صفحات المستقبل

الإدانة كاعتراف بخطيئة لم ترتكب/ روجيه عوطة

 

 

ما إن نشرت “الدولة الإسلامية” فيديو إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة، وشاهده الكثيرون عبر “يوتيوب”، أو في الشاشات التلفزيونية التي نقلت أجزاء منه، حتى انطلقت حملة إدانة واسعة، موضوعها الفعل الإرهابي “الداعشي”.

امتلأت مواقع التواصل الإجتماعي بعبارات الإستنكار والشجب، وقد ترافقت بعبارات أخرى، تصف الكساسبة بالبطل، الذي وحد العالم العربي، لا سيما بلده الأردن. بدت الحملة شبيهة بحملات سابقة عليها، “أنا شارلي” على سبيل المثال، من ناحية الكلام عن الوحدة الوطنية والبطولة والعنف طبعاً، ومن جهة الإسراع في إطلاق أحكام، على شكل تحليلات، لا فائدة من أغلبها ولا نفع، كالقول أن ما اقترفه الإرهابيون “عمل جبان وغير إنسانيّ”، ويجب الرد عليه بطريقة حاسمة.

كيف يُدان الإرهاب الجهادي؟ ولماذا؟

يُقال أنه “وحشي”، “همجي”، “بربري”. ويُقال أن “داعش” مجرمة، وقروسطية، وبشعة. ثم، ينتبه أصحاب هذه الكلمات، بعد قليل من الوقت، أن “الدولة”، التي يتهمونها لا تسعى إلى تبرئة نفسها. هي تصور إرهابها، تعرضه، كجزء من حربها ضد أنظمة “التحالف الدولي”. شرط الإدانة أن يكون القاتل غير معروف، أن يحاول إخفاء ذاته، أن يتكتم على فعله. لكن، في حالة “داعش”، هذا الأمر ليس متوافراً على الإطلاق. لذا، تتعطل الإدانة، ترتد على ممارسها، لتتكشف عن ذنب غليظ، يقبض على المدين، ولا يترك أثره في الدائن، لأنه لا يكترث به البتة.

مرةً، يعلن المُدين “أنه الكساسبة”، ومرة، يعلن “أنه الإرهابي”، هو الضحية والقاتل في آن معاً. يطلق إدانته لأنه محكوم بها، لأنه مجبر على الكلام. فمن الضروري أن يتكلم، وإلا فهو متهم بالمشاركة في الجريمة، وإلا هو مسؤول عن القتل. وعندما يتكلم يؤكد ذلك، يثبت الإثم، الذي لم يرتكبه. لكنه يظن العكس، فيدين كأنه يعترف به. تالياً، الإدانة، التي يعلنها، إعتراف بخطيئة، يشعر أنه اقترفها، لا سيما أن القاتل أمامه واضح، وواضح جداً، لدرجة الإختفاء من معادلة الجريمة. يغيب القاتل من شدة حضوره، فيتحول المشاهد-المدين إليه، بشبب شعور الذنب، الذي يستحوذ عليه.

للإدانة، باعتبارها اعترافاً بخطيئة لم تُرتكب، مشهدها الديني، المركب بطريقة خبيثة، غير بائنة، عكس ما هي الحال في فيديوات “داعش”. هناك “تحالف دولي”، يقصف الأرض من الجو، صواريخ طائراته تحل على متلقيها كنازلة، كمصيبة، كقدر، لا يمكن لأحد توقيفه، أو الإختباء منه. عقاب إلهي، ينزل من السماء على الخطأة، الذين لا يعرفون أنهم على هذا الوضع سوى في لحظة اغتيالهم، أو في لحظة تفرجهم على القتل. “ثمة إرهابي في كل واحد منا”، لذا “نستحق هذا العقاب”، “ثمة كائن خطيئة، كائن عنف، في كل واحد منا”، لذا “نستحق هذه النازلة”. لقد كُتب الكثير عن صورة “داعش” الدينية، لكن لم يكتب عن الدين السماوي لـ”التحالف”، الذي يحوّل أي واحد منا إلى خاطئ، إلى متهم، فيقصفه، يطرده من جنته الأمنية، من فردوسه البوليسي.

ينظر المُدين إلى نفسه كأنها خاطئ ممكن، وعند مشاهدته القتل، يصبح خاطئاً قائماً بكلامه. يعتقد أنه مسؤول عن المقتول، يكونه كضحية، يشتد ذنبه أكثر فأكثر، فيعتبر نفسه القاتل، “أنا المسؤول عن المقتول، أنا القاتل، لا مناص من معاقبتي”. هذا هو محرك الدعوات، التي تظهر بعد كل عمل إرهابي، واختصارها تقوية نظام “مكافحة الإرهاب”، الذي يتعامل مع محكوميه كأنهم إرهابيون مؤجلون، خطأة محتملون، وبالفعل نفسه، هم ضحايا، ضحايا ذواتهم، التي قد تدفعهم إلى إرتكاب الخطيئة، إلى التحول إلى إرهابيين. الإدانة صلاة إلى هذا النظام، مرفوعة إلى سمائه: “لا تدخلنا في التجربة، لكن، نجّنا من الشرير”، ممارسة للتوبة، مخافة أن يصبح المؤمن-المُدين خاطئاً، ولئلا يُطرد من الأبدية إلى الحياة نفسها.

فالذنب، الذي يستولي على المؤمن بإله “مكافحة الإرهاب”، والخاضع لعقابه السماوي، يظهر كحاجز أمام مبارحة نظام النعيم البوليسي، الذي، عند مشاهدة فيديوات القتل الإرهابي، يهتز، فالموت، الذي لطالما نفاه، برز من جديد وما عليه الآن سوى الثأر منه. لا داعي للقول هنا إن “الدولة الإسلامية” كسبت معركة إرهابها. فالنظام في الأردن رد على مقتل الكساسبة بالإنتقام، وشيخ الأزهر أحمد الطيب دعا إلى “قتل وصلب وتقطيع أيدي وأرجل عناصر تنظيم داعش”، وذلك، بعدما وصف عملهم بـ”الخسيس”. فما رغبت “الدولة” فيه قد حصل، وتّرت دين “مكافحة الإرهاب” والمؤمنين به، تركت سلطاته تدافع عن أبديتها عبر الإنتقام، وتركت محكوميه يغرقون في ذنبهم.

إلى ماذا قد يؤدي ذلك، أو ما هي معركة “الدولة” المقبلة؟ توجيه انتقام السلطات نحو المذنبين أنفسهم، ليتحولوا إلى “داعشيين” بالفعل. ففي وقت، لا يمكنها الأنظمة أن تكافح مبرر وجودها، وفي وقت، لا يمكنها سوى أن تنتقم، وفي حين، يشعر المحكومون بالذنب، كقتلى وضحايا على حد سواء، تبدو الظروف ملائمة لإنقضاض إله “مكافحة الإرهاب” على المؤمنين به. فهؤلاء على اقتناع بخطيئتهم، لكنهم، لا يعرفون مضمونها، أي أنهم بمعنى آخر، مؤهلون للقمع، لمعرفة خطيئتهم، للعقاب الذي سيُنزله كهَنتهم المحليون عليهم. هذه مرحلة من مراحل حرب العصابات الجهادية، أي دفع السلطات إلى التضييق على محكوميها، وتأليب هؤلاء عليها، ثم تدخل الجهاديين لحسم الأمور لصالحهم.

يعلن المؤمن بـ”مكافحة لإرهاب” عن ذنبه، يدين نفسه، يقول إنه “ضد داعش”، لينفي عنه التهمة. يعيش في إمكان تحوله إلى قاتل وضحية معاً، بسبب خطيئته التي لا يعرفها. يقول “الإرهاب الداعشي غير إنساني”، ليثبت أنه إنسان، “إنه عمل بربري” ليثبت أنه حضاري. يدين، ويدين، ويدين، ورغم أن الإدانة بلا جدوى، يستمر في الإعتراف، والكلام، والتوبة، كي يعود إلى الفردوس، أو كي لا يفقده: “أَيُّها الآبُ، إنّي أعترفُ لَكَ… أَطْلُبُ إليكَ، أَيُّها الديّانُ العادلُ والحنونُ، أَنْ تَغْفِرَ لي، وتَمْنَحَني نعمةً، كي لا أعودَ إلى الخطيئةِ فيما بَعْدُ”.

على هذا المنوال، تصبح الإدانة بمثابة صلاة الإبن الضال، الذي يرجع إلى إلهه، وسمائه. بالتالي، كيف نعترض على القتل من دون أن ينم اعتراضنا عن شعور بالإتهام؟ كيف نواجه الإرهاب من دون أن نبرر مكافحة الإرهاب؟ كيف نتصدى لدين داعش الأرضي بلا أن نخضع لدين “التحالف” السماوي؟ كيف نتكلم بلا أن نعترف؟ كيف نتكلم بلا أن نتكلم؟

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى