رشا عمرانصفحات الثقافة

قلب أخضر لامرأة كالشجرة/ رشا عمران

 

 

عرفتُ من صوتها على الهاتف أنني أتكلم مع امرأةٍ بقلبٍ دائم الخضرة، صوت أجشّ وعريض، من الأصوات التي لا تنساها طوال حياتك، ويمكنك من خلالها أن تميّز شكل صاحبها قبل أن تراه، تخيلتها فارهة الطول وضخمة الجثة، بوجهٍ حنون. تخيلتها، وأنا أسمع لهجتها الطرابلسية اللبنانية، بحجم شجرةٍ وبطيبها وحنيّتها. تواعدنا أن نلتقي في زيارتي التالية إلى باريس. في باريس، عادة ما يلتقي الذين يتعارفون جديدا، في مقهى أو مطعم ما، يتحدّثون مع فنجان قهوة مثلا، غير أنها طلبت أن آتي إلى منزلها، قالت إنها متوعكة قليلا، ولا تخرج كثيرا هذه الأيام. لم أكن أعرف عنها سوى أنها مترجمة، وأنها كانت تريد ترجمة نصوصٍ عن الثورة السورية لمجلة فرنسية، وأن صديقا مشتركا رشّحني لها.

كان ذلك في منتصف العام 2012. أرسلت لها نصوصا، ترجمتها بمحبةٍ كانت تعبّر عنها دائما برسائلها في “فيسبوك” أو البريد الإلكتروني. لها طريقة في التعبير عن المحبة، لا يمكن لأحدٍ، مهما كانت عواطفه مقننة، إلا ويصاب بالعدوى منها. علمتني حقا كيف أعبّر عن حبي الأشياء والبشر. لم آقل لها هذا يوما للأسف، ذهبت إليها في الموعد المحدّد، قالت: اصعدي إلى الطابق الرابع، سيكون باب البيت مفتوحا، وادخلي مباشرة. قلت لنفسي: ما زالت هذه المرأة التي تعيش في باريس منذ زمن طويل على عادة أهل الريف، حيث أبواب بيوتنا مفتوحة دائما.. دخلت في الممر وناديتها. أجابني صوتها العريض نفسه: أنا في الغرفة على اليمين. تعالي. كانت كما تخيلتها تماما طويلةً وضخمةً كشجرة، بوجه طفولي المحبة والحنان، تجلس خلف طاولة مكتب، أمامها شاشة كومبيوتر وكتب كثيرة.

كان أنبوب طويل يمتد من أنفها على امتداد الغرفة إلى غرفةٍ أخرى، لم أفهم. قالت: لدي نقص أوكسجين في الدم، أعيش على جهاز التنفس.. كانت هذه الجملة الوحيدة عن مرضها. تحدثنا كثيرا عن الشعر والحياة، عن الثورة. أذهلني حماسها للثورات العربية، ووضوح رؤيتها، وتلك الحرية بكل تجلياتها في كل حديثها، كما الثقافة أيضا بعمقها الحقيقي. تحدثنا عن البشر والعلاقات الإنسانية. عرفت يومها أنها بروفيسور في إحدى أهم جامعات باريس، وأنها تقيم سنويا أسبوعا ثقافيا عربيا في الجامعة، تحاول فيه تعريف الفرنسيين والأجانب بحقيقة الثقافة العربية، بعيدا عن النظرة النمطية الاستشراقية. حكت لي عن محاولات مؤيدي الصهيونية في الجامعة منعها من إقامة هذا الأسبوع السنوي. وحكت عن الفرنسيين مؤيدي النظام السوري، وعن محاولاتهم تقديم رؤيةٍ مغايرة للحقيقة للطلاب الفرنسيين، عما يحدث في سورية. حكت لي عن مصر التي عاشت فيها سنوات طويلة، عن مقهي ريش، عن الأصدقاء المشتركين. كانت طلبت مني أن أحضر لها من القاهرة بعض الليمون المصري الصغير، عرفت السبب يومها. .. في كل سفراتي إلى باريس كان هناك يوم أقضيه معها، وحين أعود كانت تعرف من كتابتي لون مزاجي، فتكتب إلي ما يعيد إلي التوازن. هي الوحيدة التي كانت قادرةً على شحني بطاقةٍ إيجابية، تساعدني على الوقوف كلما انكسرت. كانت تشعر بانكساري، كما لو أنها تعيش معي.

اختفت هدى عن “فيسبوك” مدة طويلة. عرفت بعدها أنها دخلت في غيبوبة. أخبرتني لاحقا كم شعرت بامتنان للحياة يوم خرجت من غرفتها، بعد أن فاقت من الغيبوبة، ولمست الحصى في حديقة المستشفى. قالت: “تخيلت أنني لحظة سأكون تحت الحصى والتراب. أريد ان أتنفس بقوة، لكي أعيش أطول مدة ممكنة، الحياة قيمة بحد ذاتها”. يوم دخلت إلى المستشفى، لإجراء عملية قلب مفتوح، اتصلت بي لتقول شيئا واحدا: أنت قوية، يا رشا، ولن تبقي هناك. ستعودين، لأنك تحبين الحياة.

حين كنت أستعيد ذاكرتي بعد يوم من التخدير، كنت أسمع صوتها يقول لي إنني قوية. عدت، وحين سافرت إلى باريس كانت تنتظرني بلهفة مدهشة، قضيت معها يوما. قالت لي أشياء كثيرة. اكتشفت لاحقا أنها كانت تودّعني.. هدى أيوب، شجرة الحب والحنيّة والصدق الإنساني الحار، ضاق عنها أوكسجين الحياة، فقالت وداعا للحياة. هذا ليس رثاء متأخرا لك، يا هدى، بل هو قليل من الحب، أعرف أنك ستقرأينه، حيث أنتِ الآن.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى