صفحات الرأي

عن انتهازية المعارضة العربية/ بدر الإبراهيم

 

 

قلما نجد نقاشاً جدياً حول بنية الحركات والشخصيات المُعارِضة في الوطن العربي وخطابها، إذا استبعدنا شيطنتهم التي تقوم بها الأنظمة التسلطية في وسائل إعلامها. وعلى الرغم من أن القول الشائع الذي يردّده مثقفون موالون لهذه الأنظمة إن المعارضة أسوأ من النظام يأتي في معرض الدفاع عن الأنظمة وتجميل صورتها، إلا أن هذا لا ينفي أن حركاتٍ وشخصياتٍ مُعارضة كثيرة قد تبنت خطاب الأنظمة التسلطية وممارساتها، ما يجعل ناتجها سيئاً، بغض النظر عن أي مقارناتٍ. لعل عجز هذه الحركات المعارضة عن قيادة الجماهير، وعن تحويل انتفاضات الجماهير وثوراتها في الشارع إلى عمل سياسي في المؤسسات، ينقل بلداننا من حالٍ إلى آخر، وترك فراغٍ تملأه بقايا الأنظمة من جهة، وحركات العنف الجهادية من جهة أخرى، يجعل التساؤل حول فشل هذه النخبة، على الرغم من سنين طويلة في العمل المعارض، مهماً ومفيداً لفهم ما يجري حولنا.

لا بد من القول إن الأنظمة التسلطية في الوطن العربي جرّفت الحياة السياسية، وفرّغتها من المعنى، إذ قمعت كل محاولةٍ لتشكيل أحزاب سياسية حديثة، لها وجود على الأرض، وتوجه يختلف عن توجهات هذه الأنظمة. وعوضاً عن ذلك، قامت بتجميل تسلطها عبر الدفع بوجود أحزابٍ صغيرة في الحياة السياسية والبرلمانية، لا حول لها ولا قوة، ولا قدرة لها على التأثير في المؤسسات، أو في الرأي العام. وبمعنى آخر، هي لا تغير في المعادلة القائمة، ولا تشكل خطراً على النظام، وتقوم بدور “ديكوري”، ضمن الصورة التي يقدّمها النظام.

“من المهم أن يرفع المعارض قيماً وشعاراتٍ نقيضةً لقيم النظام التسلطي، لكن الأهم أن تكون ممارسته متسقة مع هذه القيم، لا تستعجل النتائج عبر استخدام أي وسيلةٍ كانت”

لكن المسألة لا تتوقف عند الأحزاب الديكورية، بل تتعدّاها إلى عدم قبول تشكيل سياسي خارج الأطر المذهبية والعشائرية والمناطقية، أي أن هذه الأنظمة لا تقبل تشكيل أحزابٍ حديثة، وتحاربها بشراسة، لكنها تقبل بجعل شيوخ عشائر ووجهاء مناطق، وأحياناً بعض رجال الدين، وسطاء بين الدولة والمواطنين، بما يعني القبول الضمني بتسييس هذه المكونات، وهي البديل عن الأحزاب الأيديولوجية الحديثة. من هنا، يمكن فهم العودة إلى الهويات الأولية، بعد تآكل الدولة أو انهيارها، خصوصاً إذا كانت الدولة قد اختُزِلت بعشيرة تحكم، بما يشجع على تسييس الهويات الأولية كلها في مواجهة العشيرة و”طائفتها”، وربما منطقتها.

غير أن تجريف الحياة السياسية لا يلغي مسؤولية النخبة المعارِضة عن فشلها في إنتاج بديلٍ للأنظمة القائمة، وفي تقديم نموذج مغاير ونقيض. أحد أهم الأسباب في هذا الفشل بحث هذه النخبة عن الحلول السهلة في مواجهة هذه الأنظمة، فبدلاً من محاولة صناعة نموذج حقيقي، يشكل بديلاً قيمياً وعملياً للنظام، يصبح هدف معارضين كثيرين تدمير النظام بأي شكل، ما يدفع إلى ذرائعية تتبنى أساليب النظام نفسه لإسقاطه، أو تلعب بالأوراق المتاحة ضمن اللعبة الحالية أياً كانت، وأياً كان خطرها على المجتمع والمواطنين، في حين أن بناء تراكم اجتماعي وسياسي لصالح نموذج مغاير، ولو استغرق الأمر زمناً طويلاً، ليس في تفكير حركاتٍ وشخصياتٍ يشغلها الانتقام من النظام.

بعيداً عن تقييم حجم الاختلاف بين مجموعة كبيرة من المعارضين والأنظمة التسلطية التي يعارضونها، في قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، يبرز بوضوح نموذج المعارض الراغب بالثأر، والذي لا يوفر وسيلةً لتحقيق ثأره، حتى لو كانت تتعارض مع القيم التي يدّعي الدفاع عنها. من السهل ضرب أمثلة كثيرة، في السنوات الأخيرة، بمعارضين يستخدمون كل الأوراق الممكنة للتحشيد ضد النظام، فإذا كانت ورقة الطائفية ناجحةً، فيمكن استخدامها للتظلم من النظام، أو للمزايدة عليه طائفياً. ويمكن، أيضاً، استخدام القبلية ومحاولة استنهاض القبائل ضد النظام، واللعب على كل أنواع التقسيمات الاجتماعية، في سبيل إيجاد قاعدة للمعارضة، والعمل ضد النظام، حتى لو أدى ذلك لتخريب المجتمع والبلد.

يستخدم مثقفون حداثيون علمانيون القبلية، أو يُعبِّئون على أساس الخطاب الديني ما دام يمكن استخدامه. ويتحالف معارضون مع التنظيمات الجهادية التي تقتل على الهوية، فقط لأنها ضد الأنظمة، أو يدعون إلى غزو بلدانهم، طالما أن هذا يحقق هدف إسقاط النظام، من دون الالتفات إلى شكل دولةٍ تحت الوصاية، وأثر التدخل الأجنبي على العلاقات بين أفراد المجتمع ومكوناته، والفوضى التي يمكن أن تنتج عن ذلك. لا يؤكد هذا على ضيق الأفق وحسب، أو عدم حساب المصلحة الوطنية عند استخدام هذه الأساليب، بل أيضاً على العجز عن بناء حالةٍ مختلفة قيمياً، وعن جذب الجماهير لنموذج مختلف، واستبدال ذلك بالغوص في الحالة التي صنعتها السلطة، ومواجهتها بما هو متوفر، في تعبيرٍ واضحٍ عن الانتهازية المحكومة بعقلية الثأر.

من المهم أن يرفع المعارض قيماً وشعاراتٍ نقيضةً لقيم النظام التسلطي، لكن الأهم أن تكون ممارسته متسقة مع هذه القيم، لا تستعجل النتائج عبر استخدام أي وسيلةٍ كانت، ولا تعتبر مجرد تغيير النظام غاية المنى، وإنما يكون تغيير النظام مَعْبَرَاً لتركيب نموذج جديد. بناء التراكم اللازم لجعل هذا النموذج حاضراً في وجدان الجماهير أولى من التحشيد ضد النظام، باستخدام أدواتٍ تضر المجتمع، بكل مكوناته، وتساهم في تكريس المشكلات القائمة، بدلاً من تغييرها جذرياً.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى