صفحات الحوار

د. سمير العيطة:جنيف2 لن يكون سوى مهرجان خطابي، وسوريا التي نعرفها لم تعد موجودة

مالك الحافظ

    في بداية الحوار نتطرق الى الحدث الدبلوماسي الابرز على الساحة الدولية ولعبة الامم الجديدة متمثلةً في التحضيرات  لمؤتمر جنيف2 والحراك الدبلوماسي تحضيراً له حيث تحدث العضو القيادي في المنبر الديمقراطي قائلاً: أيّد المنبر الديموقراطي منذ البداية مبادرة الأمم المتحدة التي انتهت إلى التوافق الدولي الذي سمّي جنيف 1، وإلى توافق المعارضة في مؤتمر القاهرة في صيف 2012. وكان له مساهمة أساسيّة في هذا الأخير، خاصّة في وثائق اللجنة التحضيريّة التي وقّعت عليها جميع الأطراف. وقد بني تأييد المنبر لهذه المبادرة الأمميّة على أساس أنّ الحلّ العسكريّ في سوريا غير ممكن، لا لصالح السلطة ولا لصالح المعارضة، ولن يؤدّي سوى إلى دمار البلاد. وقد أوضح المنبر أنّه “يساند التفاوض مع النظام القائم في ما يسمّى جنيف 2. إذ يرى في صياغة “وثيقة جنيف 1″ فرصة للخروج من الوضع الحالي، حيث أنّ موضوعها هو تشكيل جسم حكم كامل الصلاحيات بتوافق الطرفين. أي أن المعارضة يمكن أن ترفض ما لا تريده، والتعبير مع التباسه يقوّض أسس وجود بشار الأسد كرئيس للجمهوريّة. كما يرى المنبر في التوافق الأمريكي-الروسي وانخراطهما في مسؤولية الحلّ الضمانة لإنجاح جنيف.بحسب قوله.

    ونوه عيطة الى وجود عقبات كبرى أمام جنيف 2. متمثلة يدايةً بتشكيل وفد مفاوض يمثّل السوريين قبل الدول التي تدّعي دعمهم، وتنتهي بما يُمكن أن يفعله “جسم الحكم الانتقالي” لوقف القتال وللمصالحة الوطنيّة ولإعادة الأمن عبر توحيد الجيش وكذلك لإعادة المهجرّين وتأمين حاجاتهم”.

    “وحتّى لو لم يكن هناك جنيف 2 يجب بذل كلّ الجهود للخروج من الحرب. سياسيّاً يجب نبذ التطرّف بوضوح وحزم مهما كانت جهته: داعش والنصرة كما شبيحة هلال الأسد، فهذا ما يتوحّد اليوم حوله أغلبيّة السوريين. كما أنّ على المعارضة أن تتوافق منذ اليوم على مرشّح لرئاسة الجمهوريّة في وجه الأسد أو أيّ مرشّح آخر للنظام، لكسب القاعدة الشعبيّة التي تدعمه تخوّفاً من المستقبل. كما أنّ عليها منذ اليوم دعم مشروع تشكيل “جيشٍ وطنيّ” منظّم من قبل الضبّاط من الطرفين الذين يرون في الأسد كما في التبعيّة للخارج كارثة للبلاد”.

    واوضح عيطة بأن موقف المنبر هو مع المشاركة في المؤتمر لو كان ذلك مفيداً ولكن بضرورة توحّد المعارضة على وفد واحد وتوافقت على صيغة التفاوض. وبحث تفاصيل المشاركة من خلال اجتماع بين كافة اطياف المعارضة وتابع قائلاً ذهبنا إلى جنيف في 20 كانون الأوّل في وفدٍ ضمّ عدد من القوى السياسية والمدنيّة والعسكريين المنشقين، والتقينا مع مبعوثي الأمم المتحدة وروسيا وأمريكا، وقلنا أنّه “يجب بذل كل الجهود لعقد المؤتمر في موعده المحدد في 22 كانون الثاني 2014 وخلق كل الظروف لنجاحه حتى لا يكون التفاوض بالسلاح على الأرض. وأنّ هناك ضغوط تمنع توحيد المعارضة وقوى الثورة الميدانية على مشروع واحد وعلى صيغة مشتركة لحل سياسي. مسؤولية الأمم المتحدة والدولتين الراعيتين بذل كل الجهود للوصول إلى هذا التوحيد وعلى التوافق على آلية مشتركة تحفظ وحدة سوريا وتمنع خطر التقسيم وتحارب التطرف والاستفراد. وأننّا نحن كمجموعة مستعدون أن نقوم بدورنا الوطني وأن نكون وسطاء بين أطياف المعارضة وقوى الثورة الميدانية من أجل هذا الهدف علماً أننا لا نسعى لأن نكون جزءاً من الوفد النهائي في جنيف2، ونتمنى انضمام الكثيرين إلى هذا المسعى”. وتابع، إن الانطباع الذي أخذناه أنّ العراقيل ما زالت ضخمة أمام انعقاد جنيف 2، خاصّة لجهة توحيد قوى المعارضة وتوافقها على خطّة للتفاوض. ولهذه العراقيل أسباب إقليمية ودوليّة، ولكنّها تتعلق أيضاً بالتصوّرات حول أسس الدولة في المرحلة الانتقالية وعلاقاتها مع الخارج وبالجيش الموحّد الذي سيحافظ على الأمن. بحسب وصفه

    ويضيف عيطة لموقع هيئة التنسيق موضحاً “بأن التطوّرات التي حدثت منذ حينها تدلّ أنّ التوجّه الدوليّ قد اعتمد صيغة أخذ جزء من المعارضة وحده إلى جنيف، أي الائتلاف، أو بالأحرى جزء معيّن منه، حتّى لو أدى ذلك لانقسام هذا الائتلاف، والقيام بمظاهرة إعلاميّة لن يكون لها آثار حقيقيّة في إيجاد حلّ سياسيّ. وربّما تمّ افتعال أزمة الائتلاف قبيل جنيف فقط لهذا الغرض.”

    وحول المشاركة الايرانية والسعودية في جنيف2 يقول العيطة: بالنسبة لي، جنيف هو في المبدأ تفاوض بين سوريين تحت رعاية الأمم المتحدة ووساطة الولايات المتحدة وروسيا. ودعوة الدول المختلفة للجلسة الافتتاحيّة يجبرها على قبول أسس جنيف 1 وبالتالي نتائج هذا التفاوض، ونصّ الدعوة الموجّهة من قبل الأمين العام للأمم المتحدة واضحة في هذا الخصوص. وعدم حضور جنيف 2 من قبل السعودية وإيران يعني ضمنيّاً عدم التزامهما بهذه النتيجة. بحسب تعبيره

    وتابع أن الأهمّ من هذا هو أنّ الحرب الدائرة في سوريا هي في جوهرها حرب بين دول الخليج وإيران على الأرض السوريّة. من مسؤوليّة الأمم المتحدة والولايات المتحدة وروسيا الضغط على الطرفين لإيقاف هذه الحرب، من خلال جنيف 2 أو بالأحرى بمعزل عنه. فإذا لم تتوقّف هذه الحرب، لا جدوى من تفاوض السوريين.

    وكان للمعارض السوري البارز نظرة تقييمية حول التيارات الاسلاموية والجهادية المتطرفة الدخيلة على الوضع السوري حيث تحدث بأن سوريا أضحت بلد مقطّع الأوصال، فلكلّ جزء منه زعماؤه وإداراته ونظامه القضائيّ وسبل تمويله وأثرياء حربه وتجارته الداخليّة والخارجيّة… وجيوشه المتعدّدة. وسورية التي نعرفها لم تعد موجودة، باتت هناك سوريا الساحل وحمص ودمشق التي يتقاسمها النظام وميليشياته، وسوريا الشماليّة التي يتنازعها الائتلاف مع مختلف الكتائب المسلّحة، وسوريا داعش، وسوريا مجلس غرب كردستان، وسوريا حوران الجنوبيّة، وسوريا الغوطة، إلخ…بحسب رأيه

    موجهاً الاتهام الى رئيس النظام الحالي (بشار الأسد) في دفعه سوريا إلى الوصول إلى هنا، كي يبقى وعائلته في الحكم، وكي يدفع ثورة الحرية والكرامة التي قام بها الشباب نحو الطائفيّة والعنف والتلاعبات الإقليميّة. رهانه منذ الأساس كان تحويلها إلى معادلة: إمّا أنا أو التطرف. لكنّه يعود ليتابع بأن بشار الاسد ليس وحده المسؤول وانما هناك ايضاً دول إقليميّة وكبرى عملت منذ البداية كي تتبع سوريا المسار الليبي ومشت في ذات رهان الأسد. هي التي منعت توحيد المعارضة، وهي التي فضّلت خوض معركة مع خصومها في سوريا وعبر السوريين.

    ويستطرد عيطة في حديثه “ما يُلفت انتباهي في المرحلة الحالية هو المعركة الكبيرة التي فتحت فجأة مع داعش من قبل مجموعات واسعة من الكتائب، بعد أن تركت تترعرع فترة طويلة. لماذا الآن؟ ولماذا تمّ حسب داعش وحدها على أنّها متطرّفة وعميلة للنظام سويّة في حين تتزامن هذه المعركة مع معركة أخرى فتحتها عليها الحكومة العراقية، المحسوبة مناصرة للنظام السوري؟

    يجب نبذ التطرّف بوضوح وحزم مهما كانت جهته: داعش والنصرة كما شبيحة هلال الأسد، فهذا ما يتوحّد اليوم حوله أغلبيّة السوريين. كما أنّه يجب منذ اليوم دعم مشروع تشكيل “جيشٍ وطنيّ” منظّم من قبل الضبّاط من الطرفين الذين يرون في الأسد كما في التبعيّة للخارج كارثة للبلاد.”

    وحول امكانية تطبيق فعلي لوقف اطلاق النار في سوريا ومايمكن ان تنتج عنه المفاوضات لذلك، اجاب العيطة بقوله أن الوضع في سوريا أضحى شديد التعقيد، ولا أتصوّر أنّه يمكن الوصول إلى وقف إطلاق نار شامل في سوريا. لهذا اقترحت منذ أشهر أن يكون هناك حلول في مناطق معيّنة وحتّى لمدّة محدّدة، لخلق نماذج تطلق آليّات إيجابيّة توقف الآليّات الكارثيّة الحاليّة. ومن الأفضل أن تأتي هذه الحلول من خلال المفاوضات العامّة، في حين يتمّ التفاوض العامّ حول المرحلة الانتقالية. بدل أن تأتي بعض هذه الحلول من خلال فرض السلطة لنموذج تريده في بعض المناطق بعض حصارها وتجويعها. بحسب رأيه

    وتابع قائلاً على كلّ حال أنا لا أتوقّع من جنيف 2 في الظروف الحالية سوى مهرجان خطابي، وبرأيي يجب على جميع من يحرص على سوريا وعلى مبادئ ثورتها وعلى حريتها وسيادتها واستقلالها العمل منذ الآن على ما بعد جنيف 2… وما بعد الائتلاف.

    وفي مسألة توحد المعارضة والعوائق التي اقيمت للحيلولة دون توحدها كان لضيفنا رأيه ورؤيته في ذلك حيث قال بمعزل عن قضيّة تدخّلات القوى الخارجيّة وتلاعبات السلطة القائمة التي تفضي إلى تشرذم المعارضة، هناك مشكلة أساسية في البنى التنظيميّة للمعارضة السوريّة. بعضها تجمّع لأحزاب، وأخرى بنى سياسية مدنيّة لأفراد، في حين هناك كثير الأحزاب سياسية والتيارات الجديدة. الاختلاف الشدي في هذه البنى لا يسهّل التوحّد، ولا حتّى التنسيق والتشاور. على حد قوله

    وبأنه التزم التحاور والتشاور مع جميع الأطراف المعارضة منذ البداية، متابعاً ولهذا انخرطت في المنبر الديموقراطي الذي كان هدفه منذ التأسيس العمل على توحيد جهود المعارضة وتقويتها. وعملت دوماً على إعلام الأطراف الرئيسة بالجهود التي أقوم بها. إلاّ أنّ هذا التحاور والتشاور لم يفضِ حقّاً إلى تنسيق مع جميع القوى، ومن بينها (هيئة التنسيق الوطنيّة لقوى التغيير الديمقراطي) كمؤسسة مع أنّي أتشاور مع الكثيرين ضمنها. القوى والشخصيّات التي أنسّق معها نبني تدريجيّاً الثقة بيننا: نتشاور في التوجّهات والمواقف، ونأخذ سويّة موقفاً مشتركاً. ونلتزم جميعنا به. وهذا يُضفي قوّة. وبرأيي لا يُمكن أن يستقيم التنسيق بدون بناء الثقة هذا والأثار الإيجابيّة للالتزام المتبادل.

    مثال ذلك أنّني بقيت دوماً ملتزماً بوثائق القاهرة، في حين تخلّى عنها الائتلاف مع أنّها في نصّ الدعوة لتشكيله، كما أنّ هيئة التنسيق لم تلتزم بها. وهذا جزء من الخلاف معهما. هذا بالرغم من أنّي نفسي أقول أنّه يجب تعديل هذه الوثائق، خاصّة صيغتها التي خرجت من المؤتمر، التي هي أضعف ممّا وقع عليه ممثلو المعارضة في اللجنة التحضيريّة. لكنّ هذا التعديل يجب أن يجري بالتوافق والتنسيق.

    لكنّي أبقى دوماً منفتحاً للتواصل والتنسيق، بل للتوافق حول برنامج عمل مشترك مع جميع قوى المعارضة يتمّ الاتفاق عليه حول جميع القضايا الهامّة، مثل ما بعد جنيف 2 أو إغاثة المنكوبين. وهذه أمور ملحّة اليوم. على حد قوله.

    وحدثنا السيد عيطة عن سبل انقاذ ماتبقى من الوطن السوري وفسيفسائه الاجتماعية وتأثير الساسة في ضوء ما حدث في بلدان الحراك العربي قائلاً الثورة السوريّة، كما ثورات الربيع العربي الأخرى، لحظة في تاريخ هذه الشعوب، نتجت عمّا أسمّيه “تسونامي شبابي” ديموغرافي واجتماعي وثقافي. نتج عنه قطيعة مع الفكر السائد سابقاً، ومع الأنظمة الاجتماعيّة القائمة، وعقد اجتماعيّ جديد. انطلق الشباب وتغلّبوا على الخوف من أجل حريّة وكرامة ينشدونها، لكن مع شعار إشكاليّ بطابعه أنّهم “يريدون إسقاط النظام دون الخوض بالسياسة”. وقد قدّموا من أجل ذلك تضحيات كبيرة واستثنائيّة في تاريخ شعوبهم. الأحزاب السياسيّة ورجالاتها ونساؤها لم يستفيقوا إلاّ متأخرين على هذا التسونامي، على حد قوله مضيفاً بأن بعض السياسيين الذين ظهروا اليوم كانوا يمتدحون السياسات التي سبقت الانفجار على أنّها “انفتاحيّة”، دون أن يعوا أنّها مسؤولة عن تضخيم حجم التسونامي وقوّته، أكان هؤلاء السياسيوّن في السلطة أو في المعارضة. ظنّ من في السلطة أنّه يمكن وأد الثورة عبر إعادة الخوف، وظنّ بعض من في المعارضة أنّه يُمكن معالجة الأمور بطرق تقليديّة والبعض الآخر أنّه يمكن جرّ سوريا إلى الحالة الليبيّة. وحدثت القطيعة بين الشباب والسياسيين: “سيسقط النظام مع حلول العيد”، ستسقطه المظاهرات فقط أو ستسقطه الضغوط والتدخّلات الأجنبيّة. هذا النوع من الخطاب له جزء من المسؤوليّة في حرف الثورة عن أهدافها، والتحوّل إلى حرب أهليّة، وتدمير ركائز الدولة الواحدة تلو الأخرى.

    وتابع قائلاً ثورات الربيع العربيّ لن تأتي بطوباويّاتها إلى بعد زمن. ليس فقط لأنّ هناك تفاعلات مع الخارج الإقليمي، بل أيضاً لأنّ الوصول إلى توازنات ما بعد الاستبداد تتطّلب مساءلة الوعي الجمعي. فالثورة هي ثورة بالمعنى النبيل للكلمة بقدر ما تستطيع وضع الأسس لطوباويّة المستقبل، كما كان إعلان حقوق الإنسان والمواطنة هو ما جعل الثورة الفرنسيّة بمرتبة ثورة عالميّة تاريخيّة. إلاّ أنّ هناك بعض الإشكاليّات الأساسيّة للوصول إلى العقد الاجتماعي الجديد في البلدان العربيّة ولانتصار الحريّة والكرامة. ويجب أن تظهر طروحات العقد الاجتماعي الجديد التي تعالج هذه الإشكاليّات جليّاً من خلال الخطاب والممارسات السياسيّة. في حين أنّ هذه الإشكاليّات ليست سهلة ويتطلّب حلّها والتوافق عليها جهوداً وستكّلف ضحايا بحجم هذه اللحظة التاريخيّة. مثال ذلك الوعي الجمعي حول الأفضليّة بين المساواة في المواطنة والديموقراطية بمعنى الانتخابات وصناديق الاقتراع. أيّهما له الأولويّة؟ إذ أنّ هناك تناقض جوهريّ بين فكرة المواطنة وطروحات بعض تيّارات الإسلام السياسي اليوم، يكمن في الالتباس حول تفسير معنى تعبير “الدولة المدنيّة”. هل تفرض الأغلبيّة شكل الدولة وقواعدها على الأقليّة، أم أنّ شكل الدولة أمر توافقيّ مبني على المساواة التامّة في المواطنة. كما أنّ هناك مشكلة ضمنيّة أساسيّة في موضوع المساواة بين المرأة والرجل، أهي كاملة أم خاضعة للأعراف والتقاليد. وكذلك هناك إشكاليّة بين مفهومي الوطن والمواطنة: هل الإنسان هو غايّة الوطن الأوّلى أم يُمكن قمعه وسجنه وقتله بحجّة الدفاع عن الوطن؟ وهل النظام هو الدولة، ويجب إسقاط الاثنان للخلاص من الاستبداد لأنّ في الدولة بعض موروثاته؟ وهل هناك معنى للديموقراطيّة بدون دولة مؤسسات؟ وما هو التوازن بين المركزيّة واللامركزيّة لشعب مثل الشعب السوري للحفاظ على حقوق جميع المكوّنات، في حين يجب أن يكون هناك إدارة مركزيّة للموارد الشحيحة مثل المياه؟

    ليس سهلاً حلّ هذه الإشكاليّات، لأنّها تسائل صلب الوعي الجماعي وأين وصل في هذه المحطّة التاريخيّة. ولأنّها تنطرح في حين فرضت السلطة كما القوى الخارجيّة على الثورة السوريّة العنف والطائفيّة والحرب الأهليّة. برأيي سوريا هي مفترق طرق “الربيع العربي”، فإن انتصرت المواطنة والحريّة والكرامة والمساواة فستنتصر في جميع البلدان العربيّة الأخرى، وإن هزمت ضاعت سوريا وضاعت أيضاً الثورات العربية الأخرى. وربّما هذا ما تعيه منذ البداية بعض القوى الإقليمية والخارجيّة، ولذا تدخّلت مع هذا أو ذاك كي تأخذ سوريا، كما البلدان العربيّة الأخرى بعيداً عمّا أسميته طوباويّاتنا المؤسّسة للمستقبل. ولهذا لا بدّ أن يراجع كلّ منّا مساره، وماذا يُمكن أن يفعله لإنقاذ بلدنا من حرب أهليّة يُمكن أن تستمرّ سنين طويلة.

    وفي محطة حوارنا الاخيرة كان لضيف موقعنا نظرته على واقع الاقتصاد السوري والخسائر التي تعرضت لها البلاد والحلول المرحلية لذلك ورؤيته حيث قال:  خسارات الاقتصاد السوري كبيرة جداً، ولا يمكن قياسها برقم إذ أنّ هناك خسارات في التراث البشريّ الغابر والحالي لا تقدّر بثمن، وأكثر من ذلك تفكّك الاقتصاد السوري بعد خراب الكثير من البنى التحتيّة ووسائل الإنتاج والآليّات التي كان الاقتصاد يعمل بها في السابق، وخاصّة بعد نزوح أكثر من ثلث سكّان البلد عن مراكز سكنهم وتموضعهم في مناطق أخرى في الداخل والخارج. هكذا لم يعد جائزاً من الناحية العمليّة النظر للاقتصاد السوري على أنّه اقتصاد موحّد، لأنّه بحكم الواقع لم تعد سوريّة وحدة اقتصاديّة: هناك مناطق لكلّ منها إداراتها وأمراء حربها وآليّاتها المالية والتجاريّة مع الخارج ومع بقيّة المناطق السوريّة. هناك اليوم إذاً اقتصادات حرب لمناطق سوريّة متفكّكة، تعيش على ضخّ أموال من الخارج أكثر من الإنتاج محليّاً. وهذا ينطبق على المناطق التي تسيطر عليها السلطة. ويوم ستتوقّف الحرب ستتطلّب إعادة توحيد الاقتصاد السوري واستعادة آليّات الإنتاج والتبادل جهوداً ضخمة ووقتاً طويلاً، ربّما عدّة سنين. حسب رأيه

    وأردف قائلاً هناك بعض الجهود التي تتحدّث عن متطلّبات إعادة النهوض بالاقتصاد، مثل ما صدر عمّا يسمّى “بيت الخبرة السوري” أو عن “مجموعة عمل اقتصاد سوريا” أو عن “المركز السوري لبحوث السياسات” أو عن الإسكوا التابعة للأمم المتحدة أو عن مؤسسات الحكومة السوريّة الحالية، ولكنّ أغلبها برأيي خطابات طوباويّة (وفي كثير من النواحي إيديولوجيّة)، لا تنطلق من الواقع بل من فرضيّة لم تعد موجودة، أنّ سوريّة وحدة اقتصاديّة متكاملة، بل أكثر من ذلك إنّ بعضها يذهب لكي يغطّي على الواقع الكارثيّ ويغّيبه. برأيي إنّ أيّ جهد للبحث في إعادة النهوض بسوريّة يجب أن ينطلق من الواقع كما هو، بمعزل عن أسبابه. وبالضبط من البحث عن أجوبة على الأسئلة الجوهريّة التالية: كيف يمكن إعادة 9 ملايين نازح من أصل 25 نسمة إلى ديارهم؟ وهل يجب تحفيز الجزء الذي كان يسكن في مناطق عمران عشوائيّ لكي يعودوا إلى ذات العشوائيّات دون خدمات وبنى تحتيّة التي كانوا يسكنون فيها سابقاً؟ وكيف يُمكن حلّ مشاكل ملكيّة الأراضي والمساكن التي كانت جزءاً من أسباب الأزمة ثمّ تفاقمت مع الحرب باستيلاء البعض على ممتلكات البعض الآخر بالقوّة أو بفضل “محاكم” الأمر الواقع؟ وما هي خطّة عمليّة إعادة الإعمار وكيف يتمّ تمويلها، بأيّة أموال، وبأيّة آليّات وبأيّة طريقة لإدارتها كي تخدم الناس ولا تتفاقم الصراعات الاجتماعيّة؟ وكيف يعاد تفعيل العمليّة الإنتاجيّة في الزراعة والصناعة والخدمات خاصّة لكي يساهم الرأسمال البشري من الشباب الذين يشكّلون فرصة سوريا التاريخيّة في النهوض، في حين أنّ قلّة فرص العمل النظاميّة وغياب الكرامة كانا من مسبّبات الثورة؟

    هذا ما قصدناه عندما تمّ توصيف إعادة الإعمار أنّها “مشروع وطنيّ بامتياز، يجب التفاوض والتوافق عليه، بحيث يتمّ حشد الموارد الوطنيّة والمساعدات الخارجيّة، لخدمة جميع المواطنين، ولإزالة الدمار وإعادة تحريك الاقتصاد الوطنيّ، دون أيّ تفريط بأصول وطننا وموارده معتمدين على رأس المال الوطني ورجالاته”. بمعنى أنّه يجب تجنّب أخطاء بلاد أخرى عاشت حروب أهليّة وفاقمت طريقة إعادة الإعمار فيها من المشاكل البنيويّة على المدى البعيد، بحيث خلقت مناخاً مستداماً لانعدام الاستقرار.

خاص موقع هيئة التنسيق الوطنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى