صفحات الثقافة

لحظة الانفصال التاريخية بين الاستبداد والحرية

 


بقلم بشير مفتي

الجزائر…

من الصعب التحدث عن لحظة فاصلة بين زمنين يختلفان على كل المستويات:

زمن كنا نظن، – وبلغ الظن أحيانا حد اليقين- أننا شعوب عربية حُكم عليها أن تبقى أسيرة لمنطق الاستبداد بكل أشكاله ومختلف صوره. بل ذهبنا أبعد من ذلك حيث كيّفنا حياتنا ورؤانا ومفاهيمنا مع هذا النمط من المنطق، ومع هذا الشكل من الواقع، وصرنا ننظر الى الحياة العربية والإنسان العربي على أنه كائن محكوم بحتميات الأنظمة التي فرضت عليه إكراهاتها وشروطها، وحتى خط سيره. صار هذا الكائن العربي الذي سُلّطت عليه كل مظاهر التشويه والعنف والاستلاب والتحطيم النفسي، يعيش في حالة مستقرة مع الهزيمة، هزيمته الفردية وهزيمته الجماعية، هزيمة الذات وهزيمة النحن. صرنا حالة ميئوساً منها وغير مقدّر لها أن تتغير أو تصير شيئاً آخر. تلبست الثقافة العربية في مختلف ألحانها بهذا الصوت الشاذ، صوت الإنسان المقموع والمجتمع اليتيم العاجز عن تغيير مصيره أو تحويل خط سير قدره، والتبست الثقافة المكتوبة والمرئية بهذا الوضع المأزوم، وصار الخطاب اليائس هو مرجع هذه الثقافة وصورتها الوحيدة. فالكتابة الأدبية برمتها اندفعت للتعبير عن رؤياها الكابوسية التي راحت تبشر بالنهايات الأبوكاليبسية لمجتمع يسير نحو هاوياته المرعبة، نحو فناء إنسانها العربي، فلا أمل كان يسطع في تلك الدهاليز المعتمة للواقع العربي الحزين.

لقد كتب المثقفون العرب في مختلف الأوطان العربية التي لم تكن مختلفة في شكل أنظمتها القمعية والاستبدادية، عن هذا الشقاء العربي، ولم تعد الحلول المقترحة للخروج منه بالحلول المتاحة أو الممكنة في ظل غياب أي رغبة لدى تلك الأنظمة في تغيير مسارها أو نقد ذاتها، مع تواطؤ الغرب الكبير معها، وهي الأمور التي كانت تزيد من بشاعة الحالة التي عشناها لعقود طويلة.

لقد أُنتجت في مناخ كهذا ثقافة مبنية على الأعطاب الكثيرة، على محاولات لتفسير التفكك والانحلال وعدم القدرة على التغير، على مشاعر ممزقة بغياب أي أمل في صوغها لروح جديدة، على كتابات صارت بفعل اندراجها في سياق زمن الاستبداد مجردة من أي علاقة مع واقعها. فما معنى أن نكتب عن حقوق الإنسان والديموقراطية وحرية المرأة والحداثة في ظل أنظمة كانت ترفع كل تلك الشعارات البرّاقة ولا تمارس أبسط احترام لتلك الشعارات. لقد خلقت فصاما بيننا وبين المفاهيم والقيم والمقولات، وأصبح الكثير من المفكرين العرب يساهمون بمداخلات في مؤتمرات تقيمها هذه الأنظمة غير الشرعية لتبرير وجودها، فانفقدت معاني الكلمات وضاعت قيمة الخطابات وانتفت فاعلية المثقف والمفكر والجامعي الذي لم يعد قادراً على ممارسة حقه في النقد، وحتى إن مارسه بشكل من الأشكال فكأنما فقط ليعطي شرعية لهذا النظام أو ذاك، ليثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه يسمح بأشكال معينة من النقد والرؤى المختلفة.

هذا باختصار شديد التوصيف الأولي والبسيط للزمن القديم، زمن الاستبداد والقمع. والآن بعد الثورات الشعبية التي عبرت النهر مثلما هو الأمر في مصر وتونس، والثورات التي لم تقطع إلا نصفه، كما في اليمن وليبيا، والثورات المرشحة لأن تقوم لاحقا، أو كما هو منتظر من طرف الجميع، هل يمكن القول إننا نشهد لحظة ميلاد جديدة فاصلة بين عقود الاستبداد وبشائر الحرية؟ إذا كان زمن الاستبداد يمنع الحلم ويقمع التفاؤل، فإن زمن الثورات الشعبية يسمح بذلك ويفتح الأفق على أبواب الأمل بكاملها، وعلى الحلم، الكلمة التي كنا نستعملها كمرادف لليأس. فالحلم كان في ما يعنيه سابقاً، التشبث بخيار عقيم في ظل حالة التردي والسقوط التي كنا نعرفها. أما اليوم فهو ببساطة يرمز الى الإيمان بإمكان إصلاح أوسع وأكبر وأكثر تأثيرا في مجريات التاريخ.

لا مفر من القول إن ما حدث فاجأ الجميع. فهذه اللحظة التاريخية الجديدة جلبت معها شعورا قويا باستعادة المصير، ولا يمكن بأي حال أن ننفي قوة هذا التغيير الكبير سواء على المستوى الروحي أو المادي. ومثلما صار من الممكن الحلم الآن بأوضاع أفضل لهذا الإنسان العربي، يمكننا التخوف أيضا. فلحظة الحرية هي لحظة مفتوحة على أخطار كثيرة، وعلى صراعات ستطفو لا محالة على السطح. أي أن سنوات الاستبداد القمعية التي هتكت مجتمعاتنا وكسرتها وأفسدتها، لن يكون من السهل تغييرها بسهولة. حتى لو تم دحرها في ميدان التحرير/ ميدان الواقع ¶

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى