صفحات الرأيمحمد أبي سمرا

المؤامرة والخواف من الاسلاميين


    محمد أبي سمرا

من المغرب الى السعودية، مروراً بتونس ومصر، تتوارد موضوعات السجال العام وتتمحور حول ثقافة الاسلام السياسي، بقطبَيه او تيّارَيه، الاخواني والسلفي، في مواجهة التيارات المدنية والليبيرالية المختلفة. واذا كانت ثقافة الاسلام بديهية في الدولة والمجتمع السعوديين، فان الاسلام الاخواني قفز الى سدة الحكم، عبر صناديق الاقتراع، في كل من المغرب وتونس ومصر، بعد ثورات “الربيع العربي” التي اطلقتها أجيال شابة، مدنية الثقافة والهوى. اما التيارات السلفية غير الجهادية، فكان نشاطها يقتصر على العمل الدعوي والتربوي في المجتمع، من دون طموح سياسي ظاهر أو مباشر. لكن هذه التيارات سرعان ما رفعت وتائر نشاطها الى السياسة، بعدما فتحت الثورات المجال السياسي وشرّعت ابوابه لألوان الطيف الاجتماعي كافة في بلدانها. وهذا ما أدى، في مفارقة لافتة، الى فوز التيارات الليبيرالية المؤتلفة في ليبيا وحدها، بغالبية مقاعد الهيئة التشريعية، في مواجهة الاسلاميين الليبيين.

في لبنان، وربما في سواه من البلدان العربية، أخذت موجة من الهلع كثراً من المثقفين والكتّاب والصحافيين، حيال ما آلت اليه الثورات والانتخابات التي أعقبتها، فسارعوا الى صب غضبهم وسخطهم على هذه الثورات، معتبرين أنها لم تؤد إلا الى سيطرة التيارات الاسلامية على الحكم والمجتمعات في بلدانها، غير مكترثين بأن هذه الحجة هي نفسها الدوغما التي كانت تستند اليها الأنظمة الديكتاتورية لتبرير تسلطها وطغيانها على مجتمعاتها، مخيِّرةً المجتمع الدولي في الغرب بينها وبين الاسلاميين. لا يخلو سخط هؤلاء المثقفين على الثورات، من النظر إليها كما لو أنها أشبه بمؤامرة إقليمية – دولية، قطباها بلدان النفط والاسلام الخليجية والسياسات الاميركية وملحقاتها الاوروبية، ولا سيما سياسة “الفوضى الخلاّقة” الاميركية في عهد الرئيس جورج بوش الابن. لا ينتبه الساخطون الغاضبون الى أن سلاطين الأنظمة المنهارة، والتي في طريقها الى الانهيار، يذهبون مذهبهم في اعتبار الثورات صنيع مؤامرة غربية – خليجية عليهم، للخلاص مما تسمّى “الممانعة” للسياسات الصهيونية والغربية.

تلتقي فكرة المؤامرة والخواف (الفوبيا) من الاسلام في اعتبار المجتمعات العربية خلاء مقفراً لا تاريخ له، أو متجمداً في التاريخ، ويخلو من الصراعات والمنازعات السياسية والاجتماعية. والحق أن هذا ما نزعت الأنظمة العربية إلى إرسائه منذ خمسينات القرن العشرين، عندما شرعت تقيم سلطانها الديكتاتوري على فراغ سياسي واجتماعي وثقافي، وعلى تحطيم نسيج المجتمعات وثقافاتها، وطردها من السياسة، وإفقارها، جاعلةً من الاغتيالات والسجون والتشريد سياستها الوحيدة في مواجهة مجتمعاتها. وهي وصمت كل نشاط سياسي مستقل عنها بالتآمر عليها في خدمة سياسات خارجية. هكذا تحصّنت فئات اجتماعية واسعة في بلدان الديكتاتوريات بإسلامها الاهلي التقليدي وثقافته وعلاقاته التضامنية، وانكفأت إليه لحماية نفسها من التسلط والعسف والفقر، فتحولت السجون رحماً خصبة للاسلام الدعوي والنضالي، بعدما استطاعت السلطات العسكرية الحاكمة تحطيم التيارات الليبيرالية واليسارية المناوئة لها. واذا كانت الفئات الشابة المدنية من الفئات المتوسطة والمتعلمة، هي التي أطلقت الثورات العربية الراهنة، من دون منظمات ولا برامج ولا تجارب سياسية واضحة الملامح، فإن تيارات الاسلام السياسي وغير السياسي، المنظمة والعميقة الجذور في النسيج الاجتماعي والثقافي الذي دمّرته الديكتاتوريات الحاكمة وتركته قاعاً صفصفاً، هي التي تصدرت المشهد السياسي والانتخابي بعد الثورات، لكن ليس “الى الأبد” نسجاً على منوال شعارات الديكتاتوريات البائدة ومقولاتها. ذلك لأن الثورات في وجه غالب من وجوهها هي ثورة على ذلك “الأبد” وعلى توريث السلطة، لفتح صناديق الاقتراع وأبواب الصراعات الاجتماعية. الأبواب هذه يصعب قفلها من جديد على الأرجح، و يستحيل أيضاً إيصادها في وجه التيارات الاسلامية، على غرار أنظمة “الأبد” الراحلة. لذا لا تعدو فكرة المؤامرة والخواف من الاسلام اكثر من استعادات خرافية لمقولات سابقة. فالمجال السياسي والثقافي الجديد الذي شرّعت الثورات أبوابه، وأدخلت المجتمعات وجماعاتها وحطامها في معمعة سياسية واجتماعية وثقافية راهنة، هو ما يمكن التعويل عليه في إحياء السياسة وتأطيرها وإرسائها على مصالح ومنازعات اجتماعية وفئوية واضحة ومفتوحة. لكن عملية الإحياء هذه ليست سحرية كفكرة المؤامرة، بل هي عملية تاريخية بطيئة تحتاج الى سنين وسنين، بعد الخواء والتصحر المديدين اللذين خلّفتهما وراءها الديكتاتوريات الراحلة.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى