صفحات الحوار

نورح الجرّاح: كل قصيدة لا جدّة فيها تعادي الثورة


الثورة السورية جعلت أبناءنا رفاقاً لنا وقادتنا إلى المستقبل

سالم العبدول

غادر الشاعر السوري نوري الجراح بلده سوريا في ثمانينيات القرن الماضي، كمن يهرب من زنزانة، على ما يقول هنا، ويبدو أن توهان ثلاثين عاماً في مدن الأحلام، وفي دواوين شعرية عديدة ترجم بعضها إلى عدد من اللغات الأجنبية، وفي قصص للأطفال، وفي تأسيس مشاريع ودوريات ثقافية، لم يفلح في دفعه للتصالح معها، الأمر الذي سرعان ما فعلته الثورة السورية لحظة اندلاعها. سرعان ما انخرط الشاعر في ثورة بلده، متابعة يومية، وكتابة، وقصائد ظل يلحّ عليها بأن “تحفظ كرامة الشهداء”، إلى مشاريع أخرى أبرزها تأسيسه، إلى جانب نخبة من المثفقين والمفكرين، رابطة الكتاب السوريين.

÷ أنت غائب منذ سنوات طويلة عن سوريا، هل يتعلق الأمر بنفي قسري أم اختياري؟

} تركت دمشق كما يترك السجين زنزانته والهارب من الانتحار والجنون مشفاه العقلي. ولطالما عبرت عن هذا الشعور الفادح في كتاباتي ويومياتي.

يوم سفري قلت لصديق لي: سأسافر، فأجاب أنت؟ مستحيل! إنك تردد هذه الكلمة منذ سبع سنوات، ولم تفعل. حبك لهذه المدينة وولعك بها سيظلان ممسكين بك هنا حتى الموت. قلت لم أعد أستطيع ان أتنفس، رئتاي عاجزتان عن التنفس في هذه المدينة المعتقلة ليل نهار، أحس أنني لو بقيت هنا يوما آخر سأختنق وأموت أو أجن وأنتحر. السفر أو المقبرة.

كنت في مطلع العشرينات وكنت قد فشلت حزبيا وفشلت عاطفيا وفشلت في حياتي العملية. كل شيء بدا لي مسدوداً كصندوق وممسكا بي كفخ. ولا أمل في شيء. لم يكن قد بقي لي إلا مخيلتي أعيش عليها وأشعر أن فصاما أليما بات ينظم حياتي في مدينة أموت بها وبأهلها حبا. وعلي الآن، أن أغادرها قبل ان يتحول هذا الحب العارم لكل ما يؤلف هذه المدينة النادرة إلى كره عميق.

في ذلك اليوم اشتريت حقيبة صغيرة جدا، حقيبة ظهر ودسست فيها قميصين وسروالا إضافيا وكتابين أو ثلاثة: “فقه اللغة وسر العربية” للثعالبي، “أوديب ملكا وأوديب في كولون” لسوفوكل وأندريه جيد، ترجمة طه حسين، و”مسامرات الأموات” للقيانوس السميساطي. من ترجمة الياس سعد غالي. قالت لي أمي وهي تناولني الجوارب أنت لن تعود ثانية. قلت سأغيب أياما وأعود.. رحلة هواء. كانت حدست عزمي ولعلها رأت في عيني مدن الحلم تتلالأ. هؤلاء الأهل الذين لم يغادروا بيوتهم الأولى كانوا يملكون بصيرة الأولياء والعرافين. كانت تعرف أنني خسرت معركة الحلم ببناء عالم طالما قلبت أمره ورفاقي الشيوعيين نريد أن نبني المدينة الفاضلة، مدينة كل الناس.

ها هي الثورة تهز كياني كما هزت كيان كل سوري. وما لم نكن في رواية او مسرحية، كمهاجر بريسبان لجورج شحادة، مثلاً، ما من غياب عن المكان الأول يمكن أن يطول عقودا كغيابي وتعقبه عودة من نوع ما، إلا وفيه شيء درامي بالضرورة.

من قبل، في السنوات التي انصرمت، كانت العودة إلى دمشق مرجأة بصورة لا نقاش فيها. كانت البدائل اللاواعية تتم في الحلم، لقد تكشف لي لاحقا أن تعلقي بدمشق، واقتلاعي نفسي منها بكل تلك القسوة، جعلها تسكن في الأعماق الغائرة من النفس ولطالما غادرت منفاي في أحلامي وكوابيسي وسلكت طريق العودة مرة إلى الجنة الدمشقية ومرات إلى الفخ. ولسوف تظهر رحلة العودة نفسها مرارا في الشعر، عبر تلك القصائد التي شكلت المسرح اليومي لأحلام اليقظة والمنام جهة المكان الأول مؤثثا بتلك اللغة التي تأخذ بألباب المسافر، حتى لتتحول بكل ما تزخر به من صور ومناظر ومعالم لأمكنة الطفولة وأزمنتها إلى حياة شعرية، حياة بديلة. وقد توجت تلك المغامرات بعمل شعري مكرس لتلك المغامرات هو ديواني “طريق دمشق” الصادر في 2004 أي بعد حوالي ربع قرن على مغادرة بيتي في دمشق. ولطالما فكرت أن: الشعراء الذين يغادرون السجون لا يعودون إليها طائعين.

÷ كيف تلقيت نبأ اندلاع الثورة في سوريا؟ هل كنت تنتظرها؟ كيف؟ كيف غيرت في يومياتك؟

}الهدية العظمى، الحدث الذي لا أريد غيره، الأمل الذي لم تنطفئ ناره ولم أنم أو أستيقظ إلا وكان يؤرقني. انتظرتها ثلاثين عاما، انتظرتها عقودا، وربما أكثر، والحق أنني عشت حياتي كلها لأرى هذا اليوم. وها إنني شخص جديد. بعمر جديد وفرح بالوجود. ها هو يوم الحساب قد جاء ونحن لا نزال على وجه الارض.. أيعقل؟! ها هي الحرية تريد أن تكون سيدة البيت السوري.

ومن قبل جاء يوم، بل أيام كدت لغيومها السوداء المقيمة أكره هويتي، أكره بيت طفولتي، أكره العلم الذي أنشدت له صبيا صغيراً في برد أيام الشتاء في مدرسة طارق ابن زياد بدمشق. مدينتي التي لم يطل مقامي فيها عندما اكتشفت أنها مدينة محتلة، وأن علي أن أهرب من هذا المعتقل الجماعي، الذي لا قدرة لي على فتح أبوابه، أو أن أموت كمدا. أعترف الآن بأنني شعرت مرات كثيرة أن هذا النهر الذي اسمه بردى هو نهر الجنون، شرب منه الجميع، وكأسه الآن في يدي المرتجفة.

وكنت أنشدته وأنا أغادر:

ما دمت لن تمضي معي

خذني معك

ما دمت مدفوعا على حمالة الموتى

ونعشك ضاحك منك

معك

صخرة هاوية

في قلعة هاوية.

÷ وانت تتابع هذه الصور القادمة من بلدك، هل استطعت التعرف إليه؟ هل هذه هي المدن التي تركتها؟

} أنا لا أعرف سوريا إلا من الكتب، لم أزر من مدنها في صباي سوى حمص. ما ان فتحت عيني على جغرافية سوريا حتى كانت الدبابات قد احتلت مفارق الطرق وعسكرت حتى البنات والاطفال بعدما عسكرت الشبان. وصار لزاما على كل فتى سوري أن يلبس الخاكي ويكتب لرئيس شعبة الحزب تقريرا مطولا عن أهله وذويه بوصفهم أعداء للوطن المهدد بالأعداء!

كان الوطن من أقصاه إلى أقصاه، محتلا بالدبابات والحواجز، وبالأسئلة. كل مواطن كان شخصا مشبوها إلى أن يثبت العكس، وأينما تحركت عليك أن تبرز هويتك لتثبت أنك لست عدواً للحزب والثورة والأمة الخالدة. ولما كانت لي أنفة من يتجول في غابة قديمة في حكاية رومانسية. فقد كسرت قدمي وجلست أحلم بزوارق تبتعد في أنهار بعيدة.

وها أنا بعد عقود من الترحال في العالم وعقود من الشعر الهارب في العالم، الشعر المعلق بين أرض ليست لك وسماء ليست لأحد، ها أنا أقرأ أسماء المدن والبلدات والقرى والشوارع السورية مكتوبة بدماء الأطفال. كل سوري اليوم مسيح معلق على خشبة في أرض لم نعد نرى فيها سوى الصلبان والدماء.

÷ كيف نفسر انخراطك الفوري في مواكبة الثورة؟ كأنك هيأت نفسك لذلك من قبل؟

} الانخراط في الثورة بالنسبة إلى الشاعر هو عمل أخلاقي قبل أن يكون ثوريا، وبعد الجرائم المروعة والدم المهراق، كرمى لعيون الشباب الابطال، حتى لو كانت الثورة ستخسر وتستشهد وينتهي كل واحد منا إلى مصير تراجيدي، يجب أن لا نتردد أبدا في اختيار الطريق والمضي يحيث حيث تمضي الخطى على طريق الحرية والكرامة.

لن يضيرني أن أخرج من مقهى أو مسجد أو حانة أو كنيسة لأنتمي إلى الثورة، ولا حتى من مرقص أو مطعم أو مرقد لولي، الثورة نداء لا يتلكأ في الاستجابة له إلا الجبناء والمتواطئون. العالم لم يعد فيه جهلة ولا أغبياء. هناك فقط الأرواح الطيبة مقابل الارواح الميتة. وليس لأحد، أيا يكن، على هذه الثورة المجيدة المعمدة بالدماء من اشتراط عليها كيف تكون. إما أنك مع الحرية أيها الشاعر أو أنت في خندق الطغيان ورصيده.

الثقافة والمثقفون

÷ هل كتبت؟ تحت أي تأثير؟ هل تؤمن بهذا النوع من الكتابة التي تستفزه الأحداث مباشرة؟

} دعني أعترف، بداية، بأنني سبق لي أن كتبت شعرا في بيروت خلال حصارها من قبل الاسرائيليين وقد عشت بكل كياني تلك التجربة العاصفة التي انتهت بخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان بطريقة مأساوية عبر البحر في ما يشبه أوديسا حديثة. كانت تجربة عظيمة بالمعاني الإنسانية والروحية. وقد نشرت هذا الشعر وكان شعرا قتاليا الغاية منه المساهمة في المعركة، إن على صفحات صحيفة “المعركة” التي جمعت نخبة من ألمع الشعراء العرب من فلسطينيين وسوريين ولبنانيين وعراقيين ومصريين وغيرهم. أو في جريدة الحزب الشيوعي اللبناني “النداء”، أو تلوتها بصوتي من “إذاعة صوت لبنان العربي”. وأعترف اليوم بأنني لم أنشر من هذا الشعر في كتبي سوى قصيدة واحدة صغيرة. ولم أرجع إلى هذا الشعر، خشيت أن يخجلني ذلك رغم ما في هذا الشعر من صدق وحماسة ولغة مقاتلة.

لكن قصائدي التي سأعتز بها وتحمل أثراً من التجارب الاليمة في بيروت سوف تكتب لاحقا في هجرتي القبرصية واللندنية. وستظهر في شعري في ما بعد ولسنوات ملامح وصور تتصل بالحرب والموت ونبرة تعكس الاسى الروحي العميق. ولطالما رأيت أن هكذا هو الشعر له قنواته السرية وله أزمنته.

لكن هذا التصور اختلف بعض الشيء، أو لنقل تطور ربما بفعل امتلاكي مهارات أكبر مما كنت أملك في بيروت قبل ربع قرن من الزمن، فقد تطور انفعالي بالثورة السورية، وكان شروعي في الكتابة بعد وقت قصير من اندلاع الثورة السورية قد وقع لي بسبب انفعالات قوية وهزات وحشية رجت كيان الناظر كل هذا الدم بينما هو يهرق كما لو كنا في ملحمة قديمة في عالم ما قبل المدنية، في همجية قديمة لشعب يواجه قدراً مأسويا لا منجاة منه. رحت أكتب وأتوقف وأكتب وأتوقف.. الشاعر يريد ان يكون شاهدا واللغة تعاند، والمكابدة على أشدها بين صور الدم وانهيار طاقة اللغة أمام وحشية المشاهد وكذا والشعور بعبثية الفكرة فكرة الكتابة، لكن الرغبة في الشهادة، بل مسؤولة الشاهد دفعت بفكرة معاركة اللغة إلى مناطق قصوى من الشعور والمحاولة غير الخالصة من منزع النقد ومراس التحدي لكل من الذات واللغة والجريمة والعالم الذي أتاح كل هذا ليرتطم على ارض القصيدة.

هكذا كتبت وعلى مدار ثلاثة عشر شهرا قصيدتي “الايام السبعة للوقت”، وقد نشرتها بعدما اختبرت على نحو ما علاقتي النقدية بها، وشعرت أن بإمكاني الاحتفاظ بهذه القصيدة وقتا أطول مما كنت أفعل بإزاء قصائدي التي كتبت خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت وعلى إثر مذابح المخيمات على أيدي المليشيات المسيحية المتطرفة والعميلة لإسرائيل. فقد ملكتني الطاقة التي في قصيدتي هذه شعورا بأنني لم أمتهن دم بشر أعطى دمه لهذه الثورة. أقول هذا لأنني أخاف من القصائد التي تمتدح الثورات وأعتبر القصيدة التي لا ابتكار فيها ولا جدة في جوهرها عملا معاديا للثورة التي هي عمل خلاق بالضرورة.

÷ هل يمكن تلمس أدب، إبداع، فن له خصوصيات ينشأ اليوم في ظل الثورة؟

} هناك أعمال أدبية وشعرية وفنية أنتجت وتنتج هنا وهناك في كل بلد عربي عصفت به الثورة، وبالتأكيد لهذه الآثار الأدبية والفنية قيمتها وخصوصياتها. ويمكن أن نسميها ثقافة في ظل الثورة، ولا يمكننا أن نفحص درجة ثوريتها، ودرجة ابتكاريتها. هذا متروك لقراءة باردة، أو لنقل هادئة، تأتي لاحقا.

على انني أطالب هنا أن نتوجه بأنظارنا جهة الشارع، حيث تولد أشكال مبتكرة من التعبير عن الذات في زمن الثورة، والتعبير عن الفعل الثوري الخلاق.. هناك كتابة وأشكال فرجة وأغنيات ولغة منشطة للغضب والحركة ضد الطغيان هذه كلها تشكل ثقافة يومية مبتكرة… أظن انها الأكثر فعالية مما نعتبره ثقافة شعراء وكتاب وفنانين ومغنين مكرسين. وأخص بكلامي ما تبدعه الجغرافيا السورية… ليس فقط لمجرد ان الثورة طالت، ولكن لأن الثورة السورية في جوهرها العميق ثقافية: ثورة الحرية والكرامة. وكلتا الكلمتين لا تقتصران على ما هو مادي وإنما تتجاوزه إلى ما هو فكري وميتافيزيقي ملحمي.

هناك من رأى في الثورة السورية عملاً استشهاديا لانتزاع الحق ببناء دولة المواطنة، وإعادة تعريف الهوية الوطنية الجامعة للسوريين بعد عقود من حياة المنفى الجماعي في جمهورية الرعب. وهذا عمل ليس اجتماعيا تاريخيا وحسب بل هو مسعى فكري وثقافي بامتياز. من هنا، وبعيدا عن الافتخار ببطولة لا غبار عليها هذه الثورة، لا بد من القول إن الثورة السورية هي بحق الأكثر جذرية بين الثورات العربية وهو ما خلق تلك الاستجابة الوحشية من جانب النظام ضدها، إنها ثورة شعبية ونخبوية شاملة تقاتل في الوطن وفي الإقليم وفي ما تبقى من جغرافيا الحرب بين القوى الكبرى.

÷ كيف قرأت مواقف وآراء المثقفين بخصوص الثورة السورية؟ كيف تفسر هذا الانقسام الكبير حول الثورة السورية خصوصا، بين المثقفين السوريين والعرب؟

} لم تعد الثورة السورية عقدة ينقسم عندها المثقفون العرب، وقد تجلت بوصفها الثورة الأكثر جاذبية وأسطورية في بطولات صانعيها. أجيال من القيادات الشبابية استشهدت في أقبية التعذيب وعلى طرق المواجهة بين العين والمخرز والصدر العاري والرصاص، من دون أن تلين عريكة الشعب ولا ان تهتز إرادته ولا أن ترتجف شجاعته أمام وحشية السلطة.

هذه الإرادة العظيمة العازمة على إسقاط الطغيان، وما رافقها من صور ملحمية في الشهادة لأجل الحرية والكرامة، حملت على إنهاء حالة الانقسام العربي من حول الثورة السورية، وتركت قلة قليلة من المتورطين ضد الثورة المنحازين إلى القتلة ممن لم يعد الناس يأبهون بهم حقيقة.

في البداية ظهرت أصوات في الأوساط الفلسطينية، ممن خُدعت أو خدعت نفسها بالنظام الفاشي في سوريا، واعتبرت أن تصريحات النظام عن المؤامرة ضده وجيهة، لكن سرعان ما كشف النظام عن فاشيته وبشاعته التي لا سابق لهما، وأسقط الدم السوري المسفوك في شوارع الحرية ورقة التوت الفلسطينية عن عورة النظام، ومن ثم صار لزاما على من لم يصدق تصريحات رامي مخلوف عن وحدة المصيرين أن يصدق نهر الدم السوري المسفوك بآلات الموت التي سحبها النظام من الجبهة الصامتة على الحدود.

وكانت بداية اليقظة في موقف النخبة الفلسطينية المثقفة متزامنة (ومعبرا عنها) مع بيان المئة مثقف فلسطيني المنشور تحت عنوان: “ليس باسمنا ليس باسم فلسطين ترتكب الجرائم ايها القتلة”، وقد قدم هؤلاء طلب انتساب جماعي إلى “رابطة الكتاب السوريين” التي تنادينا إلى تأسيسها ككيان ثقافي سوري حر يضم مثقفي الثورة اعضاء ويضم شرفيا كل من يرغب من الكتاب العرب. لقد أدرك المثقفون الفلسطينيون الذين سبق لهم ان أرغموا على اعتبار النظام السوري حائطا للممانعة، أن الاستبداد والطغيان لا يمكنهما أن يلعبا في معارك الحرية غير دور واحد: قتل الاحرار وقمع ثورة الحرية، والاصطفاف بالتالي في جبهة العدو وخوض حربه ضد الشعب. الاستبداد، إذن، كما اكتشفت النخبة السورية والنخب العربية كلها، كان الحاضنة الشرعية لاستمرار الاستعمار على ارض فلسطين.

الأجيال الجديدة

÷ جرت العادة، بحكم صراع الأجيال، أن ينظر الأولون باستخفاف إلى اهتمامات الأجيال الجديدة الشابة، ماذا وجدت في الأجيال الجديدة؟ هل تغيرت نظرتك إليها؟

} منذ اليوم الاول للثورة العارمة التي فجرها في سوريا الأطفال قبل الشباب، ثم انخرط فيها المجتمع كله، وجدت نفسي مع الثورة. بل حتى قبلها. منذ أن اندلعت أولى الثورات العربية في تونس، كان من البديهي أن أعبر عن انحيازي التام إلى هذا الحدث المنتظر، لكنني لم أتوقع حقيقة ان تندلع الثورة في سوريا بسرعة، قدرت ان الشباب السوري سينتظر بعض الوقت حتى لا تسفك الدماء السورية في ظل دماء عربية أخرى كانت تسفك بغزارة وقتها، في ليبيا خصوصا، فلا ينتبه العالم إلى فداحة ما يجري إلا متأخرا. لكن مواعيد الثورات وصياغاتها وطرائقها وسبلها لا تأتي حسب الطلب، كما أراد البعض من المثقفين السوريين، الثورات لها كياناتها الخاصة ومفاجآتها الداهمة وأبطالها غير المتوقعين ومواعيدها المحتومة. عند هذه النقطة أخطأ البعض منا، كأدونيس الذي أراد للثورة ان تركب على مزاجه، وان يمنحها المزاج الشخصي للشاعر المفكر شرعيتها، وإلا فإن صورتها ستكون منافية لكل ما من شأنه أن يسمح لها بالمرور. وهذا لعمري أمر مستحيل، فهو ضد الحركة وضد منطق الاشياء. إن لم نقل إنه يضمر استعلائية مفرطة من الفرد على البشر والجماعة. وتقدير متعملق لدور المخيلة الشخصية في تخيل أقدار المجتمعات. هذا شيء لا تاريخي. ربما يصلح لكتابة مونودراما ساخرة. وهو موقف لا يستخف بالأجيال الجديدة التي فجرت الثورات العربية وحسب، والثورة السورية أعنفها وأكثرها جذرية وغنى، وابتكارا، ولكنه يستخف بخيارات المجتمع كله. الشاعر والفنان لا يمكن أن يتورط بمعاداة المستقبل. إنه هو نفسه جزء من المستقبل، بل إنه مع بعض النماذج الخلاقة صوت يأتي من المستقبل. أما أولئك الذين هرموا، فهم أشخاص اكتملت حكايتهم، وانصرفوا إلى الماضي، وصاروا جزءا من التاريخ.

الشاعر عندي طاقة خلاقة لا يمكنه أن يتورط ضد الحرية، ولا يجوز أن يتردد ولو لحظة في الانحياز إلى خيارات شعبه في معركته ضد الطغيان. والاستثناء في التجربة السورية هم شعراء شاخوا، حتى أخلاقيا، ولا أظن أن على شعبنا أن يأبه بهم بينما هو يصنع المستقبل ويذهل العالم بشجاعته الخلاقة والاخلاقية.

÷ هل لانخراط ولدك في الثورة أثر في ذلك؟

} ابني وأنا انخرطنا في الثورة كل من موقعه. وعلى طريقته وفي توقيت خاص به، وعلى حدة. وهو على الارجح ما حدث لكثيرين من الآباء والبنين السوريين. ابني أخفى عني أمره كما أخفاه عن الجميع. كان قد أسس مع مجموعة من الشباب تجمعا ثوريا، ومنه انطلقوا ليعبروا عن أنفسهم كجيل جديد يحمل تصورا عن العالم وعن سوريا التي يريد في قلب هذا العالم. كان لا بد للنظام من البداية ان يعي هذه الحقيقة ويرضخ لها ويجنب البلاد كل تلك الدماء التي سفكت ظلما. لم يصدق النظام ولم تصدق العائلة الحاكمة بأمرها أن هؤلاء الشباب كانوا جادين، وأنهم عقدوا العزم وحسبوا خطواتهم، وليس في حسبانهم أن يتراجعوا أبداً.

÷ كيف أثرت بك تجربة اعتقال ولدك؟

} من حسن الحظ أن معرفتي بالأمر تأخرت، لكن ذلك بدا لي في النهاية جزءا من الضريبة التي يدفعها جميع السوريين الشرفاء اليوم، من حسن الحظ ان الله حماه من الأذى، لان عددا من رفاقه المقربين قضى تحت التعذيب، وأولهم الشهيد غياث مطر. أحد أبرز الوجوه التي أكدت سلمية الثورة السورية. أظن انهما اشتركا معا في إطار تجمع دمشق وريفها للثورة السلمية.

في ما بعد أخبرني رامي أنه في الشهرين الأخيرين كان ينام في ملابسه وحذاؤه في قدميه. وكان ينام في بيت وأسرته في بيت آخر، متوقعا في أي لحظة مداهمة المكان الذي كان يقيم فيه لاعتقاله. خصوصا مع تزايد وتائر الاعتقال في صفوف الشباب والاغتيالات التي تعرضت لها قيادات الحراك الثوري من جانب الأجهزة الأمنية المختلفة، وعلى رأسها جهازا الأمن العسكري والمخابرات الجوية، وهما الأشرس بين الأجهزة الأمنية السورية.

ما واجهه الشباب وعانوه وتحدوه وخرجوا عليه بصورة لا رجعة فيها، كان حدثا رائعا وعظيما أدهش العالم كله، وأدهشنا نحن الآباء قبل الجميع، وجعلنا نلحق بهم لنكون جزءا منهم. الثورة السورية جعلت أبناءنا رفاقاً لنا وقادتنا إلى المستقبل. فهم من يدير الحراك من درعا إلى إدلب، ومن دير الزور إلى دمشق، مرورا بكل مدينة وقرية وناحية في سوريا الثائرة.

مؤسسات بديلة

÷ كنت من أوائل الداعين إلى إنشاء “رابطة الكتاب السوريين”؟ أي ضرورة لذلك؟ هل تجد أنها بديل نهائي لاتحاد الكتاب في سوريا؟ وهل يعتبر ذلك نموذجاً للتخلي عن مؤسسات وإحلال أخرى مكانها؟

} رابطة الكتاب السوريين كما عرّفناها مرارا هي إطار حر وطوعي لمن يرغب أن ينتظم فيها من الكتاب السوريين المناصرين للثورة السورية. وبهذا المعنى فهي جمعية أهلية تكسر احتكار السلطة للثقافة والهيمنة عليها، وتحرر المثقفين واعمالهم من ربقة الأجهزة الأمنية التي راقبتهم لعقود وقمعتهم، وأحصت عليهم أنفاسهم، بل مارست بحقهم دورا جدانوفيا، فعادت الابتكار والتجديد في الأدب، وسهلت مرور المنافقين والانتهازيين وعديمي الموهبة إلى صفوف الكتاب لتتمكن من خلق مسوخ وبدائل ودمى تلعب الأدوار المطلوبة منها في معركة اخضاع الثقافة للحاكم وتحويلها إلى ديكور واقنعة للسلطة الغاشمة، وتعمل على تعطيل الطاقة الخلاقة والنقدية للثقافة وتسلبها أدوارها المنتظرة منها، في ظل منظومة فاسدة تهمش الكتاب الحقيقيين وتقصيهم إلى الزوايا المعتمة، وتفتح الطريق، بالمقابل، أمام المسوخ لتكون هي الفاعلة في الحياة الثقافية.

“اتحاد الكتاب العرب” في سوريا كان المنظمة المسيرة عن طريق الأجهزة الأمنية، والمسرح الذي لعبت فيه شتى الأدوار الفاسدة في حياة الثقافة السوري.

وبالتالي فإن الثورة الشعبية التي استهدفت تقويض النظام الديكتاتوري في سوريا، استهدفت بالضرورة تقويض هذا الاتحاد الأمني وتفكيكه وإعادة ممتلكاته المنهوبة من مال الشعب السوري إلى خزينة السوريين. وصرف الموظفين الأمنيين إلى بيوتهم، وترك الأمر للهيئات المدنية المختصة والمعنية تقرر بطريقة ديموقراطية وحقوقية وضع أعضاء هذا الاتحاد الذي لن يبقى يوما واحدا بعد انتصار الثورة لأنه اتحاد معاد بطبيعته للكيان الروحي والثقافي للسوريين. والثقافة في سوريا الجديدة لن تقررها هيئة سلطوية ولكن سيقررها السوريون بأنفسهم من خلال هيئات المجتمع المدني في ظل نموذج حكم ديموقراطي يخدم الثقافة والعلم بوصفهما جزءا من استثمار مستقبلي في الإنسان والمجتمع، ومن تصور تحرري وتقدمي وحداثي للثقافة وأدوارها. وهو ما لا يتيح لرابطة الكتاب السوريين ولا غيرها من روابط الثقافة الوليدة ان تستاثر وحدها بتمثيل الثقافة أو احتكارها في سوريا الجديدة.

مثل هذا التصور يجعلني أتحفظ على فكرة تبسيطية ترى في الرابطة بديلا من الاتحاد المخابراتي الاشبه بثكنة ثقافية يقرر الامن مصائر عسكرها وضباطها محكوم عليه بالزوال السريع، وهو ما سيفسح في المجال لظهور روابط وهيئات ومؤسسات ثقافية أهلية متعددة ستنشط بصورة طوعية وينطبق عليها ما ينطبق على مؤسسات المجتمع المدني وجمعيات النفع العام. رابطة الكتاب السوريين، إذن، هي بمثابة النموذج الديموقراطي لتحرير الثقافة من قيودها. والأمر مفتوح أمام كل من يريد أن يؤسس ويبتكر ويجرب. في سوريا الجديدة ومع نهاية الديكتاتورية نريد أن نحل المتعدد مكان الواحد، والديموقراطي مكان التسلطي. والأخلاقي مكان الفاسد، والطبيعي مكان الملفق. هذا ما نادت به ثورتنا وتنادي به يوميا وتدفع لأجله الدم الغالي. فهي ثورة لتحرير الإنسان والمجتمع والثقافة من غياهب الزنازين، والخروج بالسوريين جميعا بمختلف مكوناتهم الإثنية والدينية المتعددة والمتنوعة إلى شمس العصر.

(لندن)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى