صفحات الثقافة

في أن الرقابة ليست “امتيازاً” عربياً/ هدى نجم

 

 

الحديث عن المعايير المزدوجة في الولايات المتحدة الأميركية لن يفاجئ أحداً. ولكن أن تتم المطالبة بحظر أعمال منشورة بحجة أنها “فاسقة” و”خليعة” وصادمة، على غرار ما حصل أخيراً في قضية اربعة كتب مصوّرة، في بلاد تكاد تتعامل مع صناعة البورنو كأنها رياضة وطنية، فهذا ما يصعب فهمه، وإن كان قد تم دحض الدعوى ورفض المضي فيها.

فحوى الخبر ان الطالبة تارا شولتز في جامعة كرافتون هيلز في كاليفورنيا رفعت دعوى على الجامعة وعلى الاستاذ رايان بارتليت بحجة ان القصص المصورة التي يعلّمها في صفه هي فاضحة و”بورنوغرافية” وتتضمن مشاهد جنسية وعنيفة غير مقبولة. وقد ردّت ادارة الجامعة طلبها، علما ان الكتب المعنية تشمل “برسيبوليس” لساترابي و”بيت الدمية” لنيل غايمان و”الرجل الاخير” لبيا غيرا و”منزل التسلية” لآليس بيشديل.

اذا ألقينا نظرة على لائحة الكتب الأدبية المحظورة عبر التاريخ، لوجدنا أعمالا تُـعدّ اليوم من تحف الأدب الغربي، من “اعترافات” جان جاك روسو الى “عوليس” جيمس جويس و”كانديد” فولتير وحتى “اوراق العشب” لوالت ويتمان، فضلاً عن منشورات صدمت الرأي العام عند صدورها وغدت اليوم من الكلاسيكيات، على غرار أعمال الماركيز دو ساد وجورج باتاي وغيرهما. ولا تزال أعداد الكتّاب الذين يلاحَقون أو يُسجَنون أو يتعرضون للتخويف والترهيب والضغوط جراء مؤلفاتهم، تزداد يوما بعد يوم.

كتّابٌ “تغتالهم” افكارهم وكلماتهم، هناك في البعيد، في بلدان كالصين وسري لانكا وزيمبابوي وكوبا، وايضا هنا، على مقربة، في معاقل الحرية والديموقراطية على غرار أميركا وفرنسا وايطاليا وسويسرا!

واذا كنّا نتفهم، مستـنكرين، أن تكون الرقابة آفة لا تزال متمكّنة من البلدان الخاضعة لنير الأنظمة التوتاليتارية والقمعية، وأنها تُـطبّق أيضا في حالات استثنائية وبحذر شديد في بعض الدول الغربية في ما يتعلق بمنشورات تتناول موضوعات مؤذية أو تحرّض على أفعال خطيرة، كتلك المتعلقة بالمخدرات والعنصرية والمتفجرات واستغلال الأطفال،- اذ ينتصر في هذه المجالات حق احترام الانسان وحمايته على حرية الكاتب، الا انه لا يسعنا إلا أن نستهول ان تطال الممارسات الظلامية كتباً لا تندرج في هذا الإطار، وذلك في أكثر المجتمعات مناداة بالديموقراطية واحترام حرية التعبير، على غرار ما حصل أخيرا في الولايات المتحدة.

أرض العجائب والغرائب تلك، التي لطالما ادّعت استيعاب ما لا يُـستوعَب، اتضح منذ زمن انها ليست محصنة ضد لوثة الرقابة. وليست الرقابة غريبة عنها بقدر ما قد يخيّـل للمرء، اذ مثّلت اميركا  – ولم تزل – احد اكثر المجتمعات طهرية وتزمتا وازدواجية، ومُنعت فيها كتب كثيرة على مر التاريخ، الى حد انها خصصت اسبوعا للكتب الممنوعة في شهر أيلول من كل سنة، تشرف عليه منظمات الدفاع عن حقوق الانسان وحرية التعبير. وقد طالت الرقابة في الماضي جمهور القراء القاصرين في شكل رئيسي، من خلال حظر مآثر، من مثل “طوم سوير” و”هكلبري فين” لمارك تواين، وقصة ليلى والذئب، وبعض مسرحيات شكسبير، و”ذهب مع الريح” لمارغريت ميتشيل وغيرها. حتى كتاب هاري بوتر، الذي بيعت منه ملايين النسخ منذ اول ايام صدوره وبات يشكل “هوسا” في الغرب، حتى هذا الكتاب  – الظاهرة عانى الرقابة بدايةً بسبب اتهامه بالتشجيع على السحر والشعوذة. ولم تقتصر دوافع الرقابة الأميركية على المبررات الاخلاقية كضرورة حماية القاصرين وحظر الكتب التي تحرّض على ادمان المخدرات وعلى الكراهية العنصرية، بل شهد تاريخ العم سام ايضا حالات رقابة سياسية على غرار منع مانيفست الحزب الشيوعي وكتاب “دكتور زيفاغو” لبوريس باسترناك مثلا.

قد تبدو غريبة للوهلة الاولى قضايا منع الكتب بناء على مبررات “اخلاقية” في الغرب، اذ لطالما شكلت تلك المجتمعات نموذجا في “هضم” الكتابات الصادمة من كل جنس ولون، واتاحت هامشا كبيرا من التسامحية إن على صعيد الكتابات الجنسية الفاضحة او تلك المتعلقة بنواح اخرى من الحياة الحميمة. الا ان التاريخ الغربي لم يخل من قضايا الحظر هذه، منذ ايام “مدام بوفاري” لفلوبير و”لوليتا” لنابوكوف و”عشيق اللايدي شاترلي” لـد.هـ. لورنس، مرورا طبعا بكتب الماركيز دو ساد، وصولا الى قضايا اكثر حداثة.

ولا بد هنا من أن نختم بالحديث عن برادبوري واورويل. في الواقع، كثر هم الأدباء الذين تناولوا موضوع الحظر والرقابة في أعمالهم، ولكن ابرزهما عملان: كتاب “فاهرنهايت 451” للأميركي راي برادبوري، الذي يصف فيه مجتمعا مستقبليا قائما على نظام قمع مرعب، ممنوعة فيه الكتابة والقراءة. فالكتب غير قانونية ولا وقت لقراءتها اصلا، لأن التلفزيون يحتل كل المساحة من خلال بثه البرنامج نفسه تكرارا على مدى 24 ساعة. أما البطل فهو الإطفائي مونتاغ المكلّف حرق الكتب، حتى لو تطلب ذلك حرق المنازل التي تحويها والناس الذين يرفضون التخلي عنها. وقد حوّل المخرج الفرنسي فرنسوا تروفو الكتاب فيلما نال شهرة كبيرة. وهذه الرؤية المرعبة عن مستقبل الانسانية تمثل المعركة بين الرقابة والحرية وتقدّم صورة عما يمكن أن تؤدي اليه أنظمة القمع وتخدير الشعوب وتقييد الفكر والتعبير.

أما العمل الثاني فتحفة جورج اورويل “1984”، التي  تصوّر بدورها مجتمعا خياليا، حيث الرقيب لا يكلّ ويمكن الشرطة أن تقرأ الأفكار. أما البطل فوينستون يعمل في “وزارة الحقيقة” ويقوم عمله على “تصحيح” ملفات التاريخ. هدف الكاتب الى انتقاد الأنظمة التي تسيطر على الناس من خلال الكذب والرقابة، ركني التوتاليتارية.

نشير اخيرا الى أن وحش المنع فقد الكثير من “مخالبه” وهيبته ونفوذه هنا وهناك، مع حلول الثورة التكنولوجية وانتشار الكتاب الالكتروني الذي ألغى الوسطاء وسبل اعتراض طريق الكتب. وأصبحت شبكة الانترنت وسيلة فاعلة لمكافحة الرقابة، من خلال منظمات تستخدمها اداة لنشر الأعمال الممنوعة والتشهير بممارسات الرقابة في جميع انحاء العالم.

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى