إياد الجعفريصفحات المستقبل

تمدد “داعش” في نظرية كيسنجر/ إياد الجعفري

 

 

يعتقد هنري كيسنجر في كتابه (النظام العالمي – تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ)، أن أحد الاسباب البارزة لتحوّل الإسلام من قوة محلية ناشئة، إلى قوة إقليمية، ومن ثم دولية كبرى، خلال بضعة عقود، هي حالة الإنهاك والشلل المتبادل التي كانت تعيشها كل من الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، في الربع الأول من القرن السابع الميلادي.

تصلح نظرية كيسنجر تلك، للتنبؤ باحتمال تمدد تنظيم “الدولة الإسلامية – داعش”، في خضم حالة الإنهاك التي تعيشها القوة الدولية الوحيدة القادرة على التدخل المباشر في المنطقة، إلى جانب حالة الشلل المتبادل، القائمة بين الأطراف الإقليمية المتصارعة فيها.

بدايةً ننوه إلى أن هذا الإسقاط النظري، لا يُقصد به أية مقارنة ذات طبيعة عقائدية بين “داعش”، وبين النشأة الأولى للإسلام، بقدر ما هي مقارنة تاريخية من زاوية صعود القوى والدول في عالم السياسة الدولية.

وبالعودة لما يعتقده كيسنجر، فإن “الدعوة المحمدية” التي بدأت في بيئة محلية معزولة نسبياً عن سيطرة الامبراطوريتين المجاورتين (الفارسية والبيزنطية)، ربما ما كان لها أن تصعد بسرعة لتتحول إلى قوة دولية قادرة على الإطاحة بإحدى هاتين الامبراطوريتين (الفارسية)، وتقزيم الأخرى (البيزنطية)، في بضعة عقود، لولا أن هاتين الامبراطوريتين ذاتهما، كانتا قد دخلتا مرحلة إنهاك فرض عليهما السلام بعد صراع دام قروناً، كان مسرحه تحديداً، الجزيرة العربية ومنطقة الهلال الخصيب.

السلام الذي فرضته حالة الإنهاك بعد آخر موجة من حروب الامبراطوريتين في الربع الأول من القرن السابع الميلادي، أنتج حالة من “الشلل” المتبادل لتأثير كلتا الامبراطوريتين في محيطهما الحيوي، الذي كان حتى وقت قريب مسرحاً لصراعهما المباشر وغير المباشر. ويشمل ذلك المحيط الحيوي، في مقدمة ما يشمل، شبه الجزيرة العربية، وفي قلبها، مكة، قلب الصحراء التجاري النابض يومها.

ينفع هذا الإسقاط ذاته في تفسير كيف تمكن تنظيم “جهادي” من التحول في “غفلة من التاريخ”، من قوة محلية إلى إقليمية، حتى الآن. فـ “داعش”، نشأ في مرحلة من الإنهاك البادي على الولايات المتحدة الأمريكية، بعد الموجة الأخيرة من حروبها في الشرق الأوسط، خلال العقد السابق (العراق وأفغانستان)، الأمر الذي أدخل القوة الدولية الوحيدة الفاعلة مباشرة في المنطقة، في حالة من الانكفاء.

أيضاً، نشأ “داعش”، وتوسع، في سياق صراع إقليمي مرير، يمكن توصيف محصلته على الأرض بأنها حالة “شلل” في التأثير بمنطقة “الهلال الخصيب”. فرغم مساعي كل من إيران، تركيا، السعودية، قطر، لبسط نفوذها المطلق، أو النسبي، في هذه المنطقة، إلا أن هذا النفوذ، لهذه القوى، يتقلص لصالح “داعش”، بفعل صراع هذه القوى، وانشغالها، عملياً، عن تمدد “داعش”.

ورغم كل ما يُقال عن حشد إيراني في العراق، لمواجهة “داعش”، يبدو أن إيران، كقوة إقليمية رئيسية تواجه تمدد التنظيم، منشغلة بملفات أخرى تجعل تركيزها أقل من المطلوب لوقف هذا التمدد.

ورغم كل ما يُقال أيضاً، عن حشد دولي، جويّ، لمواجهة تمدد التنظيم، يبدو أن القوى الدولية، إما منكفئة عملياً، أو متورطة واقعياً، في حالة الصراع بين القوى الإقليمية في “الهلال الخصيب”، والتي تؤدي إلى محصلة تقترب من الصفر على صعيد وقف تمدد “داعش”.

ففي حين يبدو أن أولوية تركيا والسعودية وقطر هي وقف تمدد المشروع الإيراني الإقليمي، يبدو أن أولوية طهران هي في إنقاذ، وتمتين وجود حلفائها في بغداد ودمشق وبيروت، الأمر الذي يتطلب منها بذل جهود كبيرة لمواجهة أطراف محلية مدعومة من خصومها الإقليميين، بصورة تجعل تركيزها ينخفض حيال تمدد “داعش”، خاصة في حالة تمدد هذا التنظيم في الأراضي السورية.

ولأن التنظيم نشأ وتمدد في حالة من الصراع الإقليمي المنلفت نسبياً، حتى الآن، من أي عِقال، يبدو أن الظرف التاريخي يؤهل للمزيد من تمدد هذا التنظيم. فصراع الأطراف المدعومة من جانب تركيا والسعودية وقطر، مع نظرائها المدعومين من جانب إيران، على الأراضي السورية تحديداً، كفيل بتهيئة الأسباب العملية لتمدد “داعش”. فالأولوية للمتصارعين، هي الصراع بينهم، على حساب الصراع مع التنظيم. وبقدر ما تواجه إيران “داعش” بجدية عالية في العراق، يبدو أنها مستعدة للتغاضي عن تمدده في سوريا، إن كان ذلك يكفل شغل أعدائها الرئيسيين، المتمثلين في الفصائل والقوى الحليفة أو المقربة من خصومها في تركيا والخليج.

كخلاصة، فإن كل الأطراف الإقليمية والدولية لا تُظهر الجدية الكافية لمواجهة “داعش”، وسط انهماكها، وربما مستقبلاً، إنهاكها، جراء صراعها مع بعضها، خاصة على صعيد القوى الإقليمية، الأمر الذي قد يعني في المستقبل القريب، انكفاء تلك القوى عن المنطقة، بإرادتها، لأسباب داخلية، كما هو مُحتمل في الحالة التركية، أو بغير إرادتها، بفعل الاستنزاف، كما هو مُحتمل في الحالة الإيرانية.

إذا تحقق ما سبق، فإن السيناريو الأبرز هو تمدد “داعش” لتسيطر على المساحة الأكبر من “الهلال الخصيب”، وصولاً في المستقبل القريب، نحو تهديد دول قائمة بالفعل (لبنان والأردن)، بعد الاستيلاء على فُتات دول منهارة اليوم (سوريا والعراق).

قد يكون هناك سيناريوهات أخرى مخالفة لما سبق، لكنها يجب أن تكون إسعافية، قبل فوات الأوان، أبرزها، تفاهم القوى الإقليمية الفاعلة على حلول سياسية، تؤسس لتحالف حقيقي، يُتيح الفرصة الملائمة لوقف تمدد “داعش”، ولاحقاً، القضاء عليه، قبل أن يُصبح التنظيم قوة إقليمية حقيقية مُنفلتة من أي عِقال، بما في ذلك، الاختراقات الاستخباراتية المتبادلة من جانب الخصوم الإقليميين والدوليين أنفسهم، الذين يحاول كل منهم، تجيير تمدد التنظيم بما يخدم خطته للإضرار بخصومه.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى