصدقاء هاجر لن يروها بينهم في الصف الدراسي هذه السنة، وهناك الكثيرين من أمثال حمزة وهاجر، إذ تشير الإحصائيات إلى أن عدد القتلى الأطفال منذ بداية الانتفاضة قد تجاوز المئتين أي ما لا يقل عن طفل يومياً. بالطبع الضحايا لا يذهبون إلى المدارس، لكن زملاءهم من الأحياء سيختبرون عاماً دراسياً مختلفاً، فعندما تتم محاصرة المدارس من قبل الأمن والشبيحة في “زملكا” سيتذكر الأولاد المحاصرون مصير أشباههم في درعا وحمص والرستن.

تنقل المدوِّنة كنان كيلاني عن صديقة لها في حمص تسرد قصتها يوم هجوم الأمن والشبيحة على مدارس القصور، تقول الصديقة: ابني في الصف الثامن في مدرسة حيدر قيس في حي القصور، قررت إرساله يوم الثلاثاء صباحاً إلى المدرسة، واحتياطاً أعطيته المحمول في حال حصول أي أمر طارئ، وبعد ساعة اتصل قائلاً: “ماما تعي خديني الأمن جاي بدو ياخد الولاد”. فأسرعتْ بالنزول وبينما هي في الطريق عند محطة الوقود على طريق حماه بدأت أصوات الرصاص تعلو.. وإذا بالطفل يتصل مرة أخرى قائلاً: “ماما لا تجي تركيني موت لوحدي ما بدي يصيرلك شي!!!”. فأكملت ولم تعلم إن كانت قدماها ستوصلانها للمدرسة أم لا من شدة الرعب والخوف، وأقسمت أنها رأت بأم عينها أناساً متجهين إلى نفس المكان منهم حفاة القدمين ومنهم نساء بلا حجابات من شدة الذعر على الأطفال!!! وصلت إلى المدرسة وإذا بأهالي كثير من الأولاد يخرجون حاملين أطفالهم والدم يسيل من الأطفال!! والناس تصارع رجال الأمن على أبواب المدرسة لمنع الأهالي من الدخول فاستطاعت الدخول أخيراً وإذا بطفلها مليء بالدماء!! فقال لها مسرعاً: “لا تخافي ماما مافيني شي هادا دم رفيقي تقوس جنبي!!!”. وبعد أن سألت عما حصل هناك، كانت القصة أن مدير المدرسة قد أبلغ الأمن بلائحة من أسماء الطلاب المشاركين بالمظاهرات فأتى الأمن سريعاً وبدأ الطلاب يحاولون الهرب من على السور. فبدأ الأمن بإطلاق النار وثار الأهالي بالتكبير وأصبحت كجبهة حرب بين الطلاب مع الأهالي والأمن المدجج بالسلاح!! والنتيجة أخيراً اعتقال 24 طالباً من مدرسة حيدر قيس مع مسح كامل لجميع مدارس الحي بما فيها مدارس المرحلة الابتدائية .. ولم يُعلم ما هي الحصيلة الكلية!

الاقتباس الطويل السابق نموذج لمغامرة الذهاب إلى المدرسة، ومن المهم ملاحظة سلوك مدير المدرسة الذي تكشف عن مخبر بحق الأطفال الذين يُفترض به حمايتهم. فليس جديداً على المدارس السورية أن يقوم إداري بالوشاية بطلابه، خاصة طلاب الصفوف ما قبل الجامعية، حيث من المعتاد أن يتم “تقييم” الطلاب “أمنياً” عن طريق الذراع البعثي الذي يمثله الإداريون. إن واحداً من أوجه حساسية التعليم يجسده ميثاق الجبهة الوطنية الحاكمة، وهي تضم حزب البعث مع أحزاب أخرى هامشية، فالميثاق منع أحزاب الجبهة باستثناء البعث من النشاط السياسي في صفوف الطلاب والجيش، وبناء على ذلك استباح البعث والأمن المدارسَ بقصد تفريخ أجيال نشأت على الطاعة وعبادة الفرد. بل إن الطلاب ملزمون يومياً بالاجتماع قبل التفرق إلى صفوفهم وترديد شعارات البعث؛ يهتف المشرف: “أمة عربية واحدة”. فهتف الجميع: “ذات رسالة خالدة”. يهتف: “أهدافنا؟”. فيرددون: وحدة، حرية، اشتراكية.

توقع البعض اختصار أهداف البعث إلى الوحدة والاشتراكية كما تشيع النكات، لكن طلاب ثانوية “قارة” كان لهم رأي آخر في هذا العام. فعندما هتف المشرف: “أمة عربية واحدة” ردوا بالقول: “رسالة البعث فاسدة”. ولما تجاوز الأمر قائلاً: “أهدافنا؟” ردوا: “سورية حرة أبية”. حتى بعد مرور صيف دامٍ لم يستوعب النظام انتهاء العهد الذي يكرر فيه الطلاب كالببغاوات ما يُطلب منهم. على العكس من ذلك كانت المشاهد التي رآها العالم عن احتجاز المعتقلين في المدارس أثناء العطلة، وإجبارهم على ترديد هتافات الولاء تحت التعذيب، إشارة فظة إلى رؤية النظام للعملية التعليمية ككل. لا فرق بين الطلاب والمعتقلين عندما يتعلق الأمر بإظهار الطاعة والولاء. حتى الأبنية المدرسية التي شُيدت أثناء حكم البعث تقول أن لا فرق بين المدرسة والسجن، فهذه الأبنية ذات تصميم واحد يفتقر إلى الحد الأدنى من الذوق والجمال، والنوافذ والممرات محكمة بشبك معدني يذكر فوراً بالسجن، أما فساد التعليم فقد أضحى الحديث عنه الآن بمثابة الترف بالمقارنة مع لعبة الدم التي يُجبر الأطفال على الخوض فيها.

في لوحة مؤلمة عن حال العام الدراسي الحالي نرى طلاباً يجلسون على المقاعد، وبجانب كل منهم بطاقة باسم الطفل الشهيد الغائب. عام دراسي لا يطوي حقبة وإنما يأتي مشتبكاً مع الانتفاضة. فطلاب بعض المدارس استهلوا يومهم الأول بالخروج من المدرسة إلى التظاهر، ويعلم الأهالي أن الهم العام تسلل إلى أفئدة الصغار فشغل حيزاً من اهتماماتهم ونقاشاتهم وحتى ألعابهم. لقد شبوا عن الطوق سريعاً، وليس بوسع أحد السيطرة عليهم أو تلقينهم، فعندما أخرج النظام مسيرة من الصغار في مدينة “السويداء” هتفوا بالشعارات المؤيدة لكنهم أعقبوها بالهتاف: “الشعب يريد إسقاط النظام”.

قد نقول إن الأطفال يقلّدون ما يرون ويسمعون، وقد نقول إن حساسيتهم أعلى مما يروق لنا؛ المؤكد أن أطفال سوريا يمرون بتجربة قاسية، وبقدر ما يفاجئوننا بطرائفهم وبوعيهم فهذا ممزوج بالأسى لأن الجميع يتمنى أن يصنع لهم المستقبل، لا أن يساهموا بصناعته بدمائهم. لقد كانت لعبة “عسكر وحرامية” شديدة البراءة إذا قيست بلعبة “الشبيح والمعتقل” التي ينشأ عليها الطفل الآن. حتى حكايات الجدات القديمات عن الغول الذي يأكل الأطفال المشاغبين تبدو مداعبة شديدة الخفة أمام الشبيح الواقعي الذي يحاصر مدرسة أو يقتحمها.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى