صفحات الثقافة

الإبداع بعد الثورات: نشوة التحطيم/ زيد قطريب

 

 

هل هي ثورات حقاً، ليست كذلك في نظر من يحملون صورة صنمية للثورة تتصل بالتغيير والإيجاب والبناء، في نظر من يرون الثورة تدميراً وهياجاً وتاريخاً دموياً، هي الثورة كما اعتدنا الثورات وكما سجلها التاريخ. لكن الثورة إذا هزت دعائم السلطة فهي لا تستطيع بالدرجة نفسها أن تهز جدران الثقافة. لكي يتحول الحدث إلى مفاهيم وإلى خيارات وأساليب وتيارات، يحتاج الأمر إلى وقت يستوعب فيه الأدب والفن، على أي نحو كان، ما جرى ويتمثله ويحوله إلى خطاب وإلى فن وإلى إبداع، ماذا كان من أمر الثورات العربية، لقد قامت والإبداع في منأى عن السياسة وعن الثورة فقد جاء داهما منذ سقوط فلسطين وتحول بوقاً لهما، ثم أخذته صحوة، بعدما توالت الهزائم والحروب الخاسرة، فأنف خدمة السياسة وأنف الديماغوجية والدعوية، وأنف التحريض والارتجاز. فوجئ الفن بالثورة كما فوجئ بها الجميع، وشعر بتقصيره كما شعر الكل، وبالطبع حاول أن يتدارك الأمر، لكن العدة لم تكن دائماً كافية، لقد أقبل الناس على الفن التحريضي وصار له جمهور واسع فيما انقطعوا عن الفن والأدب التقليديين، لكن ذلك لا يمنع أن قسماً من هذا الفن كان هراء، وأن بعضه ظهر ركيكاً ولم يكن سوى دوي وشعارات، مع ذلك فإن هذا الإبداع غير الناضج الذي تواتر بوفرة وبكثرة لم يكن يخلو من أعمال باهرة، ثم إن القطيعة السياسية كانت تمهد لقطيعة ثقافية، المستقبل وحده كفيل باحتضانها والبناء عليها وتحويلها إلى فن حقيقي.

فعلت الانتفاضة فعلها السحري في حركة النشر والفنون الأدبية، فاندفع شعراء وشاعرات من جيل الشباب لوأد الرقيب والرقابة، وكل ما يتعلق بهذه الآلية التي تمارس حصارها على المخيلة والحساسية مثلما كانت تفعل طوال سنوات طويلة قبل زمن الثورات التي رفعت الحصانة عن سلطة الرقيب وجردته منها لكن على أمل استمرار ذلك السيل.

استعادة الأشهر الأولى للتظاهرات السلمية، تحسم الكثير من مفردات الثورات غير المُتَّفق على سرد مجرياتها عملياً بين اليمين واليسار والوسط، وإذا ما عُقد قران تلك الشهور البيضاء مع الحرب الدامية التي اندلعت إثرها، وسمّينا ذلك بالزواج القسري تجاوزاً، فإن العملية «القيصرية» ستسفر عن طفلة عمرها القصير الآن لا يتعدى خمس سنوات، لكنها خلال تلك الفترة لم تترك شيئاً إلا وفعلته، بدءاً من الكتابة بالدم إلى التمرد على المؤسسات وقلب كل أنواع المفاهيم وإعادة طرح الأسئلة التي سوّقت المؤسسات الرسمية إجاباتها سابقاً كمسلمات.

كأن المجتمع بأكمله عاد إلى الطفولة الأولى فبدأ يحبو ليكتشف نفسه عبر العناوين التي لم تتمكن وزارات التربية ولا الثقافة أو الإعلام من أن يضعوها أثناء فترات الرخاء على طاولات النقاش والحل: مشكلة المناهج الدينية في المدارس. وأيضاً مطبوعاتٌ تسمى ثقافية لكنها تنحاز للتطرف والفكر الظلامي، عدا إعلام مصاب بالتوحّد وأحياناً بالزهايمر، إضافة إلى صناعة شعراء وإعلاميين وروائيين «بالواسطة»، عدا وجود سيل من العناوين المصنّفة كمحرّمات حتى في ما يخص تقنيات الكتابة الشعرية إن كانت القصائد تنتمي إلى التفعيلة أم النثر!

هي بعضٌ من عناوين الواقع الثقافي المزري الذي دفع المجتمع الأهلي لأن يهرع إلى نحت النوافذ في سلسلة جدران سميكة كانت تعتبر عصيةً على الاقتحام والتجاوز وأولها الرقابة، حيث إن المتابع لمعظم الكتب السورية التي تصدر في الشعر والقصة والرواية والأبحاث يدرك تماماً غياب موافقات اتحاد الكتاب العرب ووزارة الإعلام عنها، وهي مسألة تعني في المستقبل تراكم كمٍّ كبير من الكتب خارج المكتبة الوطنية حيث إن حضورها على رفوف (مكتبة الأسد) يتطلب أن تُمهر بمجموعة الأختام الرقابية كروتين لا بد منه!

تشييع الرقابة

تم تشييع الرقابة مع أول تظاهرة خرجت، وشهدت دمشق خلال تلك الفترة ولادة مجموعة كبيرة من اللقاءات الثقافية الأسبوعية التي أسسها كتّاب شباب كان أولها «ثلاثاء شعر» و «يا مال الشام»، لنصل إلى مرحلة بتنا نتحدث فيها عن ثقافتين: الأولى وظيفية رسمية مشغولة بالمكافآت والتكسّب وطباعة أي شيء من أجل المال.. والثانية أهلية تطوعية تعمل من أجل مجد الشعر والموسيقى والمسرح.. الأولى مقاعدها خاوية لا يحضرها الجمهور، والثانية تكاد القاعات في الشام القديمة تمتلئ عن بكرة أبيها عند الإعلان عن أي أمسية أو حفل توقيع لشاعر مغمور فيها!

في هذه المرحلة وفي ما يخص تلك النقطة، كان على المجتمع الأهلي أن يُردي الرقابة باعتبارها مسؤولة عن فساد العقل طيلة السنوات الماضية؛ حيث تسببت بمجموعة ظلاميات فكرية وسلوكية لا يمكن أن تتبرأ من المسؤولية عنها وزارة التربية والثقافة والإعلام على نحو خاص.

اللافت كان أنه مع اشتداد الخطر واتجاه التطورات نحو الحرب، كان التعويل على الثقافة يرتفع من قبل المجتمع الأهلي الذي طبع حتى اليوم مئات الكتب بلا شهادات حسن سلوك من رقابات متهمة بالتجهيل بالنسبة إليه. على الجانب الآخر، فإن كل اللقاءات الثقافية الأسبوعية التي تُعقد في دمشق اليوم هي غير مرخصة ولا تحصل على موافقات كي تحيي أمسياتها الأدبية التي يحضرها حشد غفير من الشباب، كأن آخر شعرة مع الرقابة تم قطعها عن سابق إصرار من قبل مثقفين وفنانين انهمكوا بصناعة أطواق نجاتهم الخاصة بعدما أمضت المؤسسات المعنية دهراً طويلا وهي تحقن الجسد السوري بهرمونات تسميها ثقافية، لكنها في واقع الأمر أنهكت ذلك الجسد بالسرطان المعرفي في ألطف توصيف!

دفن الرقابة اليوم، يعتبر إنجازاً بالنسبة لكل اليائسين من حيوية الثقافة والفنون، صحيح أن المسألة القانونية لم تتبدل من جهة السماح والرفض، لكن ولادة فضاءات مختلفة وجديدة في المشهد أصبحت أمراً واقعاً يصعب الحد منه أو إصدار أمر بإيقافه. وإصبع الاتهام تشير إلى وزارات بعينها تصفر فيها الريح بينما تمتلئ مقاهي باب توما وحانات باب شرقي بأمسيات شعرية وحوارات ومحاضرات تجمع الكثير من الناس؛ فيما لا يحضر إلى النشاطات الهزيلة في المراكز الثقافية الرسمية سوى أقرباء الأديب المحقون بهرمون الموهبة بفعل اعتبارات ليست إبداعية بالطبع!

يواجه مثقف اليوم سؤالاً خطيراً يتعلق بما تم إنجازه خلال قرن تقريباً على صعيد الأيديولوجيات والإصلاح ومشاريع التنوير؛ والتي اتضح أنها ظلاميات مؤجّلة تنتظر الانفلات من عقالها، ما أجبر الجميع على إعادة تعريف العلاقة مع الدين والعروبة والاقتصاد ودور الأحزاب في المجتمع! تُرى لماذا تأجلت كل القضايا التي كان من المفترض أن تنجز منذ مئة عام؟ وهل بالإمكان ترميم ذلك الصدع الخطير في الذهنية لنشهد أملاً بولادة عملية التحام جديدة يمكن أن تبدأ جراء انفتاح أبواب النقاش في كل تلك القضايا؟

الواضح أن على المجتمع الأهلي والأفراد أن يخترعوا الأسباب الممكنة لتسديد عجز المؤسسات التي كانت تلعب «الطرنيب» طيلة السنوات السابقة، وإلا فكيف نبرّر كل هذا الخراب؟ هذه الأسئلة على صفيح ساخن في المشهد الثقافي السوري الذي من المتوقع أن ينجز سابقاتٍ على صعيد الكتابة الشعرية والروائية وشتى أنواع الفنون الأخرى انسجاماً مع منسوب الجرأة الذي ارتفع أولاً، وثانياً بالاستفادة من دفن الرقيب رغم أن هذا «السيئ الذكر» لم يلفظ أنفاسه قانونياً، إلا أن طباعة الكتب والنشاطات الثقافية المستمرة بمعزل عنه، تقول إنه في موت سريري دون شك!

أطنان الهراء

نستطيع الآن أن نتحدث عن أطنان من الهراء في المقابل، وهي حالة تنسجم مع نشوة تحطيم المحرّمات وكسر البيروقراطيات الكبيرة في الثقافة التي كانت تحافظ على واقع من الارتزاق والمنفعة في حدها المخزي للأسف، وبالتالي لن يخشى النقاد من سيل الشعر الذي تطبعه (مكنات الريزو) بعيداً عن طرابيش اتحاد الكتاب العرب الميّالة إلى الشنفرى والمفضّل الضبي، وبمعزل كذلك عن الهيئة السورية للكتاب المتورطة بالنظرات البائدة إلى الدين والطائفية وغياب المشروع الحداثوي للثقافة والكتابة والترجمة والتأليف!

من أبرز ملامح ما بعد الثورات، انهمار المطبوعات الشعرية والروائية وصعود أفواج من الأسماء الجديدة المتباينة في السويات الإبداعية، وكلها تطورات طبيعية يلزمها الوقت الكافي كي تتغربل وتتبلور كما يقتضي منطق التطور، لكن المسألة الجوهرية تتعلق بماهية النص السوري الذي يتبلور الآن في ظل الحرب، إنه نص النبوءات وتحطم الأساليب القديمة وربما نشهد تعديّات كبيرة على اللغة نفسها لأن الأفق يشير إلى ولادات على صعيد المعجم ستتجلى فحواها خلال المراحل القادمة.

(كاتب سوري)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى