صفحات المستقبل

شهيد “عنب بلدي”

 

محمود الحاج

سيظل اسم داريا يخفي وراءه الكثير مما لا نعرفه. ثمة مئات من الشباب والنساء يعملون بصمت المكتفين بعطائهم في الحديقة الخلفية لهذه المدينة في ريف دمشق، والتي، لسوء حظ أهلها، يشكّل موقعها أهمية استراتيجية لجيش النظام، الذي لا ينفك يدكّها منذ شهور وشهور. المدينة التي يبقى “أبطالها اليوميون” فيها، وقلما يظهرون في الإعلام أو يصبحون “نجوماً”، يُقدّر لنا ألا نعرفهم، إلا حينما تقترن أسماؤهم بالموت. أحمد خالد شحادة، الناشط المدني والخبير الاقتصادي وأحد أعمدة صحيفة “عنب بلدي”، الذي استُشهد مساء الثلاثاء، لن لا يكون آخر الشجعان الدارانيين الذين تخسرهم مدينة لا تفتح ذراعيها للموت إلا لتطرد المذلة.

الحديث عن أحمد شحادة يعني الحديث عن شقيقيه محمد وسليمان، وعن غياث مطر ومحمد قريطم، وعن عشرات آخرين، رسموا بنشاطهم دائرة العمل المدني في داريا. سبق هؤلاء الكثير من السوريين بخروجهم من بيت طاعة النظام. سبقوا الثورة بسبعة أعوام. كانوا شباباً في العشرينيات من العمار، عندما أسسوا في 2003 مجموعة “شباب داريا”، التي نشطت اجتماعياً لتحسين وضع المدينة، وتنقيتها من شوائب الاستبداد والفساد. وبالطبع، جرب هؤلاء الشباب الدورة “المنطقية” لأي نشاط اجتماعي سلمي في سوريا، والتي لا تكتمل من دون دخول السجن بتهمة “نشاط مدني محظور”.

كان أحمد، وأصدقاؤه هؤلاء، من أوائل الذين خرجوا إلى الشارع مع بداية الثورة. طبقوا التعاليم المثالية لأي ثورة تسعى إلى تغيير ديموقراطي سلمي. كانوا، ربما، الدائرة الشبابية الأكثر ابتكاراً وإبداعاً منذ بدء الثورة: واجهوا بالورود وقناني الماء جنود النظام ورجال أمنه المدججين بالسلاح، واحتالوا على منع التظاهرات واستهدافها بستجيلهم الهتافات صوتياً وبثها من خلال مكبرات صوت وُضعت على أسطح البيوت، كما صمموا فزّاعات من خشب وقماش، على هيئة بشر، وحملوها لافتاتهم ومطالبهم بالحرية والعدل والمساواة. في فترة لاحقة، اشترك أحمد مع هؤلاء، وغيرهم من شباب داريا في تأسيس المجلس المحلي في المدينة، قبل أن ينضم إلى فريق جريدة “عنب بلدي” (الأسبوعية، وواحدة من أبرز الصحف المناطقية التي نتجت من الثورة) ليتسلم صفحة “سوق الهال” الاقتصادية فيها، ثم ليصبح مديراً لتحريرها. قبل ذلك، عمل مساعداً في الشؤون الاقتصادية لدى بعثة الاتحاد الأوروبي في دمشق، إلى حين توقفها عن العمل بعد ازدياد عنف النظام.

اعتقل أحمد مرتين في العام الأول من الثورة. في المرة الأولى، سجن 15 يوماً بتهمة التظاهر، في حين امتد اعتقاله الثاني نحو ستة أشهر بتهمة العمل الإغاثي. صديقه في النشاط المدني، وفي المعتقل لمدة أربعة أشهر، أسامة أبو زيد، يقول إن الشهيد “كان صانع التفاؤل والصبر لدى زملائه داخل السجن وخارجه”. صديق آخر لطفولة أحمد ولعمله في أسبوعية “عنب بلدي”، يعيد المفردات ذاتها حينما نسأله أن يصف الشهيد. يتحدث كل أصدقائه عن كاريزميته وثقته وإيمانه بالنصر، وعن شخصيته التي أثّرت في كثيرين من المحيطين به.

خلّف أحمد باستشهاده فراغاً كبيراً. ترك عائلته وزوجته، و33 سنة دارانية. استُشهد أحد أهم الناشطين المدنيين في داريا، ومسؤول العمل الإغاثي هناك، وواضع الدراسات الاقتصادية لمساعدة النازحين. انتهت أخيراً حياة الرجل الذي خاطر بها مراراً لإيصال المساعدات لأهل داريا المقيمين داخلها والنازحين إلى خارجها.

في داريا كثيرون مثل أحمد، عملوا مثلما عمل، وخاطروا، وأغاثوا. لكن عارفيه يصرون على تميّزه. يحكون كثيراً عن أمانته حدّ المثالية، وعن رفضه تقاضي أجر يُقتطع من بعض مساعدات مالية كانت تصل إلى المدينة. يقول أصدقاؤه إن مبدئيته هذه كانت تدفعه إلى توزيع مستحقاته المالية على آخرين، و”هذا ما فعله في آخر مرة وصلتنا فيها مساعدة مالية”، كما يقول أحد زملائه في “عنب بلدي”.

أحمد، الذي لطالما دافع عن فكرة البقاء في داريا لمقاومة الحملة الدموية، والحصار المطبق عليها، قال لأصدقائه أمس إنه سيغيب ساعة واحدة عن إحدى حملات توزيع الموادة الإغاثية على السكان. ذهب ليشارك في مراسم دفن شهيد في مقبرة المدينة… لكنه لم يعد. ظن أصدقاؤه أنه ذهب لزيارة غياث مطر ومحمد قريطم وراحلين آخرين، وتأكدوا من ذلك حينما طال غيابه أكثر من الساعة التي وعد بها.

نعي الشهيد

نعت صحيفة “عنب بلدي” أحمد خالد شحادة، كما نعاه المجلس المحلي في داريا و”المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، في حين أصدر مكتب السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي بياناً أعلن فيه رحيل شحادة أثناء قصف صاروخي استهدف مكان وجوده في داريا.

وكتبت “عنب”: “استشهد مساء هذا اليوم (الثلاثاء 12 آذار 2013) الزميل الصحافي أحمد خالد شحادة، عضو مجلس إدارة جريدة “عنب بلدي” ومدير تحريرها، وذلك بقصف صاروخي استهدف مكان تواجده في داريا”. وسردت الصحيفة بعضاً من سيرة الشهيد قبل وأثناء الثورة. وقالت إن “لانضمامه إلى فريق العمل أثرٌ واضح في رفع سوية المحتوى الصحافي للجريدة، لما يمتلكه من قوة فكر وقدرة أدبية وبُعد نظر سياسي”.

أما المجلس المحلي في داريا، الذي كان شحادة من مؤسسيه، فقد كتب في صفحته على “فايسبوك”: “تزف لكم داريا شهيدها البطل الناشط أحمد شحادة (أبو لؤي). كان الشهيد من أوائل من خرجوا للتظاهر في الثورة السورية في 25 آذار 2011 في داريا، واعتقل لدى المخابرات الجوية في الجمعة العظيمة، لكنه واصل نشاطه وشارك على امتداد الثورة في مختلف النشاطات, أهمها في المجال الإغاثي، ليعاد اعتقاله مرة أخرى، ويمضي أكثر من ستة اشهر في سجون الأسد. ولكن كل ذلك لم يثنه عن مواصلة نشاطه. بقي في مدينته داريا خلال الحملة الحالية رغم الظروف الصعبة، حتى كتب الله له الشهادة حيث قضى نتيجة القصف على المدينة بتاريخ 12-3-2013”.

وجاء في نعي “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” الشهيد، أنه “أصرّ على مواجهة السلاح الحربي بالكلمة، إذ وعلى الرغم من اشتداد الاشتباكات في مدينة داريا، فإنّ ذلك لم يمنع جريدتهم من الصدور وحتى التوزيع”.

من جهتها، قالت كاثرين أشتون، مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، إن “مسؤولاً في بعثة الاتحاد في سوريا قتل في هجوم صاروخي على ضاحية بدمشق” حسبما نقلت وكالة “رويترز”. وأضافت أشتون في بيان صدر عن مكتبها، إن أحمد خالد شحادة، الذي كان يعمل مساعداً في الشؤون الاقتصادية لدى بعثة الاتحاد الأوروبي في دمشق، “قتل أثناء تقديمه مساعدات إنسانية لأهالي ضاحية داريا حيث يقيم”.

وبحسب أصدقاء الشهيد، الذين تحدثوا إلى “المدن”، فإنه سبق للاتحاد الأوروبي أن طالب النظام السوري بإطلاق سراح شحادة أثناء اعتقاله الثاني، وذلك، حسبما يقول الناشط أسامة أبو زيد “لأهمية أحمد في الحراك المدني، ولمعرفة الجميع بأمانته وأخلاقه العالية، وإيمانه بالعمل الإنساني السلمي لمصلحة السوريين حتى في ظل الحملة العسكرية التي كانت وما تزال داريا تتعرض لها”.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى