صفحات الثقافة

أنا حيُّ في السجن

دارا عبدالله

(ذاكرةُ القتيلِ قٌبيل الذبح، هي حياةُ القاتلِ بعد الذبح)

تلاشي البعد

أرضيَّةُ ممرِّ السجن حائطٌ نائم، والحفرُ كانَت نوافذ. لم أكن أعرفُ بالضبط أنَّ تلك الحُفر كانت قبوراً على شكل منفردات، كالانطباعات الغائرة التي تحفرها حبوبُ الشباب في وجوهِ المراهقين. في الطريق من “المهجع الجماعي” إلى غرفَةِ التحقيق في “فرع الخطيب” بدمشق، كانَ بياضُ بؤبؤِ العين يلمعُ في قتامةِ ظلام تلك الحفر، تأكَّدت وقتها أنَّ فيها بَشراً!

حجمُ المنفردِة – القبر مُصمَّم بدقَّةٍ وعناية، طولُها لا يسمحُ بالتمدُّد الكامل، وعرضُها يعيقُ التكوَّر الجنيني، حيرةٌ برزخيَّة بين الراحة والتعب، حتى التعب المطلقُ غيرُ مسموحٍ لأنَّ الألم النهائي الأقصى تتبعهُ راحةٌ جزئيَّة، كانت تلك الحفرُ أكبرَ انتهاكٍ لكرامةِ القبور.

أحدُ السجناء من “دوما” تمَّ تحويله من تلك المنفردة إلى المهجع الجماعي بعد أن قضى فيها ستَّة أشهرٍ، عينهُ تخافُ الضوء وجسدهُ نحيل، كلامه ثقيلٌ لأنَّ لسانه نسي المواضع الفمويَّة الضامنة للتصويت اللفظي الصحيح، النواتئ العظميَّة نافرةٌ من جسدهِ كأنَّها رؤوسُ كائناتٍ هاربةٌ من الأعَماق.

المصافحَةُ تكلّفه إحراجاً اجتماعيَّاً وجُهداً عقليَّاً حادَّاً، يراقبُ اقتحامَ يده فراغَ الفضاء، رجفانٌ ضيِّقُ الاتّساع كتردُّدِ البوصلةِ قُبيل اختيارِ الجهة، تمرُّ يدهُ بالقرب من يدِ الآخر، فشلٌ فيزيائيٌّ ذريع، يحاولُ مراتٍ عديدةً ويفشلْ، يقول بينه وبين نفسه:”لعمى ما عاد زبطت”، فقدَ القدرةَ على تقديرِ المسافات وعُمْقِ الأمور وسماكةِ الأشياء، كنتُ أراقبه كيفَ يراقب نفسه، وكيف يعاني من “انعدامِ البعد”، من “خفته الثقيلة التي لا تحتمل”، من حواسّه التي لم تعد حواسَّاً.

عبارات علِقتْ في ذهني كانت مكتوبةً على حائط المنفردةِ رقم 1 في فرع “الخطيب”

“ـ ثلاثون يوماً بسبب “لايك” لقناة الجزيرة.

ـ اليوم عرفوا أهلي إنّي على قيد الحياة، أجهشَ والدي في البكاء بعد الاتصال به من موبايل شرطي في المحكمة، قال لي والدي أنَّهم قد نصبوا خيمة عزاءٍ رسميَّة لي ظنَّا منهم إنني قد استشهدت، أنا حيُّ في السجن وميِّت خارج السجن.

ـ السفاح أبو الموت 17/7/2011.

ـ اسمع الصمت جيّداً. أبو خالد الساعور.

ـ دعسُ الأزهارِ لن يؤخِّر مجيء الربيع. أبو خالد الساعور.

ـ مررتُ من هنا.

إذا كنت تريد أن تكتب على الحائط، هنالكَ مسمار تحت “الكرتونة” في الزاوية اليمني، أعدهُ إلى مكانه بعد الانتهاء من الكتابة.

“المَسخ”

سوءُ التغذيةِ وقِلَّةُ الهواء وعدمُ وجود أشعَّة الشمس، يمنعُ التئامَ الجروح في فروع المخابرات، أيُّ جرحٍ حتَّى ولو كان بسيطاً سيتعفَّنُ ويلتهِب. أبو سمير مقاتلٌ مسلَّح من “الجيش الحر” في مدينة دوما بريف دمشق، تمَّ تحويله إلى “فرع الخطيب” بعد انتهاء التحقيق. الجرحُ عميقٌ في قدمه اليمنى، والطعنُ بحربة “الكلاشينكوف” تمَّ بإصرارٍ وبرودٍ وصبرٍ، كصبرِ من يحفرُ بمسمارٍ في قطعةِ خشب، لم يكُن جُرحاً متولِّداً من عِراكٍ مستعجلٍ أو اشتباكٍ عابر، كان جُرحاً مدروساً ومُخطَّطاً له.

دخولهُ حرَّك الركود العام في السجن، تِرحابٌ حارٌّ وتقديرٌ كبير، “المُقاتل البطل” و”الاستشهادي المُضحَّي” كما يقولون، كرَّموه بأفضلِ مكانٍ في السجن، سيلُ الأسئلةِ ينهالُ عن الوضع الميداني في دوما، عن عدد الحواجز ومساحة المناطق المُحرَّرة.

من الروائح اللاذعة التي لا تطاقُ في الطبيعة رائحةُ الجسد المتعفِّن، غريبٌ كونُ البشري مصدرُ كُلِّ جميلٍ ومصدرُ كلِّ قبيحٍ في آن، رائحةُ الجرح المتعفِّن تفوحُ في كلّ أرجاء المهجع، رائحةٌ حادَّةٌ لاذعة تخرجُ بكثافة وتركيز من القدم المتعفِّنة إلى الدماغِ مباشرة، اقتربتُ من الجرح، بياضُ عظمِ الشظيَّة في ساقه يشوِّش على بياضِ قطيعٍ من الدود السارح، هو نفسهُ ذلك النوع من الدود الذي ينهشُ في جسدِ الموتى، كان دودُ الموتى يعيش في جسدهِ الحي.

صراعٌ نفسيٌّ يندلعُ خفيَّة في دواخِل الجميع، الرائحةُ الكريهةُ المستحيلةُ من جهةٍ، والتعاطُف الإنسانيُّ النبيلُ من جهةٍ أخرى، بينَ الإحساسِ اليومي العادي، وطهرانيَّةِ البطولةِ المُطلقة.

تزايدت حالاتُ الإقياء وبعضهم لم يعد يستطيعُ الأكل بسببِ الرائحة، التأفُّفُ فاضحٌ وآخرون أبدوا التقزُّز وأعلنوا القرفَ علناً، قسمُ منهم كانوا من رحَّبوا وسُعِدوا بقدومِ “البطل” في البداية، انتفخَ جسدُ أبو سمير وانتقلَ الإنتانُ إلى دمهِ، سائلٌ أبيضٌ ذو رائحةٍ فجائعيَّة فادحَة كقيء الرضَّع ينزُّ من قدمهِ، التعاطفُ انعدمَ تقريباً، وانتقلَ التأفُّفُ والتذمُّر من الحيِّز الخاص الخجول إلى النقاش العام، صارَ البعضُ يطلبُ من رئيس المهجع أن يطلبَ من “المساعد أوَّل” لنقل أبو سمير إلى “المنفردة” لأنَّ “الحياةَ أصبحَت مُستحيلة”، بشاعةُ تلك الرائحة أظهرَت كُلَّ أنانيَّةٍ جوانيَّةٍ بشعة وتعلُّقٍ بدائي غريزي بسيط، الرائحة شفَّت أجسادنا إلى زُجاجٍ يُظهر كلَّ قبيحٍ مُختبئٍ في دواخلنا، ألم تكن “الحياة مستحيلة” قبلَ تلك الرائحة؟! كان بين من يطلب بطردهِ من المهجع أشخاصٌ هلَّلوا وسُعِدوا لقدومهِ في البداية، لم يعد أحدٌ يساعده ليخرج إلى دورة المياه، جسدهُ المنتفخ شلَّال من سوائل قاتمة، البولُ والسائل الالتهابي المتعفن، بالإضافة إلى رائحةِ الخراء المَحض.

كانت رائحته تسبِّبُ لي صُداعاً حاداً، صبَّ حسُّ الكراهية لدي في شعور الرفض الجماعي المُشترَك، عندما تأكَّدتُ من أنَّ الرائحة لا تُغلَبُ سوى بالرائحة ( كنت أتذكر جملةً كتبتها على دفترٍ ضائع “الطيرُ لا يُصطَاد سوى بالطير”)، كنتُ أضعُ يدي في الحيِّز الفاصلِ بين خصيتي وفخذي وأشمُّ أصابعي، رائحةُ العفنِ المتراكمُ لجثُثِ نطافٍ سجينةٍ دُلِقَت في احتلاماتٍ ليليَّة لم تكتمِل، لديَّ من العَفن ما يكفي لأن تصبِح رائحةُ أبو سمير زكيَّة، عفنُكَ أحبُّ إلى قلبكَ من عفن الآخرين.

بعد ثلاثة عشر يوماً مات أبو سمير من الصدمة الإنتانية العامة، حزن البعض، صمت البعض، وفرح البعض الآخر، وكان من بين المسرورين، أشخاصٌ رحّبوا به في البداية.

عندما نقلوا جُثَّته كان بعض السجناء يقومون بالدعس على الديدان التي كانت تسقطُ من جسده.

[ نصوصٌ من كتاب نثري تحت الطبع بعنوان

“الوحدةُ تدلِّلُ ضحاياها”

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى