صفحات سوريةعلي العبدالله

كيري على خطى كيسنجر/ علي العبدالله

 

 

كثيرا ما يُنتقد وزير الخارجية الأميركية جون كيري على أدائه التفاوضي مع الروس حول الملف السوري، فقد وصف بالمتهاون واتهم بتقديم تنازلات مجانية لوزير الخارجية الروسي الفظ سيرغي لافروف دون اعتبار لمصالح حلفاء أميركا من العرب والترك والأوروبيين.

فهل هذه التقويمات صحيحة أم مجافية للواقع؟.

واقع الحال إن كيري، الذي غالبا ما يكون مبتسما، وضاحكا في بعض الأحيان، في مؤتمراته الصحفية مع لافروف، ضحية قراءة متسرعة وسطحية في آن، فالقراءة المدققة، مع التركيز على إستراتيجيته التفاوضية، في طبيعة التفاهمات والاتفاقات التي عقدها مع الأخير يمكن أن تقود إلى نتائج مغايرة، وعلى الضد مما ذهبت إليه بعض التقويمات التي اعتبرتها تنازلات مجانية، مفادها استخلاص تنازلات روسية صغيرة باعتماد تكتيك كيسنجري، عُرف بسياسة الخطوة خطوة، على طريق تحقيق المطلب النهائي: حل يخدم المصالح الأميركية في سوريا والعالم. تكتيك قائم على تجزئة الملف إلى خطوات صغيرة متباعدة وغير مترابطة ظاهريا ما يثير ضبابا على الهدف النهائي بحيث يمتنع إدراكه على الطرف الثاني قبل بلوغ محطته الأخيرة.

يمكن تتبع الخطوات الصغيرة التي اتفق عليها مع مفاوضه الروسي من بياني فيينا إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 وصولا إلى اتفاق ميونيخ والإعلان عن وقف الأعمال العدائية، التي انطوت على قبول روسيا لبعض ما كانت ترفضه، وتلمس الخيط الدقيق الذي يشير إلى ارتباط هذه الخطوات بالهدف النهائي الذي بدأت ملامحه بالظهور، وخاصة بعد محادثات كيري الأخيرة في موسكو، بوضع الانتقال السياسي، بما في ذلك مصير رأس النظام، على طاولة البحث عبر الاتفاق على جدول زمني لعملية الانتقال السياسي تبدأ بتشكيل حكومة جديدة في نهاية شهر حزيران المقبل ووضع دستور جديد بحلول شهر آب وإجراء انتخابات بعد 18 شهرا من وضع الدستور، تقدم كبير لم يؤكده لافروف الذي بدا في المؤتمر الصحفي المشترك متحفظا، لا يغير في طبيعة الاتفاق إعلان موسكو موافقة كيري على تأجيل بحث مصير رئيس النظام السوري في ضوء إعلان الأخير “إن الروس ليسوا متمسكين بالأسد٬ ونعمل على تفاصيل ماهية دوره خلال الفترة الانتقالية ومصيره٬ وموقفنا ثابت لم يتغير٬ وهو أنه لا يوجد للأسد دور في مستقبل سوريا وأنه فقد شرعيته”(قال تعليق روسي في إذاعة سبوتنيك:”إن موسكو قد دعمت الأسد كثيرا ولا يمكن أن تتخلى عنه بسهولة”)، فالحديث عن انتقال سياسي وتأجيل بحث مصير رأس النظام يؤشر إلى الدخول، على الضد من موقف موسكو، في عمق قضايا الملف (الانتقال السياسي ومصير رأس النظام كانا موضوع نقاش بين مدير وكالة المخابرات الأميركية جون برينان والمسؤولين الروس في زيارته إلى موسكو منذ أيام وفق إعلان دين بويد٬ مدير مكتب وكالة الاستخبارات المركزية للشؤون العامة٬ في بيان صباح أمس الاثنين:برينان أكد خلال محادثاته مع المسؤولين الروس دعم الحكومة الأميركية المستمر لتحقيق انتقال سياسي حقيقي في سوريا٬ وضرورة رحيل الأسد من الحكم من أجل تسهيل انتقال سياسي يعبر عن إرادة الشعب السوري). موقف استفز النظام فرد عليه على مستويين: إعلان رئيسه عن عدم جدوى المفاوضات وحتمية الحسم العسكري، ووضعه إيران قبل روسيا في حديثه عن أصدقائه لدى استقباله لكمال خرازي، رئيس المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية في مكتب مرشد الثورة.

نجح كيري في إقناع بوتين باستثمار المدة المتبقية من رئاسة اوباما وعدم تعطيل العملية السياسية في سوريا والمغامرة بإفشالها، لتحاشي تغيرات متوقعه في ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، فالرئيس الأميركي القادم، وبغض النظر عن الحزب الذي ينتمي إليه، لن يُبقي على التعاطي الحالي مع الملف السوري، وبقية الملفات، وترك للافروف الحديث عما ستقوم به روسيا لإنجاح العملية السياسية قال:”سيتعين على روسيا أن تتحدث بنفسها في ما يتعلق بما ستختار فعله من أجل مساعدة الأسد على اتخاذ القرارات الصحيحة، لكننا اتفقنا اليوم على تسريع الجهود لمحاولة دفع العملية السياسية قدما”. وأضاف:”أعتقد أن روسيا مشاركة بشكل كامل في هذا الجهد وكلنا سنحاول دفع الأسد لاتخاذ القرار الصحيح خلال الأيام المقبلة للانخراط في عملية سياسية تسفر عن انتقال حقيقي”.

عبرت تصريحات المسؤولين الروس عن اضطراب وضياع واضحين فمن جهة تعلن أن الاتفاقات التي تم التوصل إليها مع واشنطن “ما زالت في طور النقاش والإنضاج”، وهو ما عكسته تصريحات نائب وزير الخارجية سيرغي ريباكوف الذي شدد بعد ساعات من مغادرة  كيري موسكو على “أن واشنطن بدأت تفهم الموقف الروسي حول عدم مناقشة مصير الأسد”، وتنتقد، من جهة ثانية، المواقف الأميركية، حيث أكد ريباكوف نفسه بعد يومين “أن المسؤولين الروس شعروا بأنه لا يروق للولايات المتحدة كثيراً، ولا سيما للعسكريين الأميركيين، أن يتمكن العسكريون الروس من أداء مهماتهم وفق ما كلفهم به قائدهم الأعلى، والمتمثلة في محاربة التنظيمات الإرهابية بسورية”، ودعوته واشنطن إلى تعزيز التنسيق وتكثيف المشاورات الروسية – الأميركية المتعلقة بالرقابة على الهدنة ومواجهة الخروقات، ومناشدته الجانب الأميركي “البحث عن الحلول الدبلوماسية في تسوية الخلافات، عوضاً عن توجيه اتهامات قد تؤدي إلى تردي الوضع”، وتحركها(روسيا)، من جهة ثالثة، لتعزيز مواقع النظام الميدانية والتفاوضية عبر دعمها لعمليته العسكرية ضد “داعش” في تدمر وإعلانها أنها صاحبة الفضل في الانتصار الذي تحقق، ونقل وسائل إعلامها إقرار رئيس النظام بذلك.

لا يمكن اعتبار الاتفاق الأميركي الروسي الأخير اختراقا كبيرا ما لم نضعه في موقعه من إستراتيجية كيري التفاوضية ونربطه بالخطوات السابقة واللاحقة، وكذلك بعدم خوضه معمقا في قضايا خلاف أخرى، تحركات الأطلسي وأوكرانيا والعقوبات الاقتصادية، وتركها معلقة إلى اللحظة المناسبة وتوظيفها في المساومة حول صفقة شاملة بين البلدين تستميت روسيا لعقدها بهدف الحصول على إقرار أميركي بروسيا قطبا دوليا وإشراكها في حل الملفات الإقليمية والدولية، مع إيحائه بان زياراته المتتالية إلى موسكو والتفاوض معها على الملف السوري خطوة على هذا الطريق، زيارات ترضي غرور القيصر، الذي يعتبر زيارات المسؤولين الأجانب، وخاصة الأميركيين، إقرارا باستعادة روسيا لدورها الدولي كقطب ثاني وانجازا مهما لسياسته، لدفع بوتين للتوهم بعودة الثنائية القطبية لإدارة الملفات الإقليمية والدولية وحلها، والانخراط في حل الملفات العالقة بين الطرفين.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى