صفحات سورية

رد على سلامة كيلة: أولوية الواقع أم الأفكار؟/ علي العبدالله

 

 

كتب الصديق سلامة كيلة مقالة طويلة، بعنوان “أهداف الثورة السورية بعد سيطرة الأسلمة“، نُشرت على حلقتين في صحيفة العربي الجديد، يومي 2 و3 يناير/كانون الثاني الجاري، أراد بها تفسير سبب ما اعتبره انزياح الثورة السورية عن هدفها الأول: الحرية، وتحوّلها إلى إقامة “الدولة الاسلامية”، بعد ما سماها “الأسلمة” التي جسّدتها هيمنة الكتائب الإسلامية على المشهد، مبرزاً سبباً رئيساً: تبنّي الحرية هدفاً وحيداً للثورة، وتجاهل مصالح الفئات الأوسع في المجتمع والثورة: المفقرين والمهمشين…. إلخ، وحمّل النزعة الليبرالية التي تصدّرت المرحلة الأولى للثورة، والمعارضة وبعض المثقفين، مسؤولية هذا التحول، ودعا، في نهاية المقالة، إلى تصويب المسار وإعادة الاعتبار إلى مطالب المفقرين والمهمشين، عبر برنامج تغيير شامل سياسي واقتصادي.

أول ما يلاحظ على مقالة الصديق كيلة منهجها الذاتي، فقد انطلق من مسبقات نظرية، وراح يسقطها على حالة عينية، من دون اعتبار لطبيعة الواقعة والشروط التي حكمتها، والظروف التي أحاطت بها. فالثورة السورية التي فجّرها شباب غير منتمين إلى أحزاب أو عقيدة سياسية محدّدة، حكمها قانون الهبة أو الفورة وردّ الفعل على قهر مكبوت، حفّزها مناخ الربيع العربي، وزاد لهيبها ردّ النظام العنيف. لذا، كانت شعاراتها عامة ومتنوّعة، وتتغيّر وفق التطوّرات والمؤثرات الذاتية والموضوعية، وقد حاولوا ترشيد تحرّكهم وطرح تصورات وحلول خلال

“الثورة السورية ليست تطبيقاً لما كتبه مفكرو اليسار في القرن الماضي عن الثورات، وشروط انفجارها وانتصارها”

المواجهة. فالثورة السورية ليست تطبيقاً لما كتبه مفكرو اليسار في القرن الماضي عن الثورات، وشروط انفجارها وانتصارها. كان زياد الرحباني قد انتقد هذه التصوّرات، على لسان أحد ابطال مسرحيته “نزل السرور”، حيث ينبري مفكر يساري لتعريف الثورة بقوله: الثورة تخطيط فـ حزب فـ جريدة حزب فـ إعداد للرأي العام فـ تهيؤ فـ اقتحام فـ وصول.. فيردّ عليه آخر فـ راحت علينا يا شباب. والدارس الموضوعي ملزم بتناول الواقعة بظروفها وشروطها وتحديد طبيعتها الخاصة، ثم يحكم إن كانت قد نجحت في منطلقاتها وانسجمت مع ذاتها في ممارستها وحققت، أو لم تحقق، أهدافها، أما أن ينطلق من مسبقات نمطية، وفق مسطرة خاصة، ويسقطها على واقعة عيانية من جهة، ويحكم على الثورة من خلال تصوّره الخاص للأهداف من جهة ثانية، ففيه مجانبة واضحة للموضوعية والعقلانية.

أما ثاني ما يلاحظ فهو ذاك التفسير الضيق لشعار “إسقاط النظام”، وحصره بالوصول إلى السلطة، والربط بينه وبين الانزياح باتجاه تبنّي إقامة “الدولة الإسلامية”. واقع الحال أن شعار إسقاط النظام ولد خلال الثورة، وجاء رداً على تصعيد النظام العنفَ، وارتكابه مجازر بشعة، لم يطرح في بداية الثورة، فضلاً عن أن قراءة أوراق القوى الثورية تكشف خطأ هذه القراءة الشعار، حيث ثمة تصوّر واضح طرح إسقاط النظام مرحلة أولى على طريق التغيير (يمكن العودة إلى ورقة لجان التنسيق المحلية أو أوراق المجلس الوطني ووثائق اجتماع المعارضة في القاهرة 2012). كما أن هيمنة الكتائب الإسلامية على المستوى العسكري لا تعني أن “الدولة الإسلامية” غدت هدف الثورة، فالمسألة ما زالت نقطة خلافية، والنهاية ليست محدّدة أو محسومة.

وثالث ما يلاحظ على مقالة سلامة كيلة توصيفها قوى الصراع، وحصرها في ثنائية النظام والكتائب الإسلامية، وهو ابتسار غير مفهوم أو مقبول، فالثورة التي بدأت، كما أسلفنا شبابية، وغدت شعبية، انخرطت فيها، في مراحل تالية، قوى منظمة، وشاركت دول إقليمية، عربية وغير عربية، ودولية في تغذية نارها، فأصبحت المعادلة مركبة من قوى متنوّعة ومتعدّدة سياسياً وعقائدياَ، لكن هذا لم يخرج القوى التي أطلقتها خارج المعادلة، فعلى الرغم من القتل والدمار والنزوح والهجرة، ظلّت تنسيقيات شبابية وفئات شعبية تقوم بأدوار إعلامية وإغاثية وإسعافية، وظلت كتائب للجيش السوري الحر لا تنتمي إلى التيار الإسلامي موجودة. فهل من المنطق أن نخرجهم من المعادلة، لنسقط تصوراتنا، وبالتالي حلولنا، على الواقع والثورة؟

وآخر ما يمكن أن يلاحظ على المقالة ربط التحاق المقاتلين بالكتائب الإسلامية بالمال والسلاح، وهو سبب صحيح، لكنه ليس الوحيد، وينطوي حصر السبب به على تجاهل لموقع الإسلام في وعي وثقافة السوريين، ودوره في تكوين شخصيتهم وتوجهاتهم العامة، فضلاً عن مغزى هذا التوجه ودلالته: عدم قبول أو عدم ثقة بالخيارات العقائدية الأخرى لاعتبارات تتعلّق بالتاريخ القريب.

يبدو لي أن ما حصل يتجاوز ما ذهب إليه صديقي سلامة من ربط الثورة بمطلب الحرية، لأنه لم يكن مطلباً وحيداً وحصرياً، فهناك تصوّر لانتقال النظام إلى الديمقراطية وسيادة القانون والمساواة بين القوميات وبين الجنسين… إلخ، وإن التعقيد الذي عرفته مسيرة الثورة والانخراط الواسع لقوى سياسية منظمة، وغير منظمة، محلية وعربية وأجنبية، بالإضافة إلى انخراط دول كثيرة في الصراع، بصيغ وأشكال كثيرة، وتحوّل سورية إلى ساحة لتصفية حسابات إقليمية ودولية، وإلى حلبة صراع على الأدوار والأوزان الدولية بين دول كبرى، استنزف الثورة والمجتمع السوريين وجعل الحسم صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، وربط الحل بحصول توافق إقليمي ودولي قبل كل شيء.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى