صفحات الثقافةغالية قباني

عن الحمولة الاخلاقية التي ترمى مع القنابل


غالية قباني*

الى الطيارين السوريين الذين يقلعون بطائراتهم لرمي القتل على شعبهم

عندما هبط قائد الطائرة التي اسقطها مقاتلو الجيش الحر في “موحسن” وأسره مقاتلو الجيش الحر وتمّ بث المقطع على الاعلام، وجد كثيرون أنفسهم أمام قاتل للمدنيين بهوية سورية وجها لوجه، ملامحه واضحة وعلى خده خدش نتج عن سقوطه. بدا مثل وحش تم صيده للتو وهو يجيب على اسئلة المقاتلين ويرد بعنجهية مع تحكم واضح بلسانه كي لا يفلت بما قد يعجل بمصيره. مشهد استدرّ الدمع من عيون الزوجة المصدومة وهي تحيط بأولادها وتناشد من أسروه بـ”التحلي باخلاق الاسلام الذي يرفعون لواءه”. اما المتابعون للشريط الواجمون امام الاعلام القديم والجديد معا، فقد تساءلوا باستنكار: هل هذا الطيار سوري الجنسية؟

نعم كان الطيار سوريا، ليس من أوكرانيا أو روسيا ولم يكن من ايران، طيار سوري له اسم ثلاثي واضح، وافق ان يحلق فوق سماء البلاد حيث يرى من فوق إلى آثارها التي تؤرخ لعراقة التاريخ البشري فيها، والى سهولها الخضراء وخيراتها التي تغذي الناس فيحرق المحاصيل بأخضرها ويابسها ويمحو جزءا من تاريخها العتيد. يتابع من علوائه حركة الناس في بيوتهم المتلاصقة والبعيدة ويقرر ان يجعلهم يبيتون اليوم في العراء، او في القبور، ومن ثم يعود هو الى عائلته ليستريح بينها مثل أي رب عائلة ينتهي دوام عمله. لم أكن ممن صدموا من حقيقة ان الطيار كان سوريا، حصلت فقط على فرجة واقعية لطيار يقتل المدنيين الأبرياء بكل برودة مشاعر تدرّب عليها عندما دربوه على قصف التجمعات السكانية من دون اي حس إنساني. تابعت باهتمام وجه الطيار وهو يلوب مثل وجه ثعبان لحظة القبض عليه يريد ان يقذف بشتيمة ما تقول “انا العقيد فلان” وقارنته بوجه الطيار الليبي على احدى الفضائيات فترة الثورة الليبية وهو يقول: “كيف نقصف شعبي!!”. كان نموذجا لعدد من الطيارين الليبيين الذين رفضوا أن يشاركوا في قصف الشعب الليبي بينما سرت شائعات وقتها ان القذافي يستعين بطيارين سوريين. يا للعار. هنا وهناك.

من غير المفهوم ان يرمي الانسان بحمولة قاتلة يعرف نتائجها مسبقا ويتخيل الدماء والارواح التي ستزهق نتيجة لها، ثم يعود الى البيت الهانئ والطعام الساخن ويمضغ لقمته بهناء. ألا تتابعه الكوابيس بعد ان يضع رأسه على المخدة؟ ألا يرى سهلا جميلا من اراضي بلاده وقد تحول الاخضر فيه الى الاحمر ممزوجا بالسواد، غبارا كثيرا يتداخل صفاره مع لون غبار الفحم يحاول أن يمسحه ليحدق في التفاصيل المغطاة، إلا ان المشهد في المنام يبقى غائما، رغم علمه انه يغطي تحت ضبابيته ذراعا امتدت من تحت ركام مبنى سقط على ساكنيه تستنجد العالم فرصة اخيرة للحياة، ووجوها فقدت ملامحها عند اختلاط اشلائها مع غيرها ربما تمايل اصحابها مرة طرباً وهم يستمعون الى اغنية فيروز “أسامينا.. شو تعبوا أهالينا تالاقوها”. تضيع “الأسامي” هي الاخرى وتصبح رقما بين عدد المفقودين او الضحايا الذين سيعلن عنهم في البيانات الصحفية.

لا يمكن لمن يقود الطائرات الحربية ويرمي بحمولة قنابل من فضاء رحب الى ارض مزدحمة بالبشر، أن يكون مزودا بمنظومة أخلاقية تجعله يشعر بمعنى الحرية وهو يطل من علٍ ويرى في الفضاء من حوله اكثر رحابة من ضيق المكان في ردهات مباني الحكم التي تأمره بقتل البشر، مجمل البشر، نساء واطفال ورجال لا يحملون السلاح. لماذا لا يهرب الى الحرية وهو حر في السماء!!

تحضر في الذهن قصص الجنود الاميركيين الذين عادوا من فيتنام وقد اصيب عدد منهم بأمراض نفسية وكوابيس حرمتهم النوم، ويمشاكل في التواصل مع من حولهم. لكن ليس جميع المقاتلين بهذه الحساسية التي تقض مضجع الضمائر. أستعيد حوارا نشرته “الغارديان” البريطانية قبل سنتين مع “تيودور فان كيرك” الوحيد المتبقي على قيد الحياة من اثني عشر فردا شكلوا طاقم طائرة “إينولا غاي” الاميركية التي ألقت القنبلة الذرية على هيروشيما في 6 غاسطس 1945 وكان ضحيتها 230 الف ياباني قتل منهم سبعين الف مباشرة بعد القصف. جاء الحوار بعد مرور 65 سنة على القاء القنبلة، وكانت اجابات قائد الطائرة ابن التاسعة والثمانين مستفزة ادّعي فيها أن لياليه كانت خالية من اي كابوس!! لم يشعر الطيار العجوز باي تأنيب ضمير بعد تلك السنوات فهو يحرر نفسه اخلاقيا وقانونيا لأن المسؤولية تقع على الرئيس الاميركي ترومان الذي أمر بالقصف. الطيار فان كيرك الذي كان قد القى خمسين حمولة فوق اوروبا وافريقيا قبل ان يكلف بقنبلة هيروشيما، لم يقلق كثيرا على المدنيين الذين سقطوا جراء تلك الحمولات القاتلة ” أنت دوما تعرف أن المدنيين سيكونون بين الضحايا لكن القيادات كانت تقول لنا تبريرات مثل: نحن نقصف إرادة شعب يريد ان يقاتلنا. وكان هذا سببا كافيا لكي نقتنع”!.

هذا هو ما يفعله الطيارون السوريون الآن، قصف ارادة شعب وتنفيذ مخطط النظام لارتكاب المجازر “من فوق”. هؤلاء الطيارون (وكل قائد عسكري على دربهم على الارض) سيعدّون ضمن مجرمي الحرب في تاريخ سورية المقبلة، ولن يعفيهم من العقوبة الاختباء خلف مبرر “فرضت علينا الاوامر”.

لقد تلهف السوريون بعد اعتقال الطيار السوري في “موحسن” الى مجرد اعتذار من العقيد عن قصفه شعبه، الا انه لم يفعل، وهم لن يتعاطفوا بالتالي مع قاتل تحوّل فجأة الى ضحية له عائلة تحبه وتناشد من اسره الرأفة به وبهم، وهو موقف ذكرهم بسلوك الاعلام الصهيوني في تبييض صفحة جنوده واشغال العالم بهم بعيدا عن دماء الابرياء من ضحاياه. لن تؤنسن القاتل النداءات الصادرة من زوجته للإفراج عنه واعادته الى أطفاله، سيؤنسنه طلبها هي وبقية أقاربه ومعارفه ان يتوقف عن قصف المدنيين من شعبه، ان يرحم المشيعين الذين يسيرون في جنازات أحبتهم، ان يرأف باللاهثين خلف لقمة تسند اجسادهم المتعبة في طوابير الخبز، ان يفكر في البيوت التي تضم اطفالا وامهات وشيوخا ابرياء.، بهذا الطلب يثبتون انسانيتهم جميعا ويؤكدون على مواطنيتهم المشتركة مع شعب يذبح يوميا. عليهم ان يبادروا هم وقبل ان تسألهم الاجيال القادمة: لماذا لم تحلقوا بالطائرات بعيدا!!

18/08/2012

*كاتبة سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى