صفحات الثقافةعبد الوهاب عزاوي

في هجاء الحكمة/ عبد الوهاب العزاوي

 

أعتقد أني تعلمتُ الصبر وشيئاً من الحكمة خلال سنوات المحنة السورية؛ تلك الحكمة اللعينة التي توازي انكساراً ما في الروح. الحكمة ككائن مزعج، مثقل بالهزائم والفشل؛ الحكمة بوصفها صبراً مروّعاً لا مفر منه، عجزاً لا بد من التأقلم معه للاستمرار، مواتاً أبطأ غير حتمي. أعتقد أن الحكمة ابنة التجربة أولاً لا الذكاء، وبشكل أدق هي ليست مرتبطة بالذكاء في الضرورة. فالتاريخ يشهد على مئات الحالات التي ارتبط فيها الذكاء بالتهور والرعونة المغرية، الحيوية والساحرة، وإن كانت خرقاء؛ الرعونة تحمل ألق الكبرياء واندفاع الأمل، يقيناً بالقوة والتحقق. بالتأكيد لا أمتدح الرعونة ولكني أهجو الحكمة.

تبدو مقارنة الحكمة بالرعونة عبثيةً لكنها صادقة. معظم الحكماء مرّوا بتجارب قاسية أو رأوها واتعظوا منها. إذاً، بكلمات أخرى تمسي الحكمة ابنة للألم. أقول ذلك لأن أحد أهمّ الأمور التي تعلمتها في سنوات الانتفاضة السورية، هو الصبر باعتباره حكمة لا مفر منها؛ رؤية ما كان خفياً عليّ، وتغليب تفاصيل الهامش على المتن أحياناً؛ الهامش الذي تجري فيه الحياة المريضة. الحكمة هنا مآلٌ مأسوي، ميزةٌ كنت أتمنى ألاّ نضطر إليها كسوريين. الحكمة هنا مرادفٌ لفقداني تلك الطاقة الغنية، الأمل بتغيير الأشياء، بجعل العالم أفضل؛ فقداني الثقة بالكثير من الأحلام والآمال على غضاضتها؛ فقداني براءة النزق.

بالتأكيد وصفي غير محايد، ولا أجد سبباً لجعله محايداً، ولا أجد في ذلك تناقضاً مع جوهر الفكرة التي أقدمها: “الحكمة ابنة التجربة”. فأن تكون حكيماً لا يعني في الضرورة أن تكون موضوعياً. أن تكون حكيماً يعني أن ترى بعمقٍ أكبر. لذا أحنّ بشراسة إلى شخصٍ كنتُهُ؛ شخص يعلم أنه لا يقدر أن يصفع العالم لكنه في أعماقه يحس أنه قادر على ذلك. أكتب الشعر بكبرياءٍ متوحشة، بفوقية ما؛ فوقية الأشجع والأنبل؛ فوقية أقبّل فيها قارئي بين عينيه كأني أمنحه شيئاً من روحي؛ فوقية محببة، الآن لم يعد لها معنى. لم أعد أثق بقارئي. الأمر لا علاقة له باليأس كما يتبادر إلى الذهن. الأمر أعقد من ذلك. بشكلٍ أدق له علاقة بعبثية العالم، وعبثية الإنسان، وله علاقة بزمان التجربة ومكانها، وما تسببه من تغيرات عميقة في دواخلنا. لا أحاول هنا أن أعيد صوغ القلق الوجودي عند هايدغر أو كيركيغارد، بل أحاول أن أقترب من أحد أوجه مأساة يعيشها شعب كامل. الحكمة التي أفترض أني أخذتها، سأحملها معي سنواتٍ عديدة كما أعتقد، كندبةٍ كبيرة، كحدبةٍ في الكتف. الحكمة هنا وصمة عارٍ، لا يشترك فيها الأشقاء، بل على العكس، الكل يحمل حدبته وينفر من حدبة الآخر قربه. إذاً لا مكان لأخوّةٍ سرية بين المشوّهين الحكماء. الحكمة هنا مرضٌ يخصّ صاحبه، وليس ختم عبودية يجعل من العبيد طبقةً يتعاطف بعضها مع بعضها الآخر. بل الحكمة تتصف بالفرادة، والعزلة. شيءٌ من الصعب التشارك فيه، لأن ذلك يغدو عبثياً.

هل معنى ما سبق أن يصمت المرء، وأن يكتفي بحكمته ومحنته وحده؟ الجواب كما أفترض: “لا”. عليه أن يكتب، أن يدخل إلى الأعمق، لكنْ من دون أن يراهن على أخوّةٍ سرية مع القارئ، ومن دون أن ينتظر شيئاً ما أو تغييراً ما. لست واثقاً من فكرتي الأخيرة لكنها أصدق ما في ذهني الآن. ما زلت أحلم بتلك الحيوية المتدفقة، بالأمل الصارخ، بالرعونة المدهشة في الكتابة. ولعل الكتابة أو تغير الشرط قد يعيد المد، المد الإنساني. كثيراً ما كنت أفكر هل كنت لأكتب مثل هذا الكلام لو كان مآل الانتفاضة السورية مختلفاً؟ لست متأكداً، لأن أغلب السيناريوات توحي بعبثية مضحكة (مصر، ليبيا، اليمن التي لم يتغير فيها شيء وهذا أكثر السيناريوات عبثيةً). في كل الأحوال عندما كنت أسمع عبارة “إلهي لا توقعنا في التجربة”، لم أكن أفهمها غير استجداءٍ سطحي لإبعاد الأذى. يبدو أن من كتب هذه العبارة كان حكيماً، وأن فهمها يحتاج للوقوع في التجربة.

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى