صفحات الثقافة

الثور» للصينيّ مُو يَان.. تحدّي الإخصاء

 

هيثم حسين

 يختار الصينيّ  مُو يَان الحائز على جائزة نوبل 2012، سنة السبعين من القرن العشرين خلفيّة زمانيّة لأحداث روايته «الثور»، حيث الثورة الثقافيّة التي أطلقها ماوتسي تونغ 1966، والتي دامت عشر سنوات تكون في ذروتها، فيرصد مُو يَان التغيّرات الاجتماعيّة الحاصلة والانقلاب الناتج عنها، وتغيّر نظرة الناس لبعضهم بعضاً، والخلخلة الحاصلة في سلّم القيم ومعايير الرجولة والمكانة والاعتبار.

يسلّط مُو يَان الضوء على محنة بلد من خلال محنة ثور يتمّ إخصاؤه، وذلك في عملية كانت توصَف بأنّها روتينيّة في المناطق التي يكون الثور أداة إنتاج رئيسة فيها، فضلاً عن إيقاف التناسل للمحافظة على الموارد الشحيحة التي بالكاد تكفي القرويّين. كما كان يتمّ تفضيل الثور على البشر من حيث الاعتناء به كوسيلة، ويمنع على الناس الإساءة إليه أو ذبحه، ومعاقبة مَن يخالف التعليمات بذلك، ويكون الإخصاء وسيلة للمحافظة عليه وكسب خدماته المنشودة.

يسرد مُو يان روايته على لسان الفتى الصغير روهان ذي الأربعة عشر عاماً، والذي يكون شاهداً على الآثار التي تخلّفها الممارسات التي تمّت باسم الثورة، والتي راكمت الكثير من المشاكل وعقّدتها. روهان الفتى الفضوليّ الثرثار، يتنقّل بين جنبات القرية، ينقل خباياها ويكشف أسرارها ويزيح النقاب عمّا يتمّ في الخفاء، وذلك عبر تصويره لما يشاهده أو يسمعه، ليكون مذياع القرية ومِهذارها.

يلاحق روهان راعيَ الأبقار؛ العم دو، في سياقه لثلاثة عجول إلى الطبيب البيطريّ القادم من الوحدة الإنتاجيّة لإخصائها، ويراقب عمليّة الإخصاء، ولا يبخل بثرثرته وهذره. إذ بعد أن يخصي الطبيب لاو تونغ عجلين ويأتي دور الثالث شوانجين، يفصح روهان أنّه شاهد شوانجين عدّة مرّات ينزو على البقرات، ما دفع الطبيب إلى التردّد في الإقدام على إخصائه، متعلّلاً بأسباب علميّة، وأنّ حياة الثور ستكون في خطر في حال إخصائه، لكنّه يتراجع عن قراره تحت ضغط العم دو وإلحاحه، ما دفعه إلى المغامرة بذلك، وإخصاء شوانجين أسوة بالثورين السابقين. وكان بيض الثيران طعاماً شهيّاً لماليان عمّ روهان والطبيب لا تونغ بعد ذلك، وبقي روهان والعم دو يجوبان بالثيران، ليلاً نهاراً، ليمنعوها من البروك على بطونها كي لا تتفتّق جروح أكياس الصفن عندها وتتسبّب بمضاعفات خطيرة.

تتحوّل مشكلة الثور شوانجين إلى أزمة تكشف خواء المؤسّسة الرسميّة المتمثّلة بالسلطات الثوريّة، إذ تعكس الروتين البائس والتوجّس المرَضيّ المتبادل بين الناس، والفوقيّة التي يتعامل بها مسؤولو الوحدة الإنتاجيّة مع الفلاّحين والقرويّين، وكأنّهم بصدد الانتقام من ماضٍ بائس، وتكشف كذلك مقدار الفساد المتنامي في ذروة زعم مكافحته والتمهيد لمرحلة جديدة بثورة شاملة قائمة.

أثناء تجوال روهان بالثور مع العم دور، يصف الناسَ الذين يمرّ بهم، أشكالهم، هيئاتهم الزريّة، البؤس الذي يجلّلهم، اليأس الذي يغرقهم، والجوع الذي يرهقهم، بحيث يخمّن المرء أنّهم على أعتاب الحياة يخافون من مواجهة المرايا ومواجهة ذواتهم والنظر إلى أشكالهم فيها، ويصف كيف أنّ أبسط الأمور كانت تتحوّل إلى مشقّات، وتكاد تتسبّب بكوارث للناس، وذلك أنّ السلطات الجديدة كانت تتّخذ الانتقام وسيلة في زعمها الدفاع عن أهداف الثورة.

إخصاء الثور إشارة لمّاحة إلى محاولة انتزاع الرجولة من شعب بكامله عبر إخضاعه لعمليات بتر أعضائه الجسديّة وتدجينه ونزع غريزة الحياة والتناسل والتجدّد منه، والسهر لحراسة هياكل معطوبة، بحيث يتألّل ويدور في الحلقة المفرغة نفسها دون أيّ طموح كونه فقد «أعزّ» ما يملك. ولا يقف الانتزاع عند عضو بعينه بل يتعدّاه إلى انتزاع الروح، وذلك حين التأكيد على أنّ الثور المخصيّ شوانجين لم يتآلف مع حالته الجديدة كالثورين السابقين، بل آثر أن يذوي برفق ويموت بطريقة انتحاريّة، عبر احتجاجه بالرغبة عن الأكل، وبالتالي حرمان أولئك المسؤولين من خدماته المحتملة، ويكون احتجاجه الآخر بعد موته من خلال تسبّب لحمه الذي تمّ توزيعه وبيعه بالتسمّم للمئات باعتباره ناقلاً لمرضٍ معدٍ، وذلك لأنّ جسده كان قد نفق بعد موته، وبقي ينتظر توقيع المسؤولين وتبريرهم لحالته، باعتباره أداة إنتاج هامّة مفقودة.

يرمّز مُو يَان كيف أنّ انتزاع أعضاء ثور كشف عورات ثورة. وربّما يختصر الثور المخصيّ محنة جيل بكامله في الصين بعد الثورة التي حاولت محو آثار الماضي كلّها وزعزعت القيم الاجتماعيّة في مسعى لتسييد قيمها الثوريّة، وإزالة الفروقات التي كرّست فروقات أخرى جديدة أعمق أثراً وأشدّ تأثيراً وتقسيماً.

مُو يَان الذي يُوصَف بمهادنته للسلطات، يسعى في روايته «الثور» إلى تعرية زيف مزاعم الثورة التي تسبّبت في إحداث شروخ عميقة في بنية المجتمع الصينيّ، وذلك عبر سخرية سوداء وحكاية عميقة في مكان هامشيّ وعبر سيرة ثور مخصيّ يتحدّى إخصاءه ويقرّر الاستسلام للموت، هاجراً حياة الذلّ المرسومة له.

 •                   رواية «الثور»، مُو يان، ترجمة محسن فرجاني، الهيئة العامّة لقصور الثقافة، القاهرة 2013م.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى