صفحات الرأي

بحثاً عن البعد الثقافي للثورات العربية


كرم الحلو

كيف انفجرت الثورات العربية؟ لماذا انفجرت؟ من كان وراء انفجارها؟ هل للثقافة دور في ما حصل؟ وهل يحمل الانفجار الحاصل ثقافة التحرر من التقليد المهيمن في الفكر العربي أم انه يحمل عناصر كاشفة عن نزعات تروم، بعد مرور العاصفة، العودة إلى التسلط بصوره كلها؟

أسئلة حاولت الإجابة عنها مجموعة من الباحثين العرب في كتاب «الانفجار العربي الكبير» (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2012)، ورأى كمال عبد اللطيف أن الأبحاث العديدة التي واكبت التحولات الجارية في العالم العربي تركّز على الهواجس السياسية المغفلة الأبعاد الثقافية للحدث، في حين أن الثقافي مكوّن مركزي من مكونات التحول، وهو مشتبك بالسياسي في مختلف أطوار الثورات العربية، رغم أن نصيبه في القراءات المتداولة يعدّ ضعيفاً مقارنة بالمقاربات السياسية.

انطلق عبد اللطيف من فرضية مركزية ترى أن التحول الديموقراطي في التاريخ يتطلب تعزيز خيارات ثقافية معينة كما يقتضي تأهيلاً اجتماعياً، ومن هنا اعتقاده بصعوبة إنجاز التغيير من دون ثورة في الذهنيات، ومن دون قدرة على التواصل بحس نقدي مع السياقات التاريخية المؤطّرة لأفعال التغيير الجارية. وعليه رأى أن ملامح التغيير الكبرى التي تفجّر اليوم أمام اعيننا سقف اعتى الطغاة، لا تضمن بالضرورة القطع مع التسلط في أبعاده الفكرية والعقائدية. ما يؤكد الحاجة إلى ثورة ثقافية، يكون من بين مهماتها تعميم قيم التنوير وبناء بدائل لثقافة التأييد والطاعة والخوف، إذ إن تجاوز الدولة المستبدة يبقى ناقصاً من دون تجاوز قيم هكذا دولة. فقد رأينا بروز المعطى القبلي بقوة في قلب التمرد ضد النظام في تونس وفي اليمن، الأمر الذي جعلنا نشعر أن العرب يواجهون اليوم ضرورة التفكير في الأبعاد القبلية، الراسخة في مجتمعاتهم، في الوقت الذي يواجهون فيه دولة الاستبداد والفساد، ويتجهون إلى بناء مجتمع المواطنة. وهذا يتطلب انفجاراً اعم يشمل الأبعاد الاجتماعية والثقافية، ويحول دون عودة المكبوت الإثني والطائفي اللذين يتجهان إلى التمظهر من جديد في مجتمعاتنا، فلا نجاح لأي تغيير لا يعنى بمتطلبات ما هو اجتماعي وثقافي وأسئلتهما، ولا جني لثمرات التغيير السياسي القائم من دون ثورة ثقافية. فلا يمكن أن نطالب بالكرامة والحرية داخل قفص الهويات والفكر الأحادي، كما لا يمكن أن نتحرر من الاستبداد من دون أن نتحرر من الرواسب الثقافية النصية المطلعة وآليات الفكر العتيق.

وإذ تصدى المؤلفون لتحديد الفاعلين في الانتفاضات العربية رأى عبد اللطيف أن هؤلاء يرسمون صورة جديدة للمثقف العربي، وأن الصفات التي اعتدنا إطلاقها على المثقفين، من قبيل الملتزم والعضوي والطليعي لا تصلح لتكون سمة مطابقة لصورة المثقف الجديد. كما ذهب عبد السلام بنعبد العالي إلى أن «الشباب» صيغة حيوية ودلالة سياسية، لا شريحة عمرية، فالانتفاضة تمخضت عن «الكائن الشبابي» بما هو كذلك: انفعال وتمرد ومغامرة وفرادة وانسلاخ عن كل فكر قطيعي وتوحد موهوم. وهو شباب من غير مشروع ، ولا ارتباط عقائدي أو قومي أو حزبي، وما يوحده هو شعور التهميش القوي. لكأن الانتفاضات العربية من غير مثل اعلى ومن دون رمزيات وتجديدات ومن دون مضمون أيديولوجي، وكل ما يجمع في ما بينها تقنيات التواصل الجديدة، والمواقع الاجتماعية عبر الإنترنت التي تقوم على مفهوم التبادل، ما مكّن كثرة بشرية من لعب دور فاعل وتغييري من دون أن ترقى إلى ما من شأنه أن يجعلها جماعة تتوحد تحت لواء عقيدة بعينها.

وطرح محمد شومان الجوانب الثقافية في الثورة المصرية منطلقاً من انه لا يمكن تصور إيجاد حلول أو تفاهمات في شأن إشكاليات الاختلاف والصراع السياسي في مصر بمعزل عن مواجهة جذورها الثقافية، فقد انتجت تحولات المجتمع المصري منذ سبعينات القرن الماضي أوضاعاً اجتماعية وثقافية، وأفرزت جماعات اسلاموية ذات حضور جماهيري واسع تطالب بتأكيد الهوية الإسلامية للمجتمع والدولة في مصر وإعادة النظر بهاتين المقولتين، وبحقوق المواطنة ودولة القانون وعلاقة ذلك بالشريعة الإسلامية، حتى ليمكن القول إن التحدي الأكبر الذي يواجه الثورة المصرية هو تحدٍ ثقافي.

أما أمحمد مالكي فتطرق إلى لدور الذي قامت به الثقافة السياسية في تفجير الثورات العربية ليخلص إلى أن خلاصات الأبحاث العلمية عن المنطقة العربية شبه موحدة وقد أرجعت تأخر العرب عن ركب الانتقالات الديموقراطية التي طالت مجمل قارات العالم إلى وجود «أوتوقراطية عربية» قوية راسخة وقادرة على إعادة إنتاج نفسها، حتى في ظل التآكل المفرط لمشروعيتها.

في هذا السياق رأى مالكي أن العلاقة تلازمية بين السياسي والاجتماعي، وأن أفق التطور الديموقراطي الذي تسعى إليه الثورات العربية مرتهن إلى حد بعيد بقدرة النخب القائدة الجديدة على ردم الهوة الاجتماعية، أو في أدنى الحالات تقليص حجمها، إذ أشارت الدراسات، ولا سيما تقارير مجموعة البنك الدولي، إلى توزيع غير سليم لمقدرات البلاد العربية، حيث استثمر ثلث الثروة القومية في النصف الأخير من القرن الماضي في النفع العام، فيما ذهب ثلثها الآخر إلى الإنفاق العسكري، في حين وجد الثلث الأخير طريقه إلى الحسابات الخاصة.

واستنتج مالكي أخيراً أن العرب أمام تطور تاريخي نوعي، لا نستطيع على وجه اليقين استشراف آفاقه، لكن من المؤكد انه تطور يؤسس لميلاد «ثقافة سياسية جديدة» لن تكون سوى ثقافة المشاركة، لا ثقافة الخضوع والاتباع.

نرى ختاماً أن المؤلفين قد ساهموا في الإضاءة على الأبعاد الثقافية في الثورات العربية بما يؤكد دورها الذي ظلّ في منأى عن الدراسات والأبحاث الجادة، وفي ذلك أيضاً إسهام في استشراف مستقبل الحراك الثوري العربي وتوجهاته المستقبلية. إلا أن الكتاب اتسم إجمالاً بالتسرع والاستعجال والصياغة الفضفاضة التي تصل إلى حد الارتباك فضلاً عن انه لم يأتِ على العموم باستنتاجات وخلاصات تتجاوز المقولات الكلاسيكية المتداولة في الخطاب السياسي العربي المعاصر، وقد انساق أحياناً إلى أحكام تبسيطية فيما يخص الشورى والديموقراطية والعقد الاجتماعي. وليس من الصحيح كما يذهب، أن الفكر السياسي العربي لم يقدم نموذجاً تطبيقياً يُحتذى به مقابل الاستبداد السياسي السائد في المجتمعات العربية، فهذا النموذج مطروح في الفكر العربي، وإن بدرجات متفاوتة من الجذرية، منذ عصر النهضة العربية إلى الآن، وقد دفع عدد غير قليل من المفكرين العرب أثماناً باهظة لهذا الطرح وصل إلى حد الاستشهاد أحياناً.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى