صفحات مميزة

لقاء أردوغان-بوتين وتأثيراته المحتملة على الشأن السوري –ملف من اعداد “صفحات سورية” –

أردوغان ـ بوتين: هل وقعت حرب القرم؟/ صبحي حديدي

العناوين الأبرز، بصدد لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، في بطرسبورغ؛ يمكن أن تسير هكذا:

ـ أنقرة وموسكو تضعان جانباً خلافاتهما حول الملف السوري (والنقاط هنا عديدة، ومتشعبة، فيها طرائق محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وإغلاق أو ضبط الحدود التركية ـ السورية، ومستقبل بشار الأسد خلال المرحلة الانتقالية، ودعم موسكو لأكراد سوريا، والتركمان شمال اللاذقية على مرأى من قاعدة حميميم.

ـ اللقاء يتيح لموسكو أن تقلّب الرأي، بمعنى إعادة النظر إيجابياً، تجاه مشروعات الغاز في البحر الأسود، عبر تركيا وبلغاريا؛ وهذه أشغال دسمة تماماً اقتصادياً، وهي قيمة جيو ـ سياسية عابرة للقارات أيضاً كما يتوجب القول.

ـ الطرفان توصلا، حول هذه النقطة الثانية، إلى اتفاق يقضي بتقاسم نفقات إنشاء «السيل التركي»، أي خطّ الغاز الذي كان مفخرة بوتين في سنة 2014، ولا يلوح أنّ الكرملين قد تخلى عن شغف إطلاقه في أقرب فرصة.

ـ رغم أنّ الطرفين تحاشيا الإشارة إلى الأمر، فإنّ الدرجة العالية من تفاهمهما حول خطَّيْ غاز البحر الأسود يطرح أسئلة جدية حول الخطين الآخرين في مشروع «سيل نورد 2»،  الذي ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا وأوروبا الغربية عبر بحر البلطيق؛ وهنا، أيضاً، ثمة توازن ماكر بين الاقتصاد والجيو ـ سياسة، وغمزة من قناة أوروبا.

باختصار، إذن، كان اللقاء بمثابة التطبيق الأحدث لتلك الحكمة الذرائعية التي اجترحها ونستون شرشل ذات يوم: في السياسة ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم، بل ثمة مصالح دائمة. فكيف إذا اقترنت سلّة المصالح بذلك المزيج الثمين من الاقتصاد والسياسة والأمن؟ وكيف إذا كانت حوليات التاريخ العاصف بين البلدين تضرب بجذورها في قرون، وليس حفنة عقود، من التوتر والتنافس والتصارع والتحارب؟

وبعض المفارقات أيضاً، خاصة إذا ارتدّت عناصر الحاضر إلى أصولها في الماضي؛ كأن يتذكّر أردوغان ـ الذي لا تخفى لديه نزوعات الحنين إلى الإمبراطورية العثمانية ـ أنّ البلاشفة السوفييت كانوا في طليعة مساندي الثوار الأتراك خلال حرب الاستقلال؛ وأنّ أوّل قرض تلقته جمهورية تركيا الفتية، سنة 1932، لم يأت من واشنطن بل من موسكو؛ وأنّ أوّل خطة خمسية تركية، 1934ـ1938، رُسمت على غرار الخطة الخمسية السوفييتية الشهيرة… هذه معلومات توفّرها أبسط الموسوعات، وبالتالي ليس في وسع أيّ حوار تركي ـ روسي معاصر أن يضرب صفحاً عنها، حتى إذا كان النظام السوفييتي قد انطوى (دون أن يطوي، البتة، رجل الاستخبارات السوفييتية السابق، الصاعد في هرم السلطة منذ العام 2000!).

وفي المقابل، ليس في وسع بوتين (الذي يرتكز قسط من شعبيته، أو شعبويته بالأحرى، على إحياء مشاعر الأنفة القومية الروسية، والسلافية عموماً؛ المختلطة أيضاً بالعصبية الدينية الأرثوذكسية)، أن يتناسى صراع الإمبراطوريتين العثمانية والروسية، منذ أواسط القرن السادس عشر، مروراً بحروب البلقان، وحتى الحرب العالمية الأولى. وكان قيام مقاتلات تركية بإسقاط طائرة الـ»سوخوي» الروسية مناسبة قصوى لكي تطفح على السطح هذه المناخات كلها، بل تتورّم وتتضخم، خاصة على لسان القوميين المتشددين ورجال الدين الأرثوذكس.

غير أنّ للحاضر، في السياسة خصوصاً وليس في التاريخ مثلاً، سطوة كبرى على الماضي، وعلى لجم فصوله الصراعية خدمة لمقتضيات المصالح الراهنة؛ أياً كانت مقادير الشدّ والجذب، ومهما اتسعت الهوّة أو تحطمت الجسور. هذا، ضمن اعتبارات أخرى، مكّن أردوغان، المدني في إهاب قائد إنكشاري؛ من مصافحة بوتين، ضابط الاستخبارات في ثياب قيصر العصر. وكأنّ الـ»سوخوي» لم تسقط، أو كأنّ حرب القرم ذاتها لم تقع!

القدس العربي

 

 

 

 

أبيض أو أسود/ سلام الكواكبي

لطالما توزّع السوريون بين معسكراتٍ وخنادق ذهنية وحسيّة منذ القديم. وبالتأكيد، لم يتميزوا وحدهم بهذا التوزّع الذي مارسته كل المجموعات البشرية. وفي أثناء بنائهم الدولة الأمة الذي، إن بدأ يوماً، فهو لم يكتمل، برزت لديهم نزعاتٌ عقائديةٌ حاسمة بعيداً عن “الوسطية” والمرونة، على الرغم من الحديث الوردي عن مرونتهم التجارية ووسطيتهم الدينية.

وعلى الرغم من رسوخها تاريخياً في الثقافات السياسية المتعاقبة (والمُعاقِبة) للمجتمع، إلا أن هذه الخاصية تبلورت بشدة مع بدء الحَراك الاحتجاجي سنة 2011، وتطوّر مساره إلى ثورةٍ سلميةٍ، قبل انتقاله وتحوّله إلى النسخة المسلحة للثورة، وما آلت إليه. وتخندق كلٌ منا في فكرته، وفي موقفه وفي تحليله وفي تقييمه وفي تنديده وفي مديحه…إلخ. لم يعد هنالك للحوار مطرح. ولم يعهد أحدٌ التراجع، ولو قيد أنملة، عن موقفٍ ما، اعتراه أو تبنّاه، عبر النقاش. في المقابل، فهو قابل، وبأريحية شديدة جالبة للانتباه، وربما للدهشة، للتقلّب وتغيير اللون وقلب المعطف، إن جاء “الأمر” أو أملت “المصلحة” الشخصية أو الفئوية ذلك.

برزت هذه الممارسة في مشاهد سياسية ودينية واجتماعية عدّة. وقد توّجت، أخيراً، بالموقف من الانقلاب العسكري الذي قام في تركيا وفشل. فما كان إلا أن انبرى المحللون والخبراء إلى الخوض في دهاليز العمل الاستخباراتي، واختراع الروايات ذات اليمين وذات الشمال، كما لو أننا في صالون دردشة بعيداً عن أي شعور بالمسؤولية، المنهجية على الأقل، في التحليل وفي الاستنتاج. فصار الواحد منهم يستميت في إجزال أسمى عبارات “التحية والإجلال” لما سموه “السلطان العظيم”، رجب طيب أردوغان. وصاروا أكثر تركيةً من الأتراك أنفسهم خوضاً في متاهات دهاليز السياسة التركية المعقدة والمبنية، مبدئياً وبنسبية معقولة، على أسس الدولة/ الأمة الحديثة. وهي التي، لسوء حظ معظمهم، لم يعرفوها عملياً ولم يتعرّفوا عليها حتى نظرياً.

لقد تلقّى المتملقون الجدد، سوريين وعرباً، درساً لن ينسوه، متمثلاً بـ “بهدلة” أدبية متلفزة، تعرّضوا لها من أحد مستشاري الرئيس التركي، والذي علّق بسلبيةٍ شديدةٍ على الأسلوب “السوقي” في مديح الرؤساء المستخدم من بعضهم، وقد اعتبر أن خطاباتهم الجوفاء ومواقفهم العمياء وهطولاتهم اللفظية في دعم الرئيس التركي، وشتم معارضيه واختراع الخرافات واستخدام الإسقاطات الدينية، لا يمكن، بأي حال، أن يفيد المسألة الديمقراطية في البلاد، إلا أن ذلك لم يثنهم عن المتابعة، وعن الإيغال في الأمر، وكأنما لهم أذن من طين وأذنٌ من عجين، وبانوا للعلن وكأنهم يُعيدون إنتاج خطاب الاستبداد، ولعب دور المتمجدين أي حاكمٍ ما دام ينظر في أمور مصالحهم الضيقة. هذا الحاكم الذي ربما ادّعى بعضهم يوماً أنه ثار عليه.

لم تتبين تفاصيل المصالحة التركية ـ الروسية بعد، إن اعتبرنا أصلاً أن الفتور الدبلوماسي والتصريحات النارية بين الدول يمكن أن تكون عداءً مطلقاً. وحيثيات الملفات المطروحة بين الدولتين لم يُطلع الأتراك، ولا الروس، أصحاب العظمة التحليلية عليها. وبالتالي، فالخوض في تفاصيلها وانعكاساتها يجب ان يعتمد على القراءات المتواضعة، وعلى تقاطع “البيانات”، كما على الاستعادات التاريخية ليُصار، ربما، إلى بناء تصوّر محدود مع إشارات استفهام عديدة عن مآلاتها.

إن كان أردوغان “معبود” بعض الجماهير، لأسباب موضوعية وعاطفية وعقائدية، فليس من

“حيثيات الملفات المطروحة بينهما لم يُطلع الأتراك، ولا الروس، أصحاب العظمة التحليلية عليها” المنطقي أن يتحوّل، بين ليلة وضحاها، بالنسبة لبعض هذه الجماهير نفسها، إلى عدو شرس قد باع القضية، وأيما قضية. فالانعطاف، كما يحلو لبعضهم قراءة المشهد الجديد بين البلدين من خلاله، ليس إلا جزءاً طبيعياً من مسار سياسي لدولتين فاعلتين دولياً وإقليمياً. من جهة أخرى، يتنطّح بعضهم، ويعتبر أن زيارة الرئيس التركي روسيا كانت تحمل، في صلبها، القضية السورية، وأن إردوغان “خير من يُمثّل” قضية السوريين، وأنه “يحملها في قلبه”. تعابير بعيدة عن أي منطق وعن أي سياسة، وهي مُضرّة لعدة أطراف في المعادلة: السوريون وأردوغان والعقل.

في لقاء مضى مع ممثلين عن المجتمع المدني التركي، من غير المقربين إلى حزب العدالة والتنمية، طُرحت المسألة السورية ببعديها الإنساني والسياسي، كما جرى التعمّق في أحجية استغلال مأساة السوريين من بعض أحزاب المعارضة، للانقضاض على السياسات الحكومية في أنقرة بأي ثمن. وبعد طول نقاش، اقترح بعضهم أن يُصار إلى التواصل مع أحزاب المعارضة ونقاباتها، لمحاولة تحييد الاستقطابات السياسية التركية عن الملف السوري. وتم استعراض هذا الاقتراح مع بعض ممثلي السوريين السياسيين في تركيا، فكان الجواب رفضاً قطعياً، لأن هذا التوجّه “سيُغضب أصدقاءنا” في الحكومة. وعندما نُقل هذا التخوّف إلى هؤلاء “الأصدقاء”، قيل بكلامٍ واضح لا لُبس فيه وبالسورية المحكية: “أرجوكم تكلموا معهم علّهم يعتقوننا قليلاً من هذه الأسطوانة المشروخة”.

تقول ألف باء السياسة إنها كانت رسالةً واضحةً وضوءاً أخضر للانفتاح على كل مكونات الشعب التركي، حيث يُقيم أكثر من ثلاثة ملايين سوري في ربوعه. أما جهابذة السياسة من أترابنا، أو بعضهم، فلم يجد فيها إلا فخّاً يُراد منه الايقاع بهم وامتحان ولاءاتهم.

العربي الجديد

 

 

 

نزول تركي مباشر إلى سوريا/ إياد الجعفري

قد يكون أبرز سؤال شغل أذهان المراقبين للشأن السوري، خلال الأسبوع الفائت، هو: أين يمكن أن تلتقي مصالح أنقرة، موسكو، طهران، في سوريا؟

 

ربما كانت الإجابة قد جاءت على لسان محمد جواد ظريف، وزير خارجية إيران، ونظيره التركي، مولود جاويش أوغلو، في مؤتمرهما الصحافي يوم الجمعة، حينما أشارا، بالتزامن، إلى نقطة الاتفاق الرئيسية بينهما، “وحدة التراب السوري”.

إذاً، فطموح القوى الكردية الفاعلة في سوريا، قد يكون أبرز ضحايا مساعي الحوار والتفاهم التركي – الإيراني، بمظلة روسية.

بطبيعة الحال، من المبكر جداً القول بوجود أية تفاهمات بين العواصم الثلاثة، أنقرة، موسكو، طهران. لكن لابد من الجزم بوجود رغبة جادة لدى العواصم الثلاثة في اختبار احتمال التفاهم بينها. وإن لم يكن على سلّة مشتركة من الأهداف في سوريا، فلا يمنع ذلك من انتقاء بعض الأهداف التي يمكن الاتفاق حولها، والقبول بحالة الاختلاف في أهداف أخرى.

وبما أنه من الصعب على تركيا أن تقبل بالتخلي عن حلفائها الميدانيين من الفصائل المسلحة، في شمال سوريا، والذين يشكلون سنوات من الاستثمار التركي في الصراع السوري. كما أنه من الصعب على روسيا وإيران أيضاً، التخلي عن الأسد، وما يمثله من قوة محلية ومؤسساتية أمنية وعسكرية في سوريا، في ضوء حجم الاستثمار الروسي والإيراني فيه، وفي الهيكلية التي يقودها. إذاً، لا مانع من البحث عن نقاط المصلحة المشتركة بين العواصم الثلاثة، والقبول بحالة الصراع الميداني في هوامش الاختلاف.

إيرانياً، وتركياً، لا يبدو أن هناك أي زيغ في رفض الطرفين للتمدد الكردي، المدعوم أمريكياً، شمال سوريا، تحت غطاء مكافحة “داعش”.

ومع استكمال سيطرة فصيل “قوات سوريا الديمقراطية” على منبج، وصل التمدد الكردي إلى نقطة حساسة في هامش “الصبر” التركي. فمع السيطرة على منبج، يكون التمدد الكردي قد تجاوز هامش الفرات، باتجاه غربه. وهو الخط الأحمر الذي سبق أن رفعه الأتراك بهذا الخصوص.

وفيما ربط مراقبون بين زيارة وزير الخارجية الإيراني المفاجئة لأنقرة، يوم الجمعة، وبين لقاء أردوغان – بوتين الأخير، يبدو أن الربط الأكثر إلحاحاً، هو ذلك المُتعلق بإعلان اللحظات الأخيرة من معركة السيطرة على منبج، من جانب فصيل “قوات سوريا الديمقراطية”، الذي يشكل أكراد “الاتحاد الديمقراطي الكردي”، قوامه الرئيس.

هكذا، يبدو أن الخطر الكردي يتفاقم في المنظورين التركي والإيراني. فطهران شهدت تفاقماً للحراك المسلح في مناطق ذات غالبية كردية في شمالها الغربي، قرب الحدود مع إقليم “كردستان العراق”. فيما تقارع أنقرة في حرب عصابات، مقاتلي حزب العمال الكردستاني، في جنوبها الشرقي.

أما روسيا، التي سعت سابقاً لإقامة صلات مُثمرة مع الاتحاد الديمقراطي الكردي، نكايةً بأردوغان، وسعياً كي لا يبقى أكراد سوريا ورقة أمريكية خالصة، تلحظ اليوم، التمدد الكردي برعاية أمريكية، بصورة تجعل الورقة الكردية تخرج تماماً من قبضتها، لصالح الأمريكيين.

هكذا، تلتقي مصالح الأطراف الثلاثة، تركيا، إيران، وأيضاً، روسيا، في الحد من التمدد الكردي. فحتى روسيا، لا ترى في هذا التمدد إلا تمدداً لصالح الأمريكيين، باعتبارهم الرعاة الرسميين للفصيل الذي يضم مقاتلي الكرد بسوريا.

وبعد أكثر من عشرة أشهر من الانخراط العسكري الروسي في سوريا، والذي قِيل لحظة إطلاقه أنه سيكون قصير الأمد، لا بد أن موسكو تريد التخفيف من حدة تورطها العسكري، وخسائرها المالية جرائه. وفي سبيل ذلك، يُفيد الروس من تفاهم مع تركيا، يمكن أن يهدئ بعض الجبهات، أو يفتح باباً للحوار وفرض قواعد لعبة تضبط الصراع، بما يحد من استنزاف التورط الروسي.

فهل يفسر ما سبق حالة المراوحة في المكان في معركة حلب؟،.. ربما..

وأكثر من ذلك، قد تُترجم مساعي الحوار الروسي – التركي – الإيراني، في حال نجاحه مستقبلاً، في سيناريوهات عدة، مفاجئة للمراقب اليوم، من قبيل، تغيير وجهة المعركة من جانب فصائل معارضة، لتكون في شمال مدينة حلب، وفي ريفها الشمالي الشرقي، وريفها الشمالي الغربي، ضد “داعش”، بإسناد تركي، وضد الأكراد أيضاً، خاصة إن نجحت المساعي لفرض هدنة في حلب، بين النظام والمعارضة.

أو قد نشهد سيناريو آخر، من قبيل، حصول تدخل عسكري تركي مباشر، للسيطرة على الحيز الجغرافي الفاصل، المُتبقي، بين مناطق سيطرة الأكراد في الريف الشرقي لحلب، وبين مناطق سيطرتهم في الريف الشمالي الغربي للمدينة.

السيناريو الأخير قد يكون الأرجح، فتولي فصائل المعارضة مسؤولية الاشتباك مع الأكراد، قد تحول دونه محاذير عديدة، أبرزها، رفض بعض الفصائل القبول بالتوجيه التركي بهذا الشأن. ونذكر أن “فتح الشام (النُصرة سابقاً)”، رفضت منذ أكثر من سنة التورط في أية مساعٍ للصدام مع الأكراد بما يخدم أجندات تركية، شمال حلب.

ناهيك، عن أن التدخل العسكري التركي المباشر، قد يكون أكثر حسماً، فهو سيكون بمبررين: الأول، دفع تواجد تنظيم “الدولة الإسلامية”، بعيداً عن الحدود التركية، بدلاً من أن يتولى الأكراد هذه المهمة. والمبرر الثاني: منع قيام اتصال جغرافي بين المناطق التي يسعى الأكراد لإقامة منطقة حكم ذاتي فيها، الأمر الذي ترفضه الدولة التركية بكل مقوماتها، بما فيها قوى المعارضة والمؤسسة العسكرية.

التدخل العسكري التركي المباشر، إن تم، بضوء أخضر روسي، قد يشكل عامل ارتباك للأمريكيين. وسيمثل رسالة حازمة من أنقرة، مفادها، أن الاستهتار الأمريكي بالأمن القومي التركي، عبر دعم التمدد الكردي، لم يعد مقبولاً. وقد يمثل ذلك أقوى رد تركي ممكن على الموقف الأمريكي المُلتبس حيال محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، ناهيك عن الاستهتار بالخط الأحمر التركي المتعلق برفض أي عبور كردي لنهر الفرات باتجاه الغرب، شمال حلب.

وقد يكون تدخل كهذا، أفضل فرصة للمؤسسة العسكرية التركية، لإعادة تلميع صورتها داخلياً، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة.. وللحزب الحاكم في أنقرة، لإظهار أن محاولة الانقلاب لم تؤثر على قوة تركيا الإقليمية، بخلاف ما توقع المراقبون.

وبطبيعة الحال، سيعتمد هكذا تدخل عسكري تركي على فصائل معارضة محلية، للإمساك بالأرض، والسيطرة عليها.

الروس، سيكسبون من تدخل تركي كهذا، تحقيق تقارب أكبر في وجهات النظر والمصلحة مع أنقرة، بصورة تحدّ من حجم الاستنزاف والتورط العسكري الروسي في سوريا. أما الإيرانيون، فيكفيهم لجم الطموحات الكردية في سوريا، قبل أن تستكمل تأثيرها في إيقاظ النوازع الانفصالية للأكراد على الأراضي الإيرانية.

فهل نشهد بالفعل تدخلاً عسكرياً تركياً مباشراً، شمال سوريا؟.. أعتقد أن هذا السيناريو بات أقرب من أي وقت سابق، ذلك أن نقطة الالتقاء الوحيدة المشتركة التي يمكن البناء عليها بين العواصم الثلاثة، أنقرة، موسكو، وطهران، هي لجم الأكراد، ومن ورائهم، واشنطن، على التراب السوري.

المدن

 

 

 

 

محور روسي تركي بين الحتمية والإمكانية/ مالك ونوس

مهما كان من نتائج لقاء الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في سانت بطرسبورغ، إلا أن محللين كثيرين يجمعون على أن بوتين كسب حليفاً في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها، وتمر بها بلاده، مع استمرار العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب عليها. فتجديد “حلف الصداقة” وإعادة تعزيز العلاقات الاقتصادية، سيكون له تأثير طيب على العلاقات السياسية، وربما يفتح المجال أمام محور روسي – تركي، ظهرت ملامحه سنة 2010، ثمرة تقارب اقتصادي وسياسي كبير، لكنه رُكن في الزاوية، بعد إعادة التموضع الذي فرضته الحروب التي ضربت دولاً عربية، إثر قمع الثورات المطلبية التي عمت فيها، واختلاف موقفي الطرفين تجاهها.

لا شك أن وقتاً يمكن أن يمر قبل أن يعود الدفء إلى العلاقات بين البلدين، بعد إسقاط تركيا طائرة روسية مقاتلة قرب حدودها مع سورية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. لكن حاجة الطرفين بعضهما إلى بعض، والنيات الحسنة التي أبداها الطرفان تجاه بعضهما، وتبدّت في سرعة عودة العلاقات وعودة السياح الروس إلى تركيا، وفي موقف الرئيس الروسي المغاير لموقف الغرب تجاه محاولة الانقلاب في تركيا، واتصاله هاتفياً بأردوغان غداتها، وفي سرعة عقد قمة بينهما، قد تقصِّر من مدة عودة العلاقات إلى طبيعتها السابقة، وربما تدفع إلى تقويتها، فتتجه نحو التحالف، على أرضية مصالح اقتصادية وجيو استراتيجية متبادلة، لمواجهة التوترات التي تحيط بالبلدين. علاوة على حاجتهما إلى إيجاد صيغة شراكة اقتصادية، يستعيضان بها عن تعنت دول الاتحاد الأوروبي إزاء طموح تركيا الانضمام إليه، وعن العقوبات التي فرضها على روسيا بعد أزمة القرم.

“الطرفان يريدان عدم جعل القضية السورية عقبة في وجه تحقيق اتفاق بخصوص النقاط التي علقت بعد توتر العلاقات”

وكانت الإشارات التي أطلقها الرئيس التركي، قبل زيارته روسيا، خير دليل على هذا الأمر، حين عبّر صراحة في مقابلة مع وكالة تاس الروسية: “إن الاتحاد الأوروبي تخلى عن وعود قطعها لتركيا، وهو يخدعنا منذ 53 عاماً”. وهو كلام يختصر مجمل معاناة تركيا مع دول الاتحاد الأوروبي، والغرب عموماً، الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء إدانة المحاولة الانقلابية ضد حكومةٍ، تعتبر حليفة أساسية لهم في حلف الناتو. الأمر الذي عكس حقيقة نظرة هذا الغرب إلى تركيا وموقفه منها. علاوة على اتهام الصحافة التركية الولايات المتحدة بوقوفها خلف المحاولة الانقلابية. أما من جهة روسيا، فلا حاجة لإيراد نقاط الخلاف مع هذا الغرب الذي لم يوجه أي إشاراتٍ تظهر حدوث اختلافٍ في نظرته التاريخية لروسيا، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، عنها قبل سقوطه.

وفي موضوع الخلافات العميقة، بدا من قمة الطرفين، أنهما لم يخوضا في خلافاتهما حيال الحرب والأزمة في سورية، ثم أعلن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، بعدها، عن توجه وفد تركي مختص إلى روسيا لبحث الأمر. ويبدو أن الطرفين يريدان عدم جعل القضية السورية عقبة في وجه تحقيق اتفاق بخصوص النقاط التي علقت بعد توتر العلاقات، وتعتبر ذات أهمية اقتصادية قصوى، عبَّر عنها الطرفان في ترداد عبارات حول إعادة النشاط التجاري والاقتصادي إلى سابق عهده، مع زيادة بوتين جرعة النيات هذه، بكلامه عن وضع برنامج لزيادة التعاون الاقتصادي بينهما. وفي هذا السياق، كانت المواضيع العالقة، مثل مشروعي الغاز “السيل التركي” والمحطة النووية التركية، بحكم المسلّم بهما، للانطلاق نحو نقاط جديدة في قطاعات اقتصادية وتجارية أخرى.

تم الاهتمام في الغرب بلقاء القمة هذا، ويقول محللون إنه أوجد قلقاً ومخاوفَ لدى المسؤولين الغربيين من تعمّق العلاقات أكثر، ومن أن ينتج عنها محور يضم بعض دول الاتحاد السوفييتي السابق. وفي حين نفى مسؤولون غربيون وجود هذه المخاوف، فإن مجرد نفيها يثبت وجودها، ولو بدرجات. أما أساس المخاوف فتركّز حول انعكاس التقارب بين البلدين، خروجاً لتركيا من حلف الناتو، وهو ما أصر مسؤول ألماني على نفي إمكانية حدوثه جراء هذا التقارب.

إن كانت روسيا تنظر إلى تدخلها العسكري في سورية على أنه، في أحد جوانبه، استعاضة عن خسائرها من جرّاء انخفاض أسعار النفط، وتسويقاً لسلاحها، يعوّض عن العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب عليها، فإن تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع تركيا ربما يغنيها عن هذا التدخل. وسيكون بإمكان الاستثمارات المتبادلة للطرفين أن تعوّض روسيا، إن قررت وقف تدخلها في سورية. وهو أمر سيغيّر نظرة العرب لها، وقد يجلب لها استثماراتٍ من الدول العربية تعزّز الاستثمارات التركية وتكملها. لذلك، حل الخلافات بينهما، وتطوير التعاون الاقتصادي والتنسيق السياسي، ربما يوفران إمكانية لقيام محور، يعتبر ضرورةً للطرفين، إنْ قرّرا استثمار هذا التعاون من أجل ترتيب فوضى الشرق الأوسط الحالية.

(كاتب سوري)

العربي الجديد

 

 

 

 

 

حلفاء تركيا وأصدقاؤها/ سمير العيطة

غالبية الانقلابات العسكريّة تقوم في دولٍ نامية ضدّ سلطات أصلاً غير منتخبة ديموقراطيّاً. لكنّ تبقى العلاقة بين احتمال حدوث الانقلابات والتنمية معقّدة وبعيدة عن البساطة. يزيد احتمال حدوثها مع أهميّة المؤسسة العسكريّة واتساع نفوذها بالتوازي مع هشاشة مؤسّسات الدولة أمام التدخّلات الخارجيّة.

لماذا إذاً جرت محاولة انقلابيّة في تركيا، البلد الصاعد اقتصاديّاً والذي ترسّخت فيه الديموقراطيّة الانتخابيّة منذ عشرين عاماً؟

لم تصدر المؤسّسة العسكريّة القويّة أيّ مطالب كما حدث قبيل انقلاب 1997 وبعده، ولا عن تنظيم فتح الله غولن الذي تمّ اتّهامه بالمحاولة. وما زال مبهماً ما الذي ربط بين المؤسّسة العسكريّة التركيّة الشديدة التمسّك بالعلمانية وبين تنظيمٍ «الحزمة» الإسلاميّ لغولن، الحليف السابق لحزب «العدالة والتنمية».

بقيت أسباب المحاولة في سياق التخمينات. هل أتت على خلفيّة تصاعد الحرب الأهليّة في المناطق ذات الغالبية الكرديّة؟ أم من الاستياء من أداء الحكومة في الملفّ السوريّ، خاصّة في ما يخصّ «داعش» و «القاعدة»؟ أو أنّ المحرّك كان خارجيّاً؟ كما يوحي غضب الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان ضدّ الولايات المتّحدة وبعض الدول الأوروبيّة التي ظلّت مواقفها متردّدة حتّى اتضح أنّ المحاولة الانقلابيّة قد فشلت، في حين سارعت روسيا وإيران إلى إدانتها منذ لحظاتها الأولى.

كان فشل المحاولة الانقلابيّة شبه حتميّ، بتوقيتها ومجرياتها. ما يرجّح فرضيّة الإسراع بها بعد انكشاف أمرها. وقد تداعت قوى شعبيّة وحزبيّة متنوّعة كثيرة لإنهائها، إضافةٍ لهيمنة الحكم على قوى الأمن التي تصدّت للانقلابيين. وقد ثبت أنّ غالبية الشعب التركي، بما فيه أنصار «حزب العمّال الكردستاني»، لا يرغبون بعودة حكم العسكر.

تداعيات هذه المحاولة الانقلابيّة على مستقبل تركيا ستكون استثنائيّة، بقدر ندرة احتمال حدوثها نظريّاً. أهمّ هذه التداعيات هي نهاية الوضعيّة التاريخيّة شبه المستقلّة للمؤسّسة العسكريّة التركيّة. ولذا يسابق الرئيس أردوغان الزمن في «تنظيف» هذه المؤسّسة من جميع الضبّاط ورثة هذا التاريخ. كما يبدو أنّه سيسارع إلى تحويل النظام السياسيّ للبلاد من برلمانيّ هشّ في جوهره مقابل الجيش، إلى نظامٍ رئاسيّ أكثر استقراراً. تحوّلٌ يُشبه ذلك الذي أسّس له الجنرال ديغول قبيل إعلان استقلال الجزائر.

إضافةً لهذه التحوّلات، سيسمح الزخم الشعبيّ الذي واكب نجاحه على المحاولة الانقلابيّة، على الأغلب، بالتخلّص من أنصار خصمه الحليف السابق، فتح الله غولن، وربّما في وضع هذا الأخير رهن إقامة جبريّة في جزيرة على غرار عبد الله أوجلان. وفي أفضل الأحوال، سيسمح النظام الرئاسيّ القويّ بإيجاد حلٍّ يحافظ على وحدة وسلامة تركيا للملفّ الكرديّ كما لملفّ «الحزمة»، أو لأحدهما على حساب الآخر.

ما ليس واضحاً هو مستقبل العلاقات مع الاتحاد الأوروبيّ، الذي شكّل الأمل بالانضمام إليه ركيزة أساسيّة للنهضة الاقتصاديّة ولترسيخ الاستقرار السياسيّ في السنوات الأخيرة. لكن إذا صحّت التكهّنات بأنّ روسيا بوتين هي من حذّرت تركيا أردوغان من الانقلاب، فإنّ مرحلةً جديدة قد حلّت وستجعل العلاقة مع أوروبا أكثر بروداً والتحالفات العالميّة أكثر مرونة.

وماذا عن الملفّ السوريّ؟ من اللافت أن ينتهي اللقاء بين الرئيسين الروسيّ والتركيّ بالعمل على التوافق عسكريّاً ضدّ «داعش»، بعد زمنٍ طويل من التشنّج مع الولايات المتحدة وأعضاء «حلف الأطلسي» حول هذا الموضوع بالذات، وبعدما كانت قاعدة أنجرليك التركيّة التي تنطلق منها طائرات التحالف ركيزةً للمحاولة الانقلابيّة. أمّا على الأصعدة الأخرى فلن تأتي النتائج سريعة. صحيحٌ أنّ روسيا لا تتخلّى عن «أصدقائها» السوريين بسهولة، وكذلك سيكون موقف تركيا. إلاّ أنّ التوافق بينهما يمكن أن يصنع حلاًّ سياسيّاً ذا مصداقيّة في سوريا. وروسيا كما تركيا بحاجة لمثل هذا الحلّ.

السفير

 

 

 

الحاجة إلى روسيا/ سلامة كيلة

لم يعد الحج نحو موسكو يقتصر على دول الخليج، بل كانت تركيا تسبقها قبل “الصدام” العسكري الذي حدث. ولأن موسكو حاجةٌ، فقد عادت تركيا إلى الحج إليها.

لا شك في أن تحولات الوضع الدولي تفرض ذلك، حيث أن الميل التركي إلى التحوّل قوةً عالميةً فرض الذهاب نحو روسيا التي تبدو منافساً (وليس عدواً) لأميركا. وفرضت أزمة أميركا الاقتصادية، وتخوفها من “نهوض الصين”، الميل إلى التحالف مع إيران، ما أخاف دول الخليج، فدفعها إلى الميل نحو روسيا، والحج المستمر إلى موسكو.

نحن، إذن، في سيولة في الوضع الدولي، نتيجة الأزمة الاقتصادية العميقة التي ضربت الرأسمالية وأميركا خصوصاً. وقد فرضت هذه السيولة محاولاتٍ لتأسيس تحالفاتٍ جديدة، انطلاقاً من مصالح كل دولة، حتى التي تخضع لسيطرة أميركية، حيث أن “ضعف يد” أميركا بات يسمح بذلك.

ما علاقة ذلك بالوضع السوري؟ أثار تراجع تركيا عن صدامها مع روسيا حول سورية شكوكاً بشأن القبول التركي ببقاء بشار الأسد، ضمن صفقة المصالحة التي تحققت. لكن، قبل ذلك، كانت تركيا في “تحالف” مع روسيا، على الرغم من الخلاف حول سورية، وهو خلاف كان يبدو عميقاً، نتيجة التنافس على سورية، لأنها من منظور كل منهما مفصل في سياساتهما، روسيا للهيمنة على “الشرق الأوسط”، وكذلك تركيا. وربما كان التصعيد التركي ضد روسيا قد أوحى بجدية تركيا للتدخل في سورية، بالتالي، كان تراجعها يشير إلى خسرانها، ومن ثم قبولها السيطرة الروسية على سورية. وهذا ما يظهر من تأكيدها على محورية الدور الروسي في سورية، وهو اعتراف بـ “الأمر الواقع”، لم تكن تركيا تريده سابقاً. لكن، هل يوصل ذلك إلى قبول الحل الروسي في سورية، والقائم (إلى الآن) على بقاء بشار الأسد؟

ما يهمّ تركيا، أولاً، هو مصالحها في سورية، حيث حصلت من بشار الأسد على امتيازاتٍ اقتصادية كبيرة، بما في ذلك تسهيل مرور السلع التركية إلى السعودية ودول الخليج، إضافة إلى مشاريع اقتصادية، وتسهيل دخول السلع التركية إلى السوق السوري. لهذا، سيكون التفاهم الأساس مع روسيا حول ما يمكن أن تتحصل عليه تركيا، بعد الإقرار بالسيطرة الروسية على سورية. وما تتحصل عليه هو الذي سيحدّد مدى قبولها الحل الروسي بكل تأكيد، لكن هذا لا يعني ألا يكون مصير الأسد مطروحاً، حيث أظن أن تركيا تفضّل رحيل الأسد، على الأقل، للقول إنها حققت شيئاً ما “يخدم الشعب السوري”، ويعزّز من مصداقيتها.

من جهة أخرى، تركز السعودية على علاقتها المميزة مع روسيا، وتؤكد أنها تسعى إلى تطويرها، على الرغم من الخلاف حول المسألة السورية. ولا شك في أن تخوفها من التقارب الأميركي الإيراني يدفعها إلى أن تعزّز تقاربها مع روسيا، وتطوير علاقتها بها، مع أن العلاقات الاقتصادية ليست أساسية هنا، بعكس تركيا التي أصبحت روسيا البلد الثاني، بعد الاتحاد الأوروبي ككل، في التبادل التجاري والعلاقة الاقتصادية. وما يبدو أن السعودية تصرّ على رحيل الأسد، ليس لخلافٍ شخصي، فقد دعمته سنتين بعد الثورة، مالياً وتكتيكياً، خصوصاً في الأسلمة وتفكيك قوى الثورة، لكنها وجدت أن ضعف النظام فرض بدل الوصول إلى حل سياسي تدخلاً عسكرياً إيرانياً كثيفاً، أفضى إلى السيطرة على القرار السياسي في دمشق. هذا الأمر بالتحديد هو الذي فرض انقلاب الموقف السعودي، والتمسك برحيل الأسد.

ونتيجة الميل إلى التقارب الأميركي الإيراني، سعت دول الخليج إلى تطوير علاقتها مع روسيا، على الرغم من اختلاف موقفها من رحيل بشار الأسد، حيث أن بعضها ليس معنياً بذلك. لكن كمجموعة يبدو أنها أميل إلى التأكيد على رحيل الأسد. وتحالف روسيا مع كل هذه الدول مغرٍ لها، وبالتالي، قد يدفعها إلى قبول رحيل بشار الأسد، ما دامت كل هذه الدول قد قبلت بـ “دورها” السوري. على الرغم من أن العنجهية الروسية التي تريد “تعليم العالم” أنها تفرض ما تريد، يمكن ألا توصل إلى ذلك، على أمل قبول كل هذه الدول بحلها. ربما فقط اليأس من حسم عسكري هو ما يجعلها تقبل بما تحقق.

العربي الجديد

 

 

 

 

قمة أردوغان – بوتين… الثوابت والمصالح/ خورشيد دلي

قمة الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، في بطرسبرغ الروسية اليوم، تبدو أكثر من مهمةٍ لعلاقات البلدين وقضايا المنطقة، إذ إنها الأولى بينهما، منذ توتر العلاقات بين بلديهما، عقب إسقاط تركيا مقاتلة حربية روسية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، كما أنها الزيارة الأولى لأردوغان إلى الخارج، عقب الانقلاب العسكري الفاشل منتصف يوليو/ تموز الماضي. وأهمية القمة لا تنبع مما سبق فحسب، بل لأنها تأتي على وقع توتر العلاقات التركية مع الغرب، بشقيه الأميركي والأوروبي، وكذلك على وقع معركة حلب التي تتوقف عليها معادلات كثيرة مرتبطة بالأزمة السورية، ولعل أردوغان يلتقي بوتين وفي جعبته الكثير عن ملف معركة حلب، وتطوراتها الميدانية على الأرض.

ماذا يريد القيصر من السلطان؟ وماذا يريد السلطان من القيصر؟ بعيدا عن الرغبة المشتركة في تطوير العلاقات الاقتصادية، حيث مشاريع النفط والتجارة والسياحة، وغيرها من المصالح الحيوية المشتركة، يريد بوتين من أردوغان تغيير سياسته تجاه الأزمة السورية، فيما يريد أردوغان الشيء نفسه من بوتين. ولكن كل طرف بالاتجاه الذي يريده، وهو يبدو غير ممكن في ظل الاختلاف الاستراتيجي في سياسة البلدين تجاه الأزمة، فروسيا تتمسك ببقاء النظام السوري، فيما تركيا تريد إسقاطه. روسيا تريد من تركيا تغيير سياستها في القرم وأوكرانيا فيما ترى تركيا أنها تمارس السياسة انطلاقا من رؤيتها ومصالحها واستراتيجيتها، حيث يقف البلدان على بحر من العداء التاريخي، منذ الحروب المتتالية بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، مرورا بمرحلة الحرب الباردة، ووصولا إلى الصدام في الأزمة السورية.

تأتي زيارة أردوغان إلى روسيا في وقتٍ حساس، لجهة العلاقات التركية – الأميركية التي توترت أكثر، بعد الانقلاب العسكري الفاشل، واتهامات تركيا واشنطن بدعم المتورطين فيه، ومطالبتها بتسليمها فتح الله غولن، بوصفه المسؤول عن المحاولة الانقلابية، كما أنها تأتي في ظل موجة الاتهامات المتبادلة بين المسؤولين الأتراك والأوروبيين، حيث وصل الأمر ببعض المسؤولين الغربيين إلى المطالبة بوقف مفاوضات العضوية مع تركيا، بل وإخراجها من الحلف الأطلسي، ولعل مثل هذا التطور السلبي في العلاقات التركية – الغربية يسيل لعاب بوتين، وأمله بزعزعة العلاقة الأطلسية بتركيا، إن لم نقل تفكيكها، طالما أن موسكو تعيش هاجس توسع الأطلسي شرقا في كل صباح.

للقيادة الروسية، وانطلاقا من مصالحها، موقف واضح من الأزمة السورية، لعل أهم معالمه

“دوافع التقارب الروسي – التركي كثيرة، على الرغم من إرث الصدام واختلاف الاستراتيجيات إزاء قضايا عديدة” رفض إسقاط النظام السوري، أو حتى إجباره على الرحيل، في مقابل التمسك بإيجاد حل سلمي عبر مرحلة انتقالية، من خلال حوار يفضي إلى مثل هذا الحل، حيث أعلنت مراراً اتفاق جنيف واحد أساساً يمكن الاعتماد عليه للحل، في حين أن القيادة التركية التي قطعت كل علاقاتها مع النظام السوري، وعلى الرغم من التحولات التي تشهدها سياستها الخارجية، بعد المصالحة مع إسرائيل وروسيا، تعمل لإسقاط النظام السوري.

تخشى روسيا التي تحارب في سورية دفاعاً عن مصالحها الاستراتيجية من البعد الإيديولوجي لتداعيات صعود الحركات الإسلامية المتشدّدة، ولا سيما في ظل وجود عشرات الملايين من المسلمين في جمهوريات آسيا الوسطى التي كانت، حتى وقت قريب، جزءاً من الأراضي الروسية. تنظر روسيا هذه بعين الخوف إلى تداعيات هذه السياسة على أمنها القومي، وهي، في مواجهة ذلك، تعمل بقوة، وعلى مختلف المستويات، لبقاء النار المشتعلة خارج أراضيها، وهي حجةٌ تدفع بوتين إلى الطلب من أردوغان اتخاذ مزيدٍ من الإجراءات ضد هذه التنظيمات، باسم مكافحة الإرهاب. في المقابل، سيحاول أردوغان القول لبوتين إنه لا جدوى من دعم النظام السوري إلى ما لا نهاية، وإن ما جرى في حلب، أخيراً، قد يضع الدرس الأفغاني أمام الروس من جديد، لكن بوتين يدرك جيداً أن السعي التركي هذا يفتقر إلى الدعم الأميركي والأطلسي. وعليه، قد تبقى استجابة بوتين في حدود الاستماع، قبل أن يرفق ذلك بالطلب من أردوغان اتخاذ إجراءات على الحدود مع سورية، في سبيل الوصول إلى تفاهماتٍ في المرحلة المقبلة، في إطار البحث عن أدوار جديدة في منطقة الشرق الأوسط.

في الوقع، قد لا تكون قمة بوتين – أردوغان في شقها السوري سوى لقاء تثبيت المواقف لا أكثر، فكما يبدو من التصريحات التركية أن أردوغان لا يستطيع التراجع عن مواقفه، بعد أن قطعت تركيا علاقاتها نهائياً مع النظام السوري، وجعلت من إسقاطه هدفاً لا محيد عنه، فيما يسعى بوتين إلى استثمار التوتر في العلاقات التركية – الغربية، من أجل مصالح اقتصادية وأمنية كبرى، تتجاوز الملف السوري، فمشروع الغاز الجنوبي الذي ينقل الغاز الروسي عبر الأراضي التركية يقوّي موقف موسكو، في مواجهة أوروبا التي تدعم كييف بقوة، كما إنه يجعل من أنقرة الجسر الأهم لنقل النفط إلى أوروبا، وليس كييف كما هو الآن، حيث الصراع العالمي على مد خطوط الطاقة إلى الدول الأطلسية، بشقيها الأوروبي والأميركي، وأبعد من الغاز والنفط ومفاعل أقويو النووي، تطمح روسيا إلى مزيدٍ من التقارب مع تركيا، على أمل دفعها إلى الانفكاك عن الغرب، ولو تدريجياً.

من الواضح أن دوافع التقارب الروسي – التركي باتت كثيرة، على الرغم من إرث الصدام واختلاف الاستراتيجيات إزاء قضايا عديدة.

العربي الجديد

 

 

 

روسيا أم الولايات المتحدة: أين تتجه بوصلة تركيا بعد الانقلاب الفاشل؟

لقد مر وقت كاف منذ محاولة الانقلاب لبدء تقييم الوضع، وقد برز الرئيس «رجب طيب أردوغان» بوضوح بعد الانقلاب في موقف أقوى من ذي قبل. خارج المنطقة الكردية، وبدلا من أن يقسم الانقلاب البلاد، فقد  أدى إلى درجة أكبر من الوحدة، بدرجة غير مسبوقة.

يقوم «أردوغان» حاليا بإعادة هيكلة المؤسسات التركية، من الجيش إلى المدارس إلى وسائل الإعلام، ضمن المساعي التي من شأنها دعم كل نواياه على المدى الطويل. وبالرغم من أن عاقبة إعادة هيكلة المؤسسات التركية غير واضحة، فإنها توفر له قوة هائلة، ولكن السؤال المهم هو ما ينوي القيام به بتلك القوة.

اسمحوا لي أن أبدأ بنقطة مهمة. هناك أربع قوى كبيرة في المنطقة، ولكل منها القدرة على الدفاع عن نفسها وإبراز درجة معينة من القوة. وهي المملكة العربية السعودية وإيران و(إسرائيل) وتركيا. ومن هؤلاء الأربعة، فإن تركيا فقط لديها الحجم، القوة الاقتصادية والنفوذ السياسي لتشكيل المنطقة.

على الأرض، (إسرائيل) هي أقوى هذه القوى، ولكن حجمها يحد من إسقاط نفوذها على جيرانها القريبين. لديها نفوذ سياسي، ولكن هذا لا يزال محدودا بسبب حقيقة أنها دولة يهودية. كما أن المصدر الرئيسي للقوة في  السعودية هو المال، ولكن انخفاض أسعار النفط قد يقوض هذا التأثير، في حين أن الجيش، كما رأينا في اليمن، لم يتطور بما فيه الكفاية في فاعليته. أما قوة إيران فهي محدودة بسبب الجغرافيا، وقدرتها على الحفاظ على القوات العسكرية واسعة النطاق عبر جبال زاغروس محدودة مما يضطرها إلى تعزيز قوتها من خلال وكلاء ذوي قوة محدودة.

إن تركيا وحدها لديها مزيج من القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية لتصبح قوة إقليمية كبرى. وعلى مدى أكثر من نصف الألفية، ولفترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، كانت تركيا القوة الإقليمية المهيمنة. واليوم، فإن لديها أكبر اقتصاد وأكبر قوة عسكرية في المنطقة، وبالتالي يجب أن يكون لها أكبر تأثير.

ومع ذلك، في حين أن اقتصاد تركيا نما بشكل كبير منذ تولى حزب العدالة والتنمية السلطة، إلا أن يتباطأ، ويجب أن يتطور. أما الجيش فقد يكون الأكبر في الشرق الأوسط، ولكن الكثير من حجمه يأتي من المجندين في الخدمة على المدى القصير وهم غير مدربين بشكل فعال. كما أن معداته لم تتطور منذ الحرب الباردة، والكثير من عقيدته العسكرية لا تزال تتطور. وليس من الواضح أن المؤسسات الأخرى في تركيا، مثل  الاستخبارات الخارجية، هي في حالة مهنية ملائمة لقوة كبرى. وعلى حد سواء، فإن السياسة الداخلية والإقليمية تبدو محدودة الخيارات.

لذا تجنبت تركيا الإفراط، حيث تدرك أن الهزيمة ممكنة مما سيعطل التطور التركي. وأدت سياسة التفكير بالتمني أكثر من الواقع، إلى تخيل عدم وجود أعداء. ثم انتقلت تركيا إلى سياسة الاشتباك المحدود على طول الحدود، ثم زيادة الانفتاح على القوى البعيدة مثل (إسرائيل) وروسيا. إنها سياسة بالغة الدقة، تعمد إلى التحول من العداء إلى الحياد إلى تعاون محدود والعودة مرة أخرى وفق ما تقتضيه الظروف.

يعطي الانقلاب «أردوغان» فرصة لإعادة تشكيل مؤسسات تركيا بطريقة لم تكن ممكنة قبل الانقلاب. حيث واجه «أردوغان» قبل الانقلاب، معارضة كبيرة. والآن أعطى الانقلاب له فرصة لإعادة هيكلة الجيش والمخابرات وغيرها من المؤسسات لإعطاء تركيا مجالا أكبر للمناورة في المنطقة. الانقلابات الفاشلة، عندما يتم سحقها تماما تفقد مصداقيتها، تحدث زيادة كبيرة في قوة الحكومة التي استهدفتها. ويبدو «أردوغان» جاهزا للاستفادة من ذلك.

بداية من هذا الانقلاب، فإن القيود التي منعت تركيا من امتلاك كامل إمكاناتها في المنطقة سوف تبدأ بالزوال. في هذه اللحظة، تواجه تركيا فوضى عارمة في جنوبها، و درجة من عدم الاستقرار في القوقاز، إضافة إلى المنافسة بين الولايات المتحدة وروسيا الصاعدة في البحر الأسود. والنفوذ الروسي في البلقان آخذ في الارتفاع، لاسيما في صربيا. تبدو المنطقة محفوفة بعدم الاستقرار، ولم تكن تركيا قادرة على وقف ذلك. أما الآن فإن إعادة الهيكلة تفتح الباب أمام تركيا لتصبح أكثر حزما في المنطقة.

في السنوات الأخيرة، كانت سياسة تركيا تكتيكية بشكل كبير. فقد انتقلت من تهديد إلى تهديد ومن الفرصة إلى الفرصة دون استراتيجية واسعة.ومع تزايد التهديدات في البيئة الحالية، أصبح النهج العام الحالي أقل قابلية للاستمرار. عدم القدرة على التنبؤ بالوضع في الجنوب إلى جانب التهديدات المحتملة من كل اتجاه تجبر تركيا على النظر في زيادة سيطرتها على الوضع. في هذا السياق، يجب أن يتم استبدال السياسة التكتيكية باستراتيجية وطنية.

ثلاثة خيارات

أمام تركيا الآن ثلاثة خيارات. الأول هو محاولة إدارة مصالحها. والثاني، هو محاولة التحالف مع روسيا للإدارة المشتركة في المنطقة. والثالث هو العودة إلى التحالف المسبق مع الولايات المتحدة.

إن خيار الاعتماد على الذات دائما ما يكون جذابا. ومع ذلك، فإن تركيا تباشر عملية إعادة بناء المؤسسات. وفي الحد الأدنى، سوف تستغرق هذه العملية عشر سنوات من الساسة قبل الوصول إلى مرحلة الاعتماد على الذات. وحتى بعد هذه النقطة، فإن القوى العسكرية الإقليمية لها مصالح اقتصادية عالمية، وهذا التباين يخلق تبعيات خارج السيطرة. وسوف تحتاج تركيا إلى حلفاء حتى لو أصبحت قوة على الصعيد الإقليمي.

يظل التحالف مع روسيا ذو مغزى. الاستراتيجية المثلى هي أن القوتين الأضعف تتعاونان لمواجهة السلطة الأقوى. بعد حرب فيتنام، تحالفت الولايات المتحدة مع الصين لمواجهة السوفييت. الخطر في هذه الاستراتيجية هو أن واحدة من القوى المتحالفة قد تكون أضعف من الأخرى، أو أن أيا منهما فجأة قد تتحول فجأة عن التحالف. الروس بحاجة واضحة لتركيا لمواجهة الولايات المتحدة، وتركيا يمكن أن تستخدم روسيا لنفس الغاية. ولكن إذا ضعفت روسيا بسبب المشاكل الاقتصادية، أو توصلت إلى اتفاق مع الولايات المتحدة حول أوكرانيا، فقد تجد تركيا نفسها وحيدة.

المشكلة في التحالف مع الولايات المتحدة هي أن اختلال موازين القوى يجعل تركيا عرضة للتحولات في السياسة الأميركية. يمكن للولايات المتحدة القيام باستراتيجيات ليست في مصلحة تركيا والعمل على إجبار تركيا على دعمها وتخصيص موارد بشكل غير منطقي. أما روسيا فلديها سياسة في سوريا تعارض تركيا. والولايات المتحدة لديها سياسة هي الأخرى ولكنها أقل وضوحا بكثير. الولايات المتحدة أكثر خطورة من روسيا في هذه الحالة، حيث يمكن توقع تصرفات روسيا بالنسبة لتركيا، أما الولايات المتحدة فهي تمتلك أسوأ سمة يمكن أن تتوفر في الحليف وهي: عدم القدرة على التنبؤ.

هناك عنصر آخر في هذا الحساب. روسيا أقرب كقوة إلى تركيا، والولايات المتحدة تغرد بعيدا، بمعنى أن روسيا تعد منافسا في المنطقة. وللولايات المتحدة حصة أقل من ذلك بكثير في المنطقة من روسيا وهي، بالتالي، على الرغم من كل السلبيات بالنسبة لتركيا، فهي خيار أكثر أمانا.

في القرن الماضي، كان الخيار الروسي مطروحا. وقد رفض دائما هذا الخيار بسبب القرب و الرهانات العالية جدا. الولايات المتحدة هي أقل قابلية للتنبؤ على وجه التحديد لأنها كانت أقل خطرا.

هل كانت الولايات المتحدة وراء الانقلاب؟

في اتخاذ الخيار، هناك أيضا مسألة ما إذا كانت الولايات المتحدة وراء الانقلاب. أنا لست في وضع يمكّن من المعرفة في حين أن كل شيء يعد ممكنا، ولكن أنا لا أميل إلى الاعتقاد بهذا لسبب بسيط. حيث أن الولايات المتحدة تحاول أن تخلص نفسها من المنطقة من خلال السماح للقوى إقليمية بإدارتها.

وهذا يعني أن إضعاف تركيا يتعارض مع المصالح الأمريكية. وإذا افترضنا أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية كفؤة كما يحب الأتراك الاعتقاد، ثم فإنه كان ينبغي أن تعرف أن الانقلاب يخطط له ويدار من قبل غير الأكفاء وأن النتيجة الوحيدة إذا نجح الانقلاب ستكون الفوضى في تركيا. الولايات المتحدة تريد الانسحاب من المنطقة، وهذا أمر مستحيل ما لم تكن تركيا قوية. الفوضى في تركيا هي آخر شيء قد تريده الولايات المتحدة. إن رعاية الولايات المتحدة للانقلاب، إذا صحت فمن المرجح أن تكون لأسباب جيوسياسية، ومن الواضح أنها قد تتسبب في أخطار لا يمكن تبريرها. من وجهة نظري، كان انتصار «أردوغان» على الانقلاب يصب في المصلحة الأمريكية أكثر بكثير من بقية البدائل.

تبذل تركيا الآن جهدها من أجل الانتقال من كونها قوة ثانوية إلى قوة إقليمية كبرى. الضغط الشديد على النظام السياسي التركي، أدى إلى توليد الانقلاب الذي جعل «أردوغان» أقوى من أي وقت مضى. وهذا ما توقعته أيضا منذ عقود. ولكن في هذه النقطة، فإن الواقع الجيوسياسي الأساسي يقول أن مححدات السياسة الخارجية التركية تجعل العلاقة مع الولايات المتحدة أكثر عقلانية من العلاقة مع روسيا أو حتى من العمل وحدها. لقد تم تصميم السياسة الخارجية لتعمل مع الخيارات المتوفرة. قوة تركيا في تزايد ولكنها لم تصل بعد إلى النقطة التي يمكنها أن تخترع خيارات جديدة. سوف يكون هناك ضغط مفرط على كلا الجانبين ولكن في النهاية، أعتقد أن التحالف التركي الأمريكي سوف يعاود الظهور.

المصدر | جورج فريدمان – جيوبوليتيكال فيوتشرز

ترجمة وتحرير أسامة محمد – الخليج الجديد

 

 

 

بوتين يلجم حماسة أردوغان/ حسان حيدر

الرغبة المشتركة التي عبّر عنها رئيسا روسيا وتركيا في إعادة العلاقات بين بلديهما الى سابق عهدها، بعد فترة قصيرة من الجفاء والإجراءات الانتقامية والمرارات الشخصية، لم تكن كافية لإخفاء الاختلال في ميزان القوى بينهما لمصلحة الأول. ولأنه لا عداء ثابتاً ولا صداقة دائمة في سياسات الدول، فإن المصالح وحسابات الربح والخسارة هي التي تتحكم بدفء العلاقة أو برودها.

كان واضحاً خلال المحادثات أن بوتين هو الطرف الأقوى في المعادلة، وأنه يعرف أن «صداقة» تركيا المتجددة وراءها رغبة في كسر الطوق الذي بدأ يرتسم حول نظام أردوغان، سواء في الجوار الأوروبي أو عبر المحيط الأطلسي، أو في المشرق العربي، وأن استعجال أنقرة العودة بالعلاقات، وخصوصاً الاقتصادية، الى مستواها السابق، يكشف ضعف «السلطان» الذي لم يخرج بعد من حالة التجاذب الداخلي. ولهذا قرر «القيصر» أن يلجم حماسته ويكتفي بالتلويح له بـ «جزرة» التطبيع بانتظار أن يظهر المزيد من المرونة في الملفات العالقة ويثبت حسن نواياه، مشدداً على أن استعادة التعاون الذي كان، تتطلب عملاً شاقاً وتحتاج الى وقت.

كان لاعب الشطرنج الروسي يدرك أن ضيفه يواجه وضعاً داخلياً شديد التوتر والصعوبة، على رغم فشل انقلاب دبره بضعة جنرالات، وألقى بالمسؤولية عنه على الداعية فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، والتي يطالبها أردوغان بتسليمه. ويعرف أيضاً حجم الانقسام السياسي والاجتماعي الذي تثيره حملة التطهير الواسعة التي شنها أردوغان وكان واضحاً أن خطتها رسمت قبل المحاولة الانقلابية بكثير، بل إن البعض يؤكد أن المحاولة جاءت لاستباقها بعدما تسربت أنباء عن قرب تطبيقها.

وهو بالتأكيد تابع كيف اضطر الرئيس التركي في خطاب أمام تظاهرة مليونية في اسطنبول قبل أيام الى «إعادة الاعتبار» الى مؤسس تركيا العلمانية مصطفى كمال، فيما استراتيجية حزبه كلها تقوم على إلغاء «جمهورية اتاتورك» وإحلال جمهوريته الإسلامية مكانها.

وكان اقتراب الأكراد السوريين من احتمال إعلان اقليمهم، ومراوحة المعارك في سورية وعدم تحقق الرغبة التركية في رحيل بشار الأسد، دفعت أردوغان، قبل المحاولة الانقلابية، الى اتخاذ قرار غير متوقع بإنهاء التوتر مع إسرائيل وروسيا اللتين تتشاركان مع بلاده ودول أخرى في إدارة الصراع الدموي المحتدم في سورية. ولعبت إسرائيل في هذا المجال دور «الصديق المشترك» الذي لا تستطيع موسكو وأنقرة تجاوزه في أي تسوية للحرب السورية، بسبب تورطهما السياسي والعسكري فيها، ونتيجة التزام الأميركيين والأوروبيين المصالح الإسرائيلية نفسها من دون تحفظ.

ثم جاء الانقلاب الفاشل ليزيد من اندفاعه، بعدما لاحظ «تردداً» أميركياً وأوروبياً في إدانة الانقلابيين، وعبر أكثر من مرة عن «خيبة أمله» من مواقف حلفائه الغربيين «المتخاذلة» في دعمه، واستيائه من انتقاداتهم لإجراءاته السلطوية المُبالغ فيها. وبدا كأنه يريد الانتقام من حلفائه برغبته في تفعيل سريع للعلاقة مع موسكو التي تمكنت من فرض نفسها شريكاً للأميركيين في بعض أزمات المنطقة. لكن أردوغان منح بذلك بوتين تفوقاً إضافياً في المفاوضات معه.

أما المسألة السورية الشائكة التي خصها الطرفان باهتمام زائد، فلا تزال موضع خلاف يصعب تذليله من دون «تنازلات» متبادلة. وقد يكون الحل الذي وجداه يكمن في التركيز على نقاط الالتقاء بدلاً من الاختلاف، أو في تبادل الأوراق، كأن تتوقف أنقرة عن المطالبة بتغيير النظام (وهو ما حصل الى حد ما) في مقابل تخفيف الدعم الروسي والإسرائيلي لقيام كيان كردي شبه مستقل عند الحدود التركية. وقد يظهر الحل أيضاً في «مقايضة» ما في حلب الخاضعة لمد وجزر قد يطولان. ويناسب ذلك بوتين الذي يفاوض من جانبه الأميركيين على حلب، بعدما تبين أن دعمه الجوي للقوات النظامية والميليشيات الإيرانية ليس كافياً لتحقيق انتصارها.

ويحاول بوتين أيضاً التغلب على مشكلة اوكرانيا، الممر الإلزامي لتطبيع العلاقات مع أوروبا ولإمدادات الغاز اليها. فعودة العلاقات مع أنقرة قد تسمح له بإحياء مشروع «تركستريم» لنقل الغاز الى الأوروبيين عبر تركيا، ما يوفر عليه تقديم أي تنازل في الملف الأوكراني، موقتاً على الأقل، ويسمح له بتعويض جزء من الخسائر الناجمة عن العقوبات الأميركية والأوروبية على بلاده بعد احتلالها شبه جزيرة القرم وضمّها.

الحياة

 

 

 

 

بعد لقاء بوتين وأردوغان/ معن البياري

هناك نباهةٌ ظاهرةٌ في قول الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أول من أمس، في المؤتمر الصحافي المشترك مع ضيفه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إنهما سيناقشان الموضوع السوري، بعد هذا اللقاء مع الصحافة. … إذن، إذا كنتم منشغلين بقراراتنا في هذا الشأن، فأنتم مخطئون، لأنه ليست لقصة سورية الأولوية التي تفترضونها في العلاقات التركية الروسية، اتفقنا في صددها أو اختلفنا. صدق بوتين، فقد أفاد وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، في تصريحاتٍ خصّ بها وكالة أنباء الأناضول، بعد مغادرة أردوغان سانت بطرسبورغ، بأن مسؤولين استخباريين وعسكريين أتراكاً سيلتقون نظراء روساً لهم لبحث تفاصيل ميدانية وإغاثية في سورية. وبعيداً عن الكلام الذي لا طعم له عن توافق روسي تركي على وقف إطلاق النار، وعلى ضرورة الحل السياسي، جاء شديدَ الأهمية قول الوزير أوغلو إن المسؤولين الروس طلبوا من ضيوفهم “تحديد النقاط التي لا يتوجّب ضربها” (!).

الموجز الأهم بعد لقاء سانت بطرسبورغ، مسقط رأس بوتين، أن روسيا قوةٌ كبرى وصاحبةُ قرارٍ مركزي في سورية، وليس في وسع تركيا أردوغان أن تُجبرها على شيء، أو تثنيها عن خياراتها العسكرية والسياسية هناك. هذه الحقيقة مؤكّدة قبل تأزم العلاقات بين موسكو وأنقرة عقب إسقاط طيارٍ تركي مقاتلة سوخوي روسية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015. كانت العلاقات أكثر من ممتازة، اقتصادياً، والتعاون بين البلدين متقدّم في غير مشروع، فيما الخلافاتُ بشأن سورية ظاهرةٌ ومعلنة، كما أن الخلافات بشأن إقليم ناغورني قاراباخ وجورجيا وغيرهما معلومة. كانت موسكو وأنقرة تقدّمان درساً مفيداً جداً، في السياسة والعلاقات الدولية، موجزه أنه يمكن التعايش مع أي خلافاتٍ سياسيةٍ بين أيِّ بلدين، والمضي، في أثنائها، في أحسن تعاون وأفضل مصالح، وأي خدشٍ في هذا التعايش يأخذ هذه المصالح إلى اختلال شديد الإيذاء.

ما تم في مباحثات بوتين وأردوغان، في قصرٍ في سانت بطرسبورغ قرأنا أنه شهد، في تاريخٍ مضى، خطط حروبٍ على تركيا العثمانية، ترسيمٌ جديدٌ للبديهية أعلاه. ليس فقط لأن مليار دولار من الصادرات إلى روسيا خسرتها تركيا في الشهور السبعة عقب واقعة السوخوي، بل لأن الاتفاق السابق بين البلدين، زيادة حجم التبادل التجاري من 30 مليار دولار إلى مائة مليار خلال سنتين، أمر أوْلى وأهم، وفي الوسع إنجازه. أما مشروع السيل التركي لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، مع تخصيص نصف الكمية للاستهلاك التركي، فأمرٌ من الحماقة التهاون في أمره، وكذا مشروع إقامة محطة نووية في تركيا لتوليد الطاقة، بمساعدةٍ روسية. هذه الحزمة من القضايا (الكبرى)، معطوفةً على الدفع بالسياحة الروسية في أنطاليا (مثلاً)، وغير ذلك من ملفات التعاون الاقتصادي، أكّدت مباحثات أردوغان وبوتين على صيانتها من أيِّ خدشٍ فيها، لا سيما وأن لإسناد الرئاسة الروسية نظيرتَها التركية، ليلة محاولة الانقلاب إياها، تأثيره الحاسم وشديد الإيجابية.

أين سورية في هذا كله؟ سؤالٌ بالغ الوجاهة، لكنه يتجاهل الحقيقة الأوضح، وهي أن الأزمة في هذا البلد وصلت إلى منزلةٍ من العفونة، ليس في وسع الرئيس أردوغان فعل المعجزات لحلها، إذ لا يستطيع التأثير على قرارات صديقه بوتين (كما وصفه). ومع كل الاحترام لمن رأى في مستجدّات معركة حلب منجزاً يحمله أردوغان إلى سانت بطرسبورغ، فإن مطلب الروس من الأتراك أن يعرّفوهم على المواقع السورية التي لا ينبغي ضربها ينزع عن هذا التحليل أي وجاهة. لكن هذا لا يعني أن الرئيس التركي مطالبٌ بتبني المنظور الروسي المقيت في الصراع، فقد كان الرجل واضحاً في قوله، قبل مباحثات سانت بطرسبورغ، إن حلاً سياسياً في سورية لا يقوم على تنحّي الأسد لا يمكن نجاحه. ولا تعني الإشارة، هنا، إلى حلب، تبخيساً من أهمية البسالة التي أبداها الثوار المحاربون هناك، وإنما القول إن حسابات الطريق إلى قصر الأباطرة في سان بطرسبورغ غير حسابات الوصول إلى طريق الكاستيلو شمال حلب.

العربي الجديد

 

 

 

 

طريق حرير بدل «الكانتون» الكردي/ زهير قصيباتي

سأل القيصر بوتين السلطان أردوغان كيف يفسّر قُدرة «مفاجئة» أبداها خصوم النظام السوري في حلب ومكّنتهم من كسر حصاره للأحياء الشرقية، ملمّحاً ضمناً إلى الأصابع التركية وإصرار أنقرة على منع سحق الفصائل السورية المقاتلة في ثاني أكبر مدينة سورية.

ردَّ أردوغان بسؤال القيصر كيف يفسّر عجز النظام أمام اندفاعة الفصائل، لولا تباطؤ الطيران الروسي في منع كسر الحصار.

بداية متخيّلة لحوار سان بطرسبورغ بين بوتين وضيفه المنتصر على الانقلابيين في تركيا، والمرتاب بالنيات الأميركية والمعايير الأوروبية «المزدوجة». وإن كان بعضهم يستحضر انعطافة القاهرة إلى موسكو، إثر تراكم «مدوّنات السلوك» الأميركية وانتقادات واشنطن للسياسة الداخلية لعهد الرئيس عبدالفتّاح السيسي، مشبّهاً تعاون الرئيس المصري مع الكرملين بحرص أردوغان على «الصفحة الجديدة» مع «صديقه العزيز» بوتين، في ظل انهيار الثقة بين السلطان وإدارة الرئيس باراك أوباما، فالأهم هو مفارقة جمع القيصر الأضداد والمتخاصمين، في سعيه إلى الإمساك بمعظم أوراق الحرب السورية.

في تفسير مفاجأة كسر «جيش الفتح» حصار النظام السوري للأحياء الشرقية في حلب، ترِد مجدداً معادلة تقاطُع الأهداف الروسية والأميركية عند منع النظام من تحقيق «انتصار» كامل يعني شطب العملية السياسية والمفاوضات.

في المقابل، تلتقي الخطوط التركية والروسية عند هدف منع تقسيم سورية الذي يستتبع حتماً دويلة كردية تشكّل خطراً على وحدة تركيا. وتردد أن أردوغان القلِق من إشارة أميركية لا تستبعد سيناريو التقسيم، طلب من بوتين في قمة سان بطرسبورغ منع الأكراد السوريين من ترسيخ حدود «كانتون»، في مقابل تبادل معلومات عسكرية، فضلاً عن تعاون عسكري في إطار شامل، والتراجع عن تجميد مشروع بناء الروس محطة نووية على الأراضي التركية.

يردّ أردوغان على النيات الأميركية «المشبوهة» حيال المحاولة الانقلابية الفاشلة على طموحات السلطان، بفتح أبواب التعاون العسكري بين الكرملين ودولة ما زالت تعتبر خاصرة الحلف الأطلسي المتهم بالزحف إلى أسوار الروس. ويظن الرئيس التركي أنه يردّ الصاع صاعين إلى ما يعتبره عنجهية لدى الاتحاد الأوروبي الذي تنفخ في قراراته رياح «كراهية» كلما طلبت أنقرة تسريع مفاوضات انضمامها إلى الاتحاد.

ومن فوائد «الصفحة البيضاء» التي وعد السلطان بفتحها قبل توجّهه إلى سان بطرسبورغ، دماء جديدة ستُضَخ في شرايين الاقتصاد الروسي المنهك بالعقوبات الغربية (ملف أوكرانيا). وهكذا يساعد أردوغان مضيفه في القفز فوق جدار العقوبات، عبر طريق من حرير، فيما يعد بوتين بالإصرار على تمسّكه بوحدة سورية.

في السياق، لا تبدو مفارقة غريبة أن يجتمع تحت مظلة التعاون مع الروس، حليفهم النظام السوري وحُماته الإيرانيون وميليشياتهم، وخصومهم الأتراك فضلاً عن الإسرائيليين… وكل ذلك على ساحة الحرب السورية التي لا يمكن التكهُّن مبكراً برغبة الإدارة الأميركية الجديدة بعد انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر)، في حسم سريع لخيار أي صفقة تُخمِد نارها وبراكينها.

سمِع أردوغان في سان بطرسبورغ ما يرضيه في معارضة المحاولة الانقلابية، من دون أن يسأله القيصر عن عدد الموقوفين والذين سيحاكمون في إطار «تطهير» الدولة التركية. فلطالما اعتاد القيصر «مدوّنات السلوك» الغربية، وانتقاد نهجه مع معارضيه. الضيف ومضيفه مع الديموقراطية «صناعة محلية»، وأما في الملف السوري فما زالت أنقرة تأمل بضغوط روسية جدّية لإنهاء الحرب، من دون الإصرار على إقصاء الأسد في بداية العملية السياسية التي لم تُفتح عملياً أولى صفحاتها، لأن نظامه ما زال يراهن على سحق المعارضين المقاتلين.

القمة الروسية- التركية ترمّم آخر جدران المصالحة بين القيصر والسلطان، والتي تراقبها إيران باستياء صامت، بعدما اعتبرت أن المياه العكرة بين البحر الأسود والبوسفور تتيح فرصة لها لحرق أوراق تركيا في الحرب السورية.

والمعادلة إذا رست بعد تشرين الثاني على الرباعي الروسي- الأميركي- التركي- الإيراني في رسم خريطة الصفقة «السورية»، هل يبقى هامش لدور عربي في التسوية؟

حلب «معركة كبرى»، لكن الحسم كما يكرر الأميركيون ليس سريعاً ولا وشيكاً. فانتصار أي طرف ممنوع، ولائحة الضحايا مرشحة لأثمان باهظة.

الحياة

 

 

 

 

مصالح موسكو وأنقرة السورية/ وليد شقير

لا تشذ العلاقات الروسية- التركية عن القاعدة التي تتحكم بمسار التعاون أو الافتراق بين سائر الدول في الحوض الشرقي للبحر المتوسط: الموقف الميداني في سورية التي باتت ساحة الاختبارات، والمناورات والضربات العسكرية، والمفاوضات حول مصير هذه البقعة.

فمنذ تدويل الصراع في سورية وعليها، بعد أن أدخل نظام بشار الأسد عن سابق تصور وتصميم إيران وميليشياتها العراقية والأفغانية واللبنانية وروسيا، إلى الميدان لمساعدته على الفتك بشعبه، لأنه قرر عدم التنازل قيد أنملة عن سيطرته الكاملة على السلطة، واستمراره في استبداده بالسوريين، باتت الدول المتدخلة في الملعب السوري تقيس أدوارها بموقعها في هذا الملعب. زاد نجاح هذا المحور في تظهير دور «داعش» وإجرامه من تعقيدات الحرب المفتوحة في الميدان السوري وفي العالم برمته. أيهما له الأولوية، القضاء على الإرهاب أم التخلص من الأسد؟

لا يلغي ذلك البعد الاقتصادي الاستراتيجي لاستعادة العلاقة التركية- الروسية حرارتها التي «ستأخذ وقتاً» كما قال فلاديمير بوتين عند استقباله رجب طيب أردوغان الثلثاء الماضي. فالمصالح المشتركة على هذا الصعيد تقاس بعشرات بلايين الدولارات على صعيدي التبادل التجاري ومشاريع إمدادات النفط والغاز الروسيين، إلى أوروبا، عبر الأنابيب من طريق الأراضي التركية. والدولتان تحتاج إحداهما إلى الأخرى، في ظل الحاجة إلى الأسواق والاستثمارات، أمام ارتباك علاقة كل منهما بالغرب: موسكو بسبب العقوبات عليها بفعل الأزمة الأوكرانية، وأنقرة بسبب تأزم تحالفها مع أوروبا وأميركا عقب الانقلاب الفاشل ضد حزب «العدالة والتنمية».

إلا أن المصالحة بينهما لم تكن لتزيل اختلافهما في سورية. توقع الكثيرون انضمام تركيا إلى التمسك الروسي والإيراني ببقاء بشار الأسد، بحجة تفضيله على «داعش» والإرهابيين، وإلى الموقف السلبي حيال «المعارضة المعتدلة» التي تنسج القيادة التركية تعاوناً استثنائياً معها. لكنها توقعات أقرب إلى الأمنيات منها إلى الواقع، وإلى التبسيط المجافي للجغرافيا السياسية، وللمعادلات الدولية والإقليمية.

فمع حاجة أردوغان إلى موسكو، بعد دورها الاستخباري في إحباط الانقلاب، لإحداث توازن مقابل اضطراب علاقته بالغرب، من الصعب تصور انقلاب في السياسة الخارجية التركية وارتباطها بحلف «الناتو» وبالعلاقة التاريخية مع الولايات المتحدة، بين ليلة وضحاها.

وفي الميدان السوري ثمة عوامل تستبعد ما يمكن وصفه التحاقاً بالسياسة الروسية، لدولة تقوم أهميتها الاستراتيجية على كونها جسراً بين أوروبا وآسيا. ومن هذه العوامل:

1- أن التسليم بالسياسة الروسية في سورية يعني إفقاد أنقرة بوابتها الآسيوية الطبيعية التي كانت وراء إقحامها في الحرب السورية، وتحديداً تحالفها مع المعارضة في حلب. وعليه من السذاجة التصور بأن نجاح الفصائل المسلحة السورية في كسر الحصار الروسي- الإيراني- الأسدي- «الحزب اللهي»، تم من دون المساعدة التركية المباشرة، بالتنسيق مع الدول العربية الداعمة لهذه الفصائل.

2- تدرك موسكو أن دور أنقرة في الشمال السوري احتياطي مساعد على جذب الفصائل المقاتلة إلى طاولة الحل السياسي عندما يحين أوانه. ولهذا منفعة الحد الأدنى إذا كان يصعب عليها جذب العامل التركي إلى سياستها.

3- أن الأهم بالنسبة إلى أردوغان في الميدان السوري، هو السعي إلى تحييد روسيا عن الاتجاه الأميركي إلى تأييد كيان كردي سوري على الحدود التركية. تتقاطع مصلحته في ذلك مع مصلحة الحليف الإيراني لبوتين، ومع انزعاج الأخير من نجاح واشنطن في تنويع مواقع نفوذها في بلاد الشام، عبر رعايتها «قوات سورية الديموقراطية» التي عمادها الميليشيات الكردية، فالمنافسة الأميركية الروسية على هذا النفوذ تحت سقف «التعاون» لمواجهة الإرهاب ورعاية الحل السياسي الموعود، تشتد وتخفت وفقاً لوقائع الميدان.

4- القيصر الروسي يحسب حساباً جوهرياً للحاجة إلى العلاقة الحسنة مع الدول الإسلامية السنية، في مواجهة ارتدادات خوضه الحرب في سورية ضد المعارضة ذات الأكثرية الساحقة السنية، على ملايين المواطنين السنّة الموزعين في بعض جمهوريات الاتحاد الروسي (تتراوح أرقام هؤلاء بين 25 و30 مليوناً)، فضلاً عن أعدادهم في جمهوريات آسيا الوسطى ودول الاتحاد السوفياتي السابق. وبعض هؤلاء يتحدر من القومية التركية الذين اندمجوا بالإمبراطورية الروسية قبل قرون… ويحرص بوتين على تفادي انتشار عدوى التطرف في صفوفهم من طريق هذه العلاقة مع الدول العربية ومع أنقرة أردوغان.

5- أن القيادة الروسية، وتحت سقف التحالف الاستراتيجي مع إيران، تترك مساحة لحاجتها إلى قدر من التوازن في الميدان السوري مع اندفاع الدور الإيراني الذي يخرج في كثير من الأحيان عن حسابات القيصر ويربكه.

الحياة

 

 

 

 

 

السلطان والقيصر في حاجة إلى بعضهما البعض/ راغدة درغام

غيّرت معركة حلب موازين المقايضة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، وجعلت السلطان والقيصر في حاجة متساوية الى بعضهما البعض بعدما كان أردوغان ضعيفاً وبوتين مستقوياً. اختلفت استدارة أردوغان في أعقاب تطورات المعركة في حلب، لذلك بدا بوتين أكثر حذراً بعد استقباله أردوغان في سان بيترسبورغ وأكثر رغبة في التدريجية مقارنة مع ضيفه الذي اكتسب فجأة جرأة الإقدام. الغوريللا التي تزن طنّاً الحاضرة الغائبة في لقاء الرجلين كانت الولايات المتحدة. ذلك أن لا بوتين مستعد للتضحية بكامل العلاقة التنسيقية مع الولايات المتحدة في سورية ولا بالتفاهمات الضمنية معها في أكثر من مكان، ولا أردوغان جاهز فعلاً لرمي موقعه المميز لدى الولايات المتحدة جانباً، مهما لعب أوراقه العلنية التصعيدية لتعزيز موقعه داخلياً في أعقاب محاولة الانقلاب عليه. كلاهما في حاجة الى الحفاظ على خصوصية علاقاته مع الولايات المتحدة، وكلاهما في حاجة الى الآخر لإنقاذه من ذلك المستنقع أو تلك الورطة التي تتربص له في سورية أو في تركيا. لدى أردوغان دور كبير في إنقاذ بوتين من مستنقع يتربص به في حلب، وهناك أصوات ترتفع داخل روسيا تطالب بوتين بوقف النزيف الروسي في سورية والتوصل إلى تفاهمات مع تركيا وإيران والسعودية وغيرها لتنسيق الجهود الديبلوماسية من أجل الحل السياسي بدلاً من الاستنزاف العسكري.

ولدى بوتين دور ينقذ أردوغان من الحصار الإعلامي العالمي عليه ويدعمه وهو يستأثر بالقرار والسلطة داخل تركيا، وذلك عبر البوابة الدولية والإقليمية. لكن المسألة السورية المهمة للقائدين لا تقتصر على الرجلين، بل إن كليهما مقيَّد ومسيَّر بآخرين. فأردوغان ليس من غيّر معايير معركة حلب بمفرده بل إنه نسَّق بالضرورة مع التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ومع دول خليجية. فالسلاح الذي وصل إلى المعارضة السورية أميركي وتمويله خليجي وممره تركي، وهكذا انقلبت المعادلة الميدانية في حلب. أما بوتين، فإن حساباته في حلب لم تنطبق أساساً على الحسابات الإيرانية هناك، إذ إن روسيا ليست جزءاً من طموحات إيران الإقليمية ذات الامتداد المذهبي. عندما كان الانتصار وارداً، غضّت موسكو النظر عن الاختلافات وركّزت على كسب معركة حلب. أما وأن الإمدادات العسكرية للمعارضة باتت واضحة بوضوح الجديد في القرار الأميركي، فإن للموضوع حديثاً آخر تفرضه الساحة العسكرية. الأوراق التفاوضية جزء من الحديث وكذلك المحاور المتضاربة والمتشابكة بين اللاعبين الإقليميين والدوليين.

لنبدأ بالسيناريو الذي يقوم على قراءة التطورات الأخيرة الممتدة من حرب حلب إلى العلاقة الروسية – التركية الجديدة بتفاؤل وإيجابية. يقول المقتنعون بأن الأيام والأسابيع المقبلة ستكشف عن صفقة في شأن سورية، أن تلك الصفقة ستكون روسية – أميركية – تركية، وأن إيران أيضاً لن تعارضها لأنها بدورها تخشى الانزلاق بمفردها إلى ورطة حلب لتكون فيتنامها. أما إذا ارتأت طهران أن الصفقة لا تعجبها، فلن تتوقف موسكو عند رغبات إيران وإنما ستنظر إلى مصالحها في الدرجة الأولى، وفي طليعتها عدم السقوط في مستنقع عسكري في حلب لا سيما على ضوء وضوح الإصرار الغربي – العربي على قلب الموازين العسكرية، أو أقلّه إطالة معركة الاستنزاف.

ما قدّمه أردوغان إلى بوتين في إطار المسألة السورية هو إعلانه أن روسيا أساسية للحل السياسي في سورية. بذلك، أعطى الرئيس التركي روسيا مفتاح حل مشكلة سورية. وهذا تطوّر مهم إذا قيس بالمواقف السابقة التي قامت على استبعاد الآخر وإقصائه عن الحلول السياسية بسبب تباعد الرؤى والغايات. بكلام آخر، لعل أردوغان حمل ضمناً إلى بوتين أن القرار عائد إليه: إما أن يكون قائد الحل السياسي أو أن يكون المسؤول عن التورط العسكري وتبعاته.

تفاصيل الصفقة تكاد تكون بديهية تنطلق من استئناف المفاوضات مع بقاء بشار الأسد في السلطة لفترة موقتة بلا صلاحيات.

واضح أن كلاً من بوتين وأردوغان تعمّد إحاطة المفاوضات في شأن سورية بالسرية وعقداها في حضور كبار أركان الأجهزة الأمنية ووزارة الدفاع إلى جانب وزارة الخارجية. وللأمر أهمية ميدانية وليس فقط تجميلية. ما يقول الطرفان أنهما يلتقيان حول عدم تقسيم سورية، فتركيا تخشى التقسيم خوفاً من بذور نشوء دولة كردية، وروسيا تريد سورية بنظام وجيش كحليف استراتيجي تمون عليه. يلتقيان حول محاربة «داعش» لكنهما يختلفان في شأن تعريف من هي المعارضة التي تقاتل كي تكون طرفاً في التسوية السياسية وتلك التي تنتمي إلى منظمات إرهابية.

كلاهما يتفاهم على دور إيران في أية تفاهمات مستقبلية وتسويات في الشأن السورية ولكل منهما تحفظاته الخاصة به على المشاريع الإيرانية لسورية في إطار التوسع الإقليمي الممتد من العراق إلى سورية إلى لبنان.

كل منهما يريد علاقات، وله علاقات جيدة مع إسرائيل، وهو حريص على أن تكون راضية عما يقوم به داخل سورية وفي المنطقة ككل. بل إن هناك من يتحدث عن نوع من «محور» تنسيق ثلاثي روسي – تركي – إسرائيلي لا يتعارض مع «محور» ثلاثي آخر من التفاهمات قد يبرز في سورية ويضم روسيا وتركيا وإيران. فسورية باتت محطة المناقصات والصفقات.

العنصر الخليجي ليس غائباً عن الساحة السورية، السياسية والميدانية، وما يبرز من «محاور» عابرة أو دائمة للتنسيق أو التفاهم يشمل حالياً تلاقياً أميركياً – خليجياً – أوروبياً على دعم المعارضة السورية على نسق «قوات سورية الديموقرطية» وغيرها لمحاربة «داعش» ولإيقاف زحف النظام في دمشق وحلفائه على حلب ومدن أخرى باتت مصيرية لكل الأطراف. روسيا حريصة أقله شكلياً في العلاقة الروسية – الخليجية على التواصل مع دول مجلس التعاون الخليجي وعبر منتدى التعاون العربي – الروسي الذي يبدو أنه سينعقد في دولة الإمارات السنة المقبلة بعدما كان انعقد في موسكو هذه السنة. لكن المصادر المطلعة في روسيا تقول أن التنسيق يكاد يكون معدوماً بين موسكو والعواصم الخليجية، وأن موسكو غير مرتاحة للموقف الأميركي – الخليجي – الأوروبي وتصعيده الميداني والسياسي وتتهمه بتجميد العملية السياسية.

المصادر الخليجية تقول أن أردوغان ذهب للقاء بوتين مُحصَّناً بعزم خليجي وتحوّل أميركي في معركة حلب، ولذلك كان واثقاً من نفسه. فلقد أدرك أردوغان أن معركة حلب أضعفت بوتين وسلبته بعض الأوراق التفاوضية. أدرك أنه يخاطب صديقه اللدود من موقع قوة ويتحدث من منطلق أن حلب مدينة سنّية كبرى.

فلاديمير بوتين يفهم لغة الواقعية ويتقن لغة البراغماتية. لذلك أدرك بنفسه أن معركة حلب أضعفته، وأن مَن حوله لا يريد التورط في حرب مع السُنَّة في عقر دارهم لتصبح موضع انتقام واسع. بوتين يقرأ جيّداً تفاصيل أهمية العلاقة التي أقامها مع الولايات المتحدة والشراكة التي توصل إليها معها في سورية. فهذه مسائل يُؤخذ حسابها في العلاقات الثنائية وفي المعادلات الدولية.

ربما يجد فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان في حلب موقعاً لحلحلة الوضع في سورية بتفاهمات إقليمية ودولية تفيدهما، فتنقذ بوتين من ورطة سورية وأردوغان من ورطة داخلية في تركيا. ربما يلعبان أوراقهما بحذر ويستفيدان من آفاق المساومة بلا إغراءات الانتقام والابتزاز.

أما إذا عاند بوتين في سورية وقرر الرهان على كسب معركة حلب بشراكة إيرانية لتثبيت النظام فوق الركام من دون تنازلات، فإن الثمن سيكون غالياً لأن ذلك الخيار يدفن الحل السياسي ويجعل الحل العسكري رمالاً متحركة لأقدام الروس وحلفائهم على السواء.

إذا عاند أردوغان وقرر أن في وسعه ابتزاز الولايات المتحدة عبر الممرات إلى المعارضة وابتزاز أوروبا عبر تدفق اللاجئين إليها، فإنه يكون كمَن يطلق النار على قدميه. فهو ما زال هشاً مهما نفخت معركة حلب بريشه واختال أمام الطاووس المكسور الجناح في سان بيترسبورغ. فكل المعادلات في سورية موقتة وكل المساومات عابرة وكل الصفقات تُطبَخ على أشلاء السوريين الأبرياء.

اعتقد بعض الروس، وفق استقرائهم للوضع، أن أردوغان مضطر للانكفاء إقليمياً كي يعزز أوضاعه الداخلية، وبالتالي اعتقدوا أنه سيكون أكثر جاهزية لتنازلات خارجية في مسألة سورية وغيرها. أتت عليهم المفاجأة في معركة حلب فوصل أردوغان للقاء بوتين بعيداً من الانكفاء الإقليمي وأقل جاهزية للموافقة على الشروط الروسية.

هذا لا يختزل حاجة أردوغان إلى بوتين وإصراره على صياغة علاقة جديدة نوعية بين البلدين واستعداده لأكثر من الاعتذار الذي تقدم به. فهو يريد أن يمتلك الأوراق الانتقامية التي يحتاجها في تموضعه مع الأصدقاء الغربيين القدماء الذين يتهمهم بالتآمر عليه، وروسيا تبقى بوابته الرئيسية للثأر عند الاضطرار.

 

 

 

أنقرة وموسكو… صداقة مثمرة

أي فرق تفعله تسعة أشهر وانقلاب فاشل واحد. قبل وقت غير بعيد كانت روسيا وتركيا على شفا حرب محدودة حين رأى كل منهما الأخرى كتهديد مباشر على مصالحها في سوريا. ولم يكن هذا فقط إسقاط طائرة روسية من طراز سوخوي 24 في تشرين الثاني 2015، بعد أن اجتازت هذه الحدود وموت اثنين من العسكريين الروس. كان ايضا تخوف في العواصم الغربية من أن يسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى فحص وحدة حلف الناتو بالهجوم على تركيا، العضو المركزي، وان كان العاق في حلف الدفاع الغربي. في بعض من الدول الأعضاء في الناتو كان خوف من أن تعمد تركيا، في حالة معارك حدودية مع الروس، إلى تفعيل المادة 5 من ميثاق الناتو، والتي تجبر الدول الأخرى في الحلف على الهرع لمساعدتها.

لقد ازيحت هذه الإمكانية عن الطاولة الآن في اعقاب اللقاء بين بوتين والرئيس التركي رجب طيب اردوغان في سان بطرسبورغ. وعاد اردوغان ودعا بوتين «الصديق العزيز» وشكره على دعم روسيا في الأسابيع الأخيرة في أعقاب المحاولة الفاشلة لأجزاء من الجيش التركي خوض انقلاب ضد حكومته. اما بوتين من جهته فوعد برفع العقوبات الاقتصادية التي مست بشدة في فرع السياحة في تركيا، والتي تعتمد غير قليل على المستجمين الروس، وعلى استيراد البضائع الزراعية من تركيا. كما اتفق على استئناف الصفقات الكبرى لتصدير الغاز الروسي ومساعدة الأتراك في بناء مفاعل نووي.

لقد كانت العلاقات بين انقرة وموسكو في ميل تحسن في الأسابيع التي سبقت الانقلاب. ففي نهاية حزيران وافق اردوغان على ارسال كتاب اعتذار لبوتين على إسقاط الطائرة وموت الجنديين، ولكن الانعطافة الدراماتيكية وقعت في أعقاب الانقلاب في 15 تموز، حين سارع بوتين للاتصال والإعلان عن التضامن، قبل وقت طويل من الزعماء الآخرين الحلفاء لتركيا في الناتو. وأمس اجرى اردوغان أول زيارة له خارج تركيا منذ الانقلاب إلى روسيا بالذات.

ولعل الارتباط المفاجىء بين الزعيمين نزع تهديد المواجهة العسكرية بين الدولتين، ولكن هذا ليس بالضرورة أنباء طيبة للغرب. فالعلاقات المتوترة على أي حال بين حكومة اردوغان والقوى العظمى الغربية ساءت في أعقاب الانقلاب الفاشل. كما ان العلاقات بين تركيا والاتحاد الاوروبي تختبر الآن في ضوء حملة التطهيرات التي يعتقل فيها الآلاف، بمن فيهم من قضاة وصحافيين، والخطاب المتصاعد عن اعادة حكم الإعدام. وتنتهك هذه الخطوات التزام تركيا للاتحاد بتعزيز الديمقراطية فيها، كجزء من الحملة التي لا تنتهي نحو قبولها في الاتحاد كعضو عادي.

توتر مشابه يسود مع الناتو، الذي تساهم فيه تركيا بالجيش الثاني في حجمه في الحلف، بعد الولايات المتحدة. لقد امتنعت تركيا في البداية عن التعاون مع الأمريكيين ودول أخرى في الناتو في صراعها ضد داعش، وفي السنة الماضية فقط بدأ هذا يتغير. ولكن حقيقة ان بعض المتآمرين ضد اردوغان استخدموا قاعدة سلاح الجو انجرليك والتي يستخدمها ايضا سلاح الجو الأمريكي للهجمات ضد داعش، واتهام اردوغان ضد الداعية الاسلامي فتح الله غولن، الذي يعيش في الولايات المتحدة، بأنه يقف خلف الانقلاب، أدت كلها إلى اطلاق الاتهامات من جانب اعضاء في حزب اردوغان والإعلام التركي ضد الإدارة الأمريكية، وكأنها أيدت الانقلاب.

ليس مفاجئا في واقع كهذا ان يكون بوتين، الذي يرى في الاتحاد الأوروبي وفي الناتو المنظمتين اللتين تضيقان على خطى روسيا وتهددان سيطرتها في محيطها القريب، الجمهوريات السوفييتية السابقة، فرحا بتصعيد التوتر. فضلا عن ذلك، فإن هذا لا يعني ان تركيا تعتزم الانسحاب من الناتو، الذي منذ بداية الحرب الباردة كان سندها المركزي ضد التدخل الروسي. كما أنها لا تنوي على ما يبدو انهاء محادثات الانضمام للاتحاد الاوروبي. تركيا وروسيا تتشاركان منذ مئات السنين في خصومات اقليمية، وهذا ايضا لن ينقضي في السنوات القريبة القادمة.

بوتين بالطبع هو الراعي المركزي لنظام الاسد في دمشق، والذي اقسم اردوغان على العمل على تغييره. والروس في السنة الأخيرة يتعاونون أيضا ويسلحون المقاتلين الأكراد في سوريا والذين تراهم تركيا إرهابيين. واعترف الزعيمان في اللقاء أمس بأنه تبقى بينهما خلافات في الرأي بالنسبة لسوريا. مصلحتهما المركزية في هذه اللحظة في تحسين العلاقات هي اقتصادية حجم التجارة الكبير بين الدولتين هام جدا لكلتيهما. ولكن في الوقت الحالي، يسر الزعيمين ان يمارسا بعض الضغط على برلين وبروكسل وواشنطن.

القلق الأعمق في الغرب الآن هو ان يكون بوسع اردوغان في كل لحظة ان يفتح السد ويسمح لمئات آلاف اللاجئين، من سوريا ومن دول أخرى مصابة المصير، بالانتقال إلى الحلقة الأضعف في الاتحاد الاوروبي ـ اليونان. اكثر من مليون لاجيء وصل إلى اوروبا في 2015 في الأشهر الأولى من 2016، فيما استخدم قسم كبير منهم المسار البحري القصير بين ازمير وبدرم، على شاطىء بحر ايجا، إلى الجزر اليونانية. وقد هدأ تيار اللاجئين في نيسان فقط حين بدأت الشرطة التركية في اطار اتفاق بين الاتحاد الاوروبي وتركيا على نحو مفاجىء تنفيذ الاعتقالات للمهربين الذين كانوا يعملون بشكل شبه علني في شواطئها الغربية.

تجني مجموعات الجريمة المنظمة في تركيا منذ عشرات السنين الأرباح من مسارات التهريب البحرية إلى اليونان. في الماضي كانوا يهربون المخدرات ولا سيما الهيروين والماريغوانا في افغانستان، عبر إيران، العراق وسوريا، وبعدها من خلال المهربين الأتراك إلى اوروبا. ولكن انتشار داعش، عودة التنظيم السري الكردي ـ حزب العمال الكردستاني، الذي شارك بشكل مركزي في تجارة المخدرات، إلى دائرة القتال ضد تركيا وحالة الحرب العامة في حدود تركيا، مست جدا بتوريد المخدرات. وبالتوازي فتح لجماعات الجريمة أفق دخل جديد ـ تهريب مئات آلاف اللاجئين الذين دفعوا مئات الدولارات على الرأس الواحد في الحملة الخطيرة، في قوارب مطاطية مهترئة، إلى اوروبا، الحملة التي انتهت غير مرة بالغرق.

والى أن عرض الاتحاد الاوروبي على الاتراك 6 مليار يورو لمساعدة اللاجئين الموجودين في نطاقهم واتفاق دخول إلى الاتحاد للمواطنين الأتراك دون حاجة إلى التأشيرة، لم يكن لاردوغان مصلحة حقيقية في الوصول مع الاوروبيين في اطاره تستعيد إلى نطاقها اللاجئين وبشكل غير رسمي تعمل اخيرا على اعتقال المهربين. ولكن الاتفاق لم يوقع بعد، ولا سيما بسبب المعارضة داخل الاتحاد لإزالة التأشيرة عن المواطنين الأتراك. اما اللاجئون في هذه الأثناء فلم يعودوا إلى البحر ولكن في تركيا يوجد حسب تقديرات منظمات الإغاثة نحو 2.2 مليون لاجىء من سوريا، وكثيرون آخرون يدقون بوابات معابر الحدود.

يبقي اردوغان هذا التهديد فوق رأس الاتحاد الاوروبي، وبالأساس فوق رأس المستشارة الالمانية انغيلا ميركل، التي يتهمها نظراؤها في الاتحاد، و قليل من مواطني بلادها بانها تسببت في السنة الأخيرة بتعاظم تيار المهاجرين حين وعدت بان كل من يصل إلى المانيا سيستوعب في نطاقها. ولم تتراجع ميركل عن عرضها، رغم أنها اقل حماسة الآن بكثير مما كان قبل سنة. وفي السنة القادمة ستكون أمام انتخابات، ورغم أنه لا يوجد بعد أي مرشح في المانيا يهدد مكانتها، ففي الوضع السياسي المتفجر في اوروبا الآن، لم يعد ممكنا استبعاد أي شيء.

ليس واضحا اذا كان موضوع اللاجئين طرح في المحادثات المغلقة بين بوتين واردوغان. ولكن لا شك ان الأول سيسعده استئناف تيار اللاجئين إلى اوروبا. وتضخم قنوات الدعاية في الكرملين كل تقرير عن الجريمة من جانب لاجئين في الدول الغربية، ولا سيما المانيا، بل واحيانا تلفق افعالا كهذه. فالتشكيك في مكانة ميركل وخلق توترات أخرى بين اعضاء الاتحاد، المختلفين جدا على أي حال في الشكل الذي يتعين فيه التعاطي مع اللاجئين، يلعب في صالحه فقط.

آنشل بابر

هآرتس 11/8/2016

القدس العربي

 

 

 

لقاء «بوتين» و«أردوغان»: هل تتغير خارطة تحالفات الشرق الأوسط؟/ محمد خالد

أشار تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية إلى أن لقاء الرئيسين الروسي «فلاديمير بوتين» والتركي «رجب طيب أردوغان»، قد يسهم في تغيير التحالفات في منطقة الشرق الأوسط، مشيره إلى أن «القادة الروس والأتراك لديهم مصلحة مشتركة في تأجيج المشاعر المعادية للولايات المتحدة، وأنهما يبحثان عن الفوائد المشتركة من معارضتهما سويا لواشنطن».

التقرير الذي كتبه «آرون ديفيد ميلر» نائب رئيس مركز «وودرو ويلسون» البحثي، وصف لقاء «بوتين» و«أردوغان» أول أمس الثلاثاء، بأنه «يستهدف إظهار التقارب بينهما، بينما هو في النهاية مناورة تكتيكية أكثر منه شراكة استراتيجية».

وتابع: «ولكن سياسات واشنطن، المحبطة تعزز من تحريك عدد من التحالفات التي لم تكن متوقعه سابقا في المنطقة»، بحسب قوله.

ويؤكد الكاتب إن «بوتين يبحث دائما عن فرص لتوسيع النفوذ الروسي، وأن التوتر في العلاقات الأمريكية التركية بعد محاولة انقلاب 15 يوليو/تموز يعطيه فرصة لزرع الشقاق في منظمة حلف شمال الأطلسي، واللعب على توجس أردوغان من واشنطن».

ويؤكد أن بوتين «يسعي لبناء شبكته من الحلفاء لمواجهة الولايات المتحدة، وتركيا هي الصيد الكبير، فهي ثامن أكبر اقتصاد في أوروبا، ويبلغ عدد سكانها مثل ألمانيا، كما أن موقف تركيا ونفوذها يجعل موقفها لا غنى عنه في حسم مسألة سوريا بالنسبة إلى روسيا».

وفي المقابل، يبدو «أردوغان» منزعجا تماما من مواقف الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية بسبب الخلافات حول سوريا، وتعزز انزعاجه وقلقه بسبب موقف إدارة «أوباما» الرافض لنقد الانقلاب ورفضها تسليم «فتح الله كولن».

تقارب سعودي مصري إسرائيلي

وتشير «وول ستريت» أن لعب إدارة «أوباما» دورا غير مباشر في تسهيل توثيق العلاقات المصرية الإسرائيلية، وربط القاهرة والقدس بشكل أوثق مما كانت عليه في أي وقت منذ توقيع معاهدة السلام عام 1979، لتحقيق مصالح مشتركة، مثل منع ظهور الجهاديين في سيناء وتقييد حركة حماس، كجزء من التغييرات في الشرق الأوسط.

ويشير الكاتب إلى أن زيارة وفد سعودي القدس الشهر الماضي واجتماعه مع أعضاء بالكنيست الإسرائيلي ومسؤولين آخرين، عكس أيضا الدفء في العلاقات بين (إسرائيل) والسعودية بعد توتر العلاقات بين الرياض وواشنطن منذ دعم واشنطن لإزاحة الرئيس المصري الأسبق« حسني مبارك» في عام 2011، على خلاف الرغبة السعودية.

أيضا جاء الموقف الأمريكي بشأن الدعوة للإصلاح في البحرين، والاتفاق النووي مع إيران الذي أغضب الخليجيين والاسرائيليين، ليعزز التعاون السعودي الإسرائيلي وراء الكواليس، والتعاون الاستخباراتي لكبح عدوين الرئيسية: إيران والجهاديين السنة.

ويشير التقرير لما قاله الدبلوماسي والأكاديمي السعودي السابق «عبد الله الشمري»، من أن «إسرائيل هي العدو بسبب أصلها، ولكنها ليست عدوا بسبب أفعالها، بينما إيران هي العدو بسبب أفعالها، وليس بسبب أصلها».

المنطقة تتغير

ويؤكد الكاتب إن زيارة الوفد السعودي إلى (إسرائيل)، بصرف النظر عن الموافقة الرسمية، يشير إلى أن المنطقة قد تغيرت، وأنها علامة على كيف تغيرت المفاهيم كثيرا حول دور واشنطن في المنطقة.

ويشير إلى اتهامات توجه للولايات المتحدة بالتخلي عن دورها القيادي، وحلفائها، فيما تبذل مع الخصوم جهودا أفضل، ويؤكد أن «بوتين» يستغل إحجام الولايات المتحدة عن الانخراط بقوة في سوريا، واحباط الحلفاء التقليديين مثل تركيا من الموقف الأمريكي.

المقابل، تحاول (إسرائيل) ودول الخليج زيادة نفوذها وحماية مصالحها من خلال تطوير علاقات أوثق مع بعضها البعض، على الرغم من المخاوف الأمريكية، كما وتقوم السعودية بإجراءات في اليمن بحثا عن مصالحها، أدت مشاركة «بوتين» في حرب سوريا إلى حوار إسرائيلي روسي، كما وجدت (إسرائيل) وتركيا سبيلا لتسوية خلافاتهما بشأن حادثة أسطول الحرية في غزة، وكلها أمور تشير لتغير التحالفات في الشرق الأوسط.

كل هذه الأمور تجعل الجهات الفاعلة الإقليمية في الشرق الأوسط تعتبر أن الغياب الأمريكي حقيقة وقاعة، وتتخذ خطوات مستقلة وتعتبر الولايات المتحدة ليست هي الحل أو المعوق لحل مشاكلهم.

المصدر | الخليج الجديد

 

 

 

 

توافق روسي ـ تركي على «تسوية» للأزمة السورية/ ربى كبّارة

استبق الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وصوله الى روسيا بالاعلان «ان لا حلّ للازمة في سوريا من دون روسيا«. والتقى نظيره فلاديمير بوتين مزودا بعناصر قوة نابعة من مستجدات حلب، ونجاح المعارضة بكسر حصارها، وهو ما كان ليتم من دون سماح أنقرة تزويدها بالمقاتلين والذخائر.

ويوحي فصل الرئيسين ملف تطبيع علاقاتهما عن البحث في سبل التوصل الى «تسوية» للازمة السورية بـ«الجدية» وفق ديبلوماسي لبناني متابع رغم اقرارهما بأن «المقاربات غير متطابقة» حتى الآن. فلهذا الفصل ثلاثة احتمالات: إما دليل على الخلاف، أو عن رغبة في الحل، وإما على الاقل دليل على عمق المباحثات وشموليتها.

فبعد بحثهما مساء الثلاثاء في الازمة السورية، اقتصر ما تسرب عنه على «اتفاق مبدئي» لإيجاد حل مشترك يرضي الطرفين أساسه «ان التحولات الديموقراطية لا يمكن ان تتم الا عبر وسائل ديموقراطية. وأعقب ذلك اعلان وزير الخارجية التركي مولود شاويش اوغلو عن وفد مختص الى روسيا لمواصلة البحث في «التسوية». و»التسوية» تعني وفق المصدر المتابع عن كثب للتطورات التركية «تنازلات» من الجانبين توصلا الى «رؤية مشتركة». وهو ما يذكر بـ«تفاهمات موسكو« التي اقرت منتصف الشهر الماضي بين وزيري الخارجية الاميركي والروسي والتي مازال البحث في تفاصيلها مستمراً في جنيف عبر الخبراء.

وعما في جعبة الرجلين للمقايضة في مسألة «التسوية» يتساءل المصدر عن استعداد موسكو لبيع رأس بشار الأسد مقابل أنبوب يُوصل غازها الى اوروبا عبر تركيا، ويعوّضها عن الانبوب الذي حرمتها منه اوروبا وكان عبر اوكرانيا، وخصوصا أن النقطة الاهم بنظر بوتين هي «استئناف التعاون في مجال الطاقة». وهو لا يستبعد أن يرجأ البحث في المرحلة الراهنة بنقطة الخلاف الاساسية هذه كما جرى في «تفاهمات موسكو» وخصوصا ان اردوغان ما زال متمسكا برحيل الأسد وأن بوتين طالما أعلن ان تمسكه يعني الدولة السورية لا الاسد شخصياً.

ويذكّر المصدر بأن ما يجمع الطرفين في بحث «التسوية» تمسكهما بالحل السلمي وبوحدة الاراضي السورية بما يوفر لأنقرة ضمانات لعدم قيام كانتون كردي سوري على حدودها، وهذا من الاسباب التي تدفعها للحفاظ بكل قواها على حلب خارج سيطرة النظام. وبرأيه فإن اردوغان يؤيد توسع الدور الروسي لأنه يقلّص دور إيران من جهة ودور الاكراد الذين ترعاهم واشنطن من جهة أخرى.

فمعارك حلب أظهرت استحالة الحل العسكري الذي ما زال بشار الاسد، مدعوما من إيران، يسعى اليه. لكن لا واشنطن ولا موسكو ولا أنقرة تريد ان يحقق الاسد انتصارا كاملا لان ذلك يقضي على العملية السياسية التي يتمسكون بها والمكرسة في «بيان جنيف 1« وفي قرار مجلس الامن 2254 .

فالمواضيع ذات الطابع الاقتصادي كانت محور المؤتمر الصحافي الذي عقداه اثر اول اجتماع بينهما بعد ظهر الثلاثاء من مسألة التبادل التجاري الى السياحة الى الاستثمارات الاستراتيجية، وهو ما يساعد فعليا في تحقيق انفراج اقتصادي للطرفين: انقرة التي تعاني بشدة من العقوبات الروسية وموسكو التي ترزح تحت وطأة عقوبات دولية.

وقد انعقدت القمة على وقع اخبار حشودات الطرفين في حلب استعدادا للمنازلة الكبرى. وهي اول زيارة للرئيس التركي بعد محاولة الانقلاب، الذي كان بوتين اول من رحب بفشله، والاولى منذ توتر العلاقات مع روسيا بعد إسقاط المقاتلة الروسية في نوفمبر 2015 وبعد عملية التقارب مع موسكو وتل ابيب. يضاف الى ذلك ما يسود من توتر ما بين تركيا والولايات المتحدة وأوروبا بسبب تمنع الاولى عن تسليم المتهم بالوقوف وراء الانقلاب وانتقادات الثانية لعملية التطهير الواسعة ومقولة الحفاظ على حقوق الانسان وما سبقها من نتائج مسألة النزوح السوري الى الدول الاوروبية عبر تركيا.

 

 

 

 

بوتين: «قيصر» الشرق الأوسط!/ أسعد حيدر

العالم يتغير. الشرق الأوسط في قلب هذا العالم، ومركز التغيير. حاول الرئيس باراك أوباما تجاهل هذا الشرق، فعاد وذكره من سوريا بأهميته وخطورته وخطره على العالم بما فيها الولايات المتحدة الأميركية. تحاول القوى الدولية والإقليمية ألا تغيب لحظة عن كل ما يجري، حتى لا تخسر مقعدها عند التوقيع على الاتفاقات.

في أسبوع واحد، ثلاث قمم: الأولى بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب اردوغان في موسكو. الثانية، قمة باكو الثلاثية بين بوتين وحسن روحاني والهام عليياف. واليوم يلتقي جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني مع نظيره التركي مولود تشاوش أوغلو. كل هذه القمم واللقاءات وما سيستتبعها تُعالج سؤالاً فضفاضاً حول التعاون وتمتين العلاقات الاستراتيجية في ما يشبه مقدمات إنشاء تحالفات واسعة تأخذ في الاعتبار التكامل الاقتصادي والتفاهم السياسي.

سوريا في قلب كل هذه اللقاءات والقمم. مستقبل سوريا، في صلب المباحثات الآنية والمستقبلية. متى عرفت «القطبة السورية» المخفية في التفاهمات عَرف كل طرف موقعه «وحصته» في الاتفاقات النهائية. ما زال على الجميع العمل الجاد والطويل النفس للوصول الى النهاية، كل ذلك يجري على وقع التصعيد العسكري المحتوم. من الآن وحتى تنتهي المفاوضات، تستمر معارك الكرّ والفرّ. من ينتصر اليوم ينهزم غداً والعكس صحيح. في الأساس، ممنوع الانتصار الكامل وممنوع الهزيمة الشاملة. لكن معركة حلب هي أقسى المعارك وأطولها لأن تركيا واردوغان في قلبها. لن تسلم أنقرة حلب لأنه لن تبقى بيدها ورقة تؤكد بها وجودها على طاولة المفاوضات.

ما يحصل من حروب متمددة من حلب الى عدن، ليس الهدف منه حتى الآن تغيير الحدود وإنما تغيير حجم النفوذ. قبل مائة عام رسم اثنان هما سايكس وبيكو حدود البلدان ونفوذ كلٍ من بلديهما فرنسا وانكلترا. اليوم دخلت الدول الإقليمية على مساحة رسم النفوذ. كل واحدة منها تعمل على رفع رصيدها وحدها أو بالشراكة مع القوى الأخرى. تركيا دفعت باتجاه التغيرات الانقلابية، فسارع الآخرون إلى التصعيد لمواجهة التغيرات.

لا شك أن تركيا ما بعد الانقلاب هي غيرها ما قبل الانقلاب. «السلطان» وجد نفسه وحيداً، وحتى لا يندم انقلب على سياسته الخارجية، حتى يأخذ له ولتركيا ويضمن لها وله مواقع تتناسب وحجمها وطموحاته. صالح «القيصر» فلاديمير بوتين وعمل على حماية «خاصرته» الإيرانية وهو يعلم أن الإيرانيين أيضاً بحاجة إليه لحماية إيران في خاصرتيها الضعيفتين في كردستان وبلوشستان الإيرانيتين. وهدد واشنطن بالذهاب بعيداً نحو موسكو وهو يعلم جيداً أنه غير قادر على «الطلاق» لأن زواجه مع واشنطن «كاثوليكي» بينما زواجه مع موسكو سيبقى زواج مصالح.

هذه الحاجة المتبادلة تصوغ العلاقات التركية الإيرانية، رغم عمق الخلاف حول سوريا. في لحظة التوقيعات، ستبقى المصالح القومية العليا لطهران وأنقرة، فوق الخلاف حول مستقبل بشار الأسد. الضمانات المتبادلة المتفاهم عليها دولياً تعوض هذه الخسارة أو تلك. لأنه إذا خسرت إيران الأسد، فإن تركيا مضطرة لتقديم تنازل يتناسب مع التضحية الإيرانية ودائماً بالتفاهم مع «القيصر».

في غياب الموقف الأميركي من الأسد ومن إيران، والاكتفاء ببعض التصريحات المتناقضة بين يوم ويوم. وبعد التسليم بالحل الروسي حول السلاح الكيماوي الأسدي، تمدد فلاديمير بوتين في سوريا وأصبح سيّد القطع والوصل، والربط والحسم في سوريا وعبرها على كامل القرار في الشرق الأوسط. بوتين حالياً هو «قيصر» الشرق الأوسط. وهو سيستمر في ذلك وسيعمل على استثمار كل لحظة في ظل الغياب الأميركي. بلا تردد سيستخدم «القيصر» كل أوراقه وقوته قبل نهاية العام للتوصل الى حل يرضيه في سوريا يثبّت «أقدامه» و»نفوذه» في الشرق الأوسط، مع أخذه في الاعتبار مصالح حليفته إيران، وتفاهماته المتدرجة مع تركيا. أما إذ لم ينجح في هذا، فإنه مضطر لإعادة حساباته مع الرئيس الأميركي الجديد.

واشنطن في العشرين من كانون الثاني من العام القادم، ستكون حكماً غير واشنطن «الأوبامية». هيلاري كلينتون متى انتخبت رئيسة للولايات المتحدة الأميركية، لن تنقلب على السياسة الأوبامية» لتنفيذ سياسة «بوشية»، لكن على الأقل ستعمل على ترك بصماتها على السياسة الأميركية خصوصاً في الملف السوري الذي تعرف تفاصيله غيباً. أما إذا انتخب دونالد ترامب فإن لكل حادث حديث.

مرة أخرى، حتى ولو جرى إغراء «حزب الله» بأنه أصبح «حزباً إقليمياً«، فإنه لن يجلس إلى طاولة المفاوضات. يكفي أن واشنطن لن تقبل به لذلك سيبقى ملتزماً بإيران التي مهما أصرّت على أخذ ضمانات مستقبلية للحزب، فإن لها حسابات تتجاوزه لأنها تتفاوض على ما يتعلق بأمنها القومي.

 

 

 

 

روسيا وتركيا.. أربعة أسباب رئيسية لطي صفحة الخلافات/ عبد الستار قاسم

العامل الاقتصادي

مكافحة الإرهاب

الناتو والدرع الصاروخية

الأزمة السورية

عاد النبض إلى العلاقات الروسية التركية بعد لقاء بوتين أردوغان في سانت بطرسبورغ، وقد أدلى الطرفان بتصريحات توحي بأن العلاقات ستعود إلى وضعها السابق وربما يطرأ عليها مزيد من التحسن.

وقد أثبت قائدا البلدين عقلانيتهما وجنحا إلى اللقاء والحوار بدل تصعيد التوتر ودفع ثمنه، وثمن ما يمكن أن يترتب عليه من أضرار. نظريا، يتحدث العالم عن ضرورة حل المشاكل والخلافات بالحوار والأساليب السلمية، لكن بوتين وأردوغان طبقا ذلك عمليا وبدون تشنج أو اعتداد مفرط بالذات.

العقلانية وحدها لم تكن المحرك الوحيد باتجاه اللقاء وإعادة الحياة إلى العلاقات بين البلدين، بل توفرت العديد من الأسباب التي دفعت قادة البلدين إلى التفاهم، علما أن القيادتين التركية والروسية لم تتبادلا التشنج وأبقتا على مستوى التوتر منخفضا إلى أدنى حد ممكن. هذه الأسباب متنوعة أُدرج أبرزها فيما يلي:

العامل الاقتصادي

خسر الطرفان اقتصاديا نتيجة التوتر فيما بينهما، وأثر ذلك على مستوى الناتج المحلي لكليهما، وعلى أعداد كبيرة من المواطنين الذين تضررت مصالحهم. كان التبادل التجاري فيما بين الطرفين عاليا ومرشحا للارتفاع مع الزمن، وفجأة انخفض هذا التبادل وشحت الأسواق وتضرر المصدرون والمستوردون.

روسيا بحاجة إلى تحسين أوضاعها الاقتصادية بخاصة أن أسعار النفط والغاز لا تسر إلا الدول المستوردة. لقد عانت الميزانية الروسية من نقص في السيولة بسبب هبوط الدخل، وهي بحاجة إلى تطوير العلاقات الاقتصادية مع العديد من الدول لتعويض النقص الناجم عن انخفاض أسعار الخام. وروسيا أيضا بحاجة إلى المضي في بناء خط أنابيب الغاز من جنوبها عبر تركيا ثم إلى أوروبا الجنوبية.

تعي روسيا أهمية هذا الأنبوب، وبدون الموافقة التركية لا يمكن له أن يرى النور، أو قد يراه بتكلفة عالية جدا. وهي مهتمة أيضا ببناء مجمع للطاقة النووية في تركيا مما يفسح لها مجالا لجني أرباح عالية. وروسيا بحاجة إلى العديد من البضائع التركية منخفضة التكلفة مما يسمح للمواطنين الروس بشرائها بارتياح.

أما تركيا فبحاجة إلى تسويق منتجاتها بخاصة الزراعية والتي تمت مقاطعتها من روسيا بعد إسقاط السوخوي. كما أنهاافتقدت أعدادا كبيرة من السياح الروس الذين كانوا يضخون أموالا طائلة للاقتصاد التركي. خلت اسطنبول وأنطاليا إلى حد كبير من السياح الروس، واضمحلت بذلك الصناعة السياحية التركية. وفضلا عن ذلك، تباطأت حركة الطيران بين روسيا وتركيا إلى حد كبير، وتأثرت شركات الطيران المدني. وتركيا تضررت اقتصاديا بسبب تشنج علاقاتها مع عدد من دول الجوار. لقد وسع الرئيس التركي دائرة أعدائه، ودفع بعض الجيران إلى التحفظ على رفع مستوى التبادل التجاري مع تركيا.

خسرت تركيا وروسيا اقتصاديا بسبب سوء العلاقات، وتعرضت حكومتا البلدين إلى ضغوط شعبية لأن أصحاب المصالح من الجمهور كانوا أكثر المتضررين. لقد أثر الضغط الاقتصادي على بوتين وأردوغان، ولم يكن أمامهما من مفر إلا رأب الصدع أو التخفيف منه.

مكافحة الإرهاب

أعلن الطرفان في مؤتمرهما الصحفي المشترك أن مكافحة الإرهاب تشكل أولوية للدولتين، ويجب العمل على القضاء على الإرهاب والإرهابيين. بالنسبة لروسيا، هناك تخوف من انتقال الإرهاب إلى أراضيها بخاصة أن حوالي 15% من سكانها مسلمين، ويمكن أن يتأثر عدد منهم بتنظيرات وسلوكيات التنظيمات الإسلامية المتطرفة وينخرطوا في حملة إرهابية في روسيا. روسيا مهتمة بالقضاء على منابع الإرهاب وتمويله، ومعنية بالتعاون مع مختلف الدول لمواجهته. وفي هذا الأمر، هي بحاجة إلى تركيا لما لها من تأثير على دول آسيا الوسطى التي يمكن أن يأتي الإرهاب من طرفها.

أما تركيا فهي الآن في عين العاصفة الإرهابية، وهناك عمليات عسكرية شبه يومية ضد مواقع مدنية وعسكرية تركية. أصبحت العمليات العسكرية ظاهرة يومية في الحياة التركية، وإذا لم تعالج تركيا مسألة الأكراد فمن المتوقع أن تشتد حملة التفجيرات ضد منشآتها وجنودها ومدنييها. تركيا بحاجة إلى الجهود الروسية لتهدئة الكرد، علما أن روسيا لم تقف ضد مطالب الكرد في الحرية والاستقلال، وإذا حصل الكرد في العراق وسوريا على امتيازات قومية جديدة فإن خطر التقسيم الجغرافي سيمتد إليها.

يمكن أن تؤثر روسيا على النظام السوري من أجل أن يمنع استقلال الشريط الكردي في الشمال السوري الأمر الذي يضعف حزب العمال الكردستاني الفاعل في تركيا. تركيا ستدفع ثمنا باهظا إذا أقدمت روسيا وسوريا على الانتقام منها من خلال تمويل الكرد وتسليحهم بسبب موقفها في سوريا وتأييدها للجماعات المسلحة ورفدها بالعتاد والأفراد. أردوغان، في سياسته الخارجية، لم يترك لنفسه أصدقاء في المنطقة، وبات يتوقع الأذى من أطراف عدة، والأنسب له ولتركيا توجيه سفينة علاقاته الخارجية بطريقة جديدة.

الناتو والدرع الصاروخية

روسيا متوجسة كثيرا من سياسات حلف الأطلسي، وهي تدرك أن الحلف يعمل على إحكام الطوق العسكري والأمني حولها لشلها عسكريا واقتصاديا. الحلف يتمدد نحو حدودها، وهناك محاولات استقطاب لدول شرق أوروبا لتصبح أعضاء في الحلف، كما أن الأميركيين مستمرون في سياستهم العسكرية القاضية بنشر الدرع الصاروخية حول روسيا.

إمكانات روسيا العسكرية والمالية أقل بكثير من إمكانات الولايات المتحدة، وهي لا تستطيع أن تغفل عن مصالحها الأمنية وتتركها للزمن، بل تحاول تمكين جدارها الأمني بتعزيز قدراتها في البحر الأسود وبحر قزوين وشرقي البحر الأبيض المتوسط. التأثير على تركيا يشكل مفتاحا مهما للحصانة الأمنية الروسية. روسيا معنية بإقناع تركيا بعدم المشاركة في الدرع الصاروخية، وتركيا تدرك أن مشاركتها سيجعلها هدفا عسكريا لروسيا.

من الصعب على روسيا إقناع تركيا بمحاولة الابتعاد عن السياسات الأمريكية العسكرية والأمنية، لكن من الممكن أن تقنعها ببعض المماطلة. تقديري أن العلاقات التركية الروسية ستعود إلى مستوى أفضل مما كانت عليه قبل إسقاط السوخوي، لكنها لن تصل إلى درجة العلاقات الإستراتيجية. وفي نفس الوقت، ستشهد العلاقات التركية الأطلسية بعض المماحكات، لكنها لن تنخفض إلى مستوى ما دون الإستراتيجية. علاقات تركيا بالأطلسي ليست معرضة للانهيار، وتركيا ذاتها ما زالت ترى في الأطلسي مظلة حماية وأمان.

أدان بوتين الانقلاب الفاشل الذي جرى في تركيا، وربما كان يهدف من وراء ذلك إلى استمالة الأتراك على حساب الأميركيين وحلف الأطلسي عموما. دول حلف الأطلسي وبالأخص الولايات المتحدة لم تقف بسرعة ضد الانقلاب الفاشل، ووقفت تتفرج على المسرح لترى إلى أين ستؤول الأمور. لم يتأخر بوتين بالإدانة وكأنه أراد إيصال رسالة للأتراك مفادها أن روسيا ليست معنية بتعريض أمن تركيا للخطر، وهي حريصة على استقرارها أكثر من حرص حلف الأطلسي. بوتين ينفي أن نواياه كانت على هذه الشاكلة، لكن أغلب المحللين يرون أن بوتين استغل الموقف.

الأزمة السورية

الموضوع السوري هو الأكثر تعقيدا في العلاقات الروسية التركية. بالنسبة لروسيا، سوريا دولة إقليمية مهمة جدا للوجود الروسي شرقي البحر الأبيض المتوسط، وفي المحيط العربي أيضا. أميركا حاصرت روسيا في البلدان العربية، ولم يتبق لها سوى سوريا لتسهيل حركتها العسكرية في المنطقة، أما روسيا فلم تكن مرتاحة لأداء النظام السوري داخليا، لكنها لا تستطيع التفريط به خوفا من البديل.

مشكلة معارضي النظام السوري أنهم غير قادرين على عمل الحسابات السياسية، وقد دفعوا بالعديد من الأطراف نحو معاداتهم ودعم النظام. علاقة روسيا مع النظام السوري إستراتيجية، وهي علاقة تمتد إلى طهران التي أثبتت وجودها على الساحتين الإقليمية والدولية، وأصبحت تتمتع بقدرات عسكرية لا يستهان بها. البوابة السورية تأذن لروسيا بتشكيل محور قد لا يصل إلى درجة الحلف في المنطقة، ويشكل درعا عسكريا وأمنيا للدول المنضوية فيه.

بالنسبة لتركيا، يشكل الموضوع السوري نشاطا بالوكالة متعلقا بالصراعات الداخلية العربية. من الممكن لتركيا أن تتراجع عن سياساتها تجاه النظام السوري إذا رأت أن الخسائر المترتبة على معاداته أكثر من الأرباح، لكن روسيا لا تستطيع لأن سقوط الأسد قد يؤدي إلى تشديد الحصار الغربي عليها.

ولهذا من الوارد أن تتجاوب تركيا مع المطلب الروسي بضرورة مراقبة الحدود مع سوريا ومنع دخول العتاد والجنود إلى الأراضي السورية. روسيا تدفع ثمنا الآن لدعمها الأسد، وهي ليست متحمسة لتوظيف جزء من ميزانيتها في حروب خارج روسيا. تركيا ستتفهم هذا الأمر، لكنها ستطالب روسيا بالتوقف عن الصمت إزاء نشاطات الكرد والعمليات العسكرية التي ينفذونها ضد أهداف تركية. أي أن المسألة ستخضع للمقايضة. جزء من هذه المقايضة يتضمن ضغطا روسيا على النظام السوري كي لا يقدم دعما للأكراد. ومن المتوقع أن يتضمن الطلب التركي عدم تشجيع روسيا إقامة دولة كردية.

 

 

 

إردوغان في الكرملين/ عبد الرحمن الراشد

كان عسيرًا على البعض أن يتقبل مصافحة الرئيس الطيب رجب إردوغان لخصمه الرئيس فلاديمير بوتين، وأن تتصالح تركيا مع روسيا وأن تحيل طلبها للتطبيع مع إسرائيل على البرلمان لإقراره، ولهذا السبب انتقدوه. الأمر صعب فقط على الذين لا يفرقون بين الديانة والسياسة، فالدول تحكم علاقاتها ببعضها قواعد أخلاقية مختلفة عن البشر، حيث تعلو فيها المصالح على المبادئ.

ولا بد أن الرئيس التركي رأى حاجة بلاده للتقارب مع روسيا وغيرها بعد أن تردت العلاقة وصار الوضع خطيرًا. فقد أصبح الأكراد الأتراك الانفصاليون يهددون سلامة تركيا ووحدتها، ومزيد من اللاجئين السوريين على بوابات حدودها، ونجح تنظيم داعش في الوصول إلى قلب أنقرة وإسطنبول. ومؤخرا، هزت محاولة انقلابية أركان البلاد. اقتصاديا، روسيا تؤثر على سوق تركيا، فمنذ أن قاطع أربعة ملايين سائح روسي، عادة يأتون كل عام، صارت المرافق السياحية التركية خاوية، ويشكلون ثاني أكبر مصدر للسياحة، إضافة إلى انقطاع سياح إيران، وعددهم مليون ونصف سنويًا، وفقدت الليرة التركية جزءًا من قيمتها.

هذه من الدوافع التي جعلت الحكومة التركية تتجه نحو موسكو، وليس صحيحًا أن الزيارة سببها محاولة الانقلاب، ولا هي ردة فعل متعجلة من أنقرة، بل جزء من ترتيبات بدأت قبل ذلك، عندما أعلن رئيس الوزراء الجديد أن الحكومة تنوي إنهاء خلافاتها مع كل الدول، بما فيها اليونان وروسيا وإسرائيل وإيران. أيضًا، ليس معقولاً ما قيل إن أنقرة اضطرت للتصالح مع موسكو خوفًا من اعتداء روسي محتمل، فتركيا دولة عضو في حلف الناتو العسكري الذي يتعهد بالدفاع المشترك بين الدول الأعضاء من أي عدوان عليها.

ولا يمكن إغفال الاعتبارات الاستراتيجية للدولة التركية التي تطمح لأن تصبح ممر الغاز الروسي إلى أوروبا، وكان على قائمة محادثات الرئيسين في موسكو، واتفقا على نصف المشروع، ممر واحد. مع أني أستبعد مد أنابيب الغاز الروسية إلى أوروبا في المرحلة الحالية، نظرًا لأنه سيكون بديلاً وسيكسر الحصار الغربي المفروض على الغاز الروسي الممنوع من النقل عبر الأراضي الأوكرانية. وفي حال زاد التوتر بين الروس والأميركيين فإن مصالح تركيا مع الغرب أكبر بكثير من مصالحها مع روسيا.

التفسير المعقول الوحيد للتقارب مع خصومه، أن إردوغان يريد تعزيز موقعه التفاوضي، وتقليل مخاطر الصراعات الدولية والإقليمية على بلاده. ولا بد أنه يأمل في حل سلمي في سوريا يتم تنفيذه لاحقًا، والأرجح بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث من المستبعد أن يغير الرئيس الأميركي الحالي موقفه. ما سبق عددتُه أسبابا كثيرة تبرر التقارب التركي مع عدد من خصومها من منظور العلاقات الدولية.

وبالعودة إلى إشكالية التوفيق بين المواقف التركية المتناقضة، مثل مواجهة تركيا لروسيا في سوريا وتوقيع اتفاقيات التعاون معها في الكرملين، فإن هذه طبيعة العمل السياسي. قد لا يفهمها من يعتبر السياسة عقيدة، يحلل فيها ويحرم. إردوغان يريد تقليص المسافة مع الروس، وإن لم يفلح معهم في سوريا فإنه على الأقل يخدم تركيا في مجالات أخرى. وهذا ينطبق على إعادة الاتصالات والتطبيع مع إسرائيل، وتعزيز العلاقة مع إيران التي كانت أكثر حماسًا للاستجابة للرسائل التركية. ووفق هذا المفهوم يفترض أن نقيس بقية العلاقات الثنائية بين دول المنطقة، رغم العداوات والثارات. ما فعله إردوغان سبقه إليه زعماء المنطقة، في المبررات المنطقية نفسها لخدمة مصالح دولهم.

أما الذين اضطربت قدرتهم على فهم التطورات الأخيرة فلأنهم رسموا في مخيلتهم تركيا المثالية، خارج قواعد العمل الدبلوماسي ومصالح الدول. تركيا، باعتبارها دولة إقليمية كبرى، لها مصالحها وعندها مخاوفها، وما فعله إردوغان من تصالحات مع روسيا وإيران وإسرائيل ينم عن شجاعة سياسية رغم حرصه على صورته وشعبيته عند الشارع التركي والعربي. وما تجرأ على فعله إردوغان يفترض أن تمارسه دولنا، لأنه طبيعي جدًا أن تقوم لنا علاقات مع الأعداء وتوقع معهم اتفاقيات عندما تفرضها الضرورات أو المصالح العليا، خصوصا الآن حيث نعايش مرحلة تبدلات متعددة.

أخيرًا هل سيؤثر التقارب التركي الروسي الإيراني على مستقبل الحل القريب في سوريا؟ أستبعد ذلك، لأن الوضع على الأرض لم يعد تحت سيطرتهم.

* نقلا عن “الشرق الأوسط”

 

 

 

أردوغان وبوتين والأسد بينهما/ خالد الدخيل

في ليلة 15 تموز (يوليو) الماضي، عندما انتشرت أخبار محاولة الانقلاب العسكري في تركيا، كان الرئيس السوري بشار الأسد الأكثر متابعة من غيره لمسار هذا الحدث الكبير، والأكثر قلقاً على مصيره. كان يتمنى نجاح الانقلاب أملاً في أنه سينقل تركيا من موقف المناهض لحكمه إلى الحليف الذي يرى في بقائه منطلقاً للحل السياسي المنشود. تبعاً لذلك، مع تتابع أخبار فشل الانقلاب، أصبح السوري من أكثر الذين أصيبوا بالخيبة والإحباط. لا ينافسه في هذا الشعور إلا من تورطوا في المحاولة ذاتها. ليس مهماً رأينا في موقف الرئيس السوري. الأكثر أهمية هو ما يؤشر إليه، وما يؤشر إليه يضاف إلى مؤشرات أهم وأكبر وزناً من أن الأسد فقد السيطرة على مستقبله السياسي، وأن الثورة السورية التي بدأت سلمية وانتهت إلى حرب أهلية وضعت بالفعل حداً لهذا المستقبل. والمفارقة هنا أن الأسد هو من دفع الثورة إلى هذا المسار منذ يومها الأول، أملاً في أن يردع هذا المتظاهرين تفادياً للمآل الذي انتهى إليه غيره ممن واجهوا الحالة ذاتها.

استعان الأسد بالإيرانيين، ثم بـ «حزب الله» اللبناني، وبميليشيات أخرى جلبتها إيران من العراق وأفغانستان، وتبين أن هذا لم يضف شيئاً لحصانة النظام. جاء التدخل العسكري الروسي في أيلول (سبتمبر) الماضي، لكنه فشل أيضاً عند أسوار مدينة حلب. كل هذه الانتكاسات كانت تحصل بالتتالي على رغم الانكفاء الأميركي، واقتصار دور واشنطن في سورية في شكل رئيس على محاربة تنظيم «الدولة» (داعش)، أو ما يفترض أنه أحد أقوى خصوم نظام الأسد. الواقع أن واشنطن تقدم بهذا خدمة، ليست مقصودة على الأرجح، للرئيس السوري، لكن الرئيس غير قادر على توظيفها والاستفادة منها.

صورة الوضع السوري على هذا النحو تقول إن مستقبل بشار الأسد بات خارج سيطرته، ومرتهناً لحسابات ومصالح أطراف كثيرة تقع خارج سورية، بما في ذلك الميليشيات التي تحارب معه، والمعارضة التي تحاربه بكل أطيافها، حتى الجيش السوري لم يعد قادراً على حماية مستقبل الرئيس. تفكك هذا الجيش تحت وطأة الحرب الأهلية، والانكسارات التي تعرض لها، والانشقاقات الكبيرة التي مني بها (يقال إن حجم المنشقين يراوح بين 30 ألفاً و50 ألفاً من الضباط والجنود)، وتدخلات الإيرانيين والميليشيات. أصبح الجيش السوري أقرب للميليشيات عمّا كان عليه قبل الثورة.

ماذا عن موقف الشعب السوري؟ لو كان الأسد يؤمن بأن الشعب السوري هو مرتكز حصانته لما سارع إلى الحل الأمني ابتداءً، ولما فرض على الجيش الاصطدام بالنار مع هذا الشعب، ولما تبنى خيار تدمير الأحياء والمدن، ولما استهان بقتل الناس وتهجيرهم بالملايين، ولما شكّل ميليشيات الشبيحة من الطائفة التي ينتمي إليها، ولما استعان بالإيرانيين وميليشياتهم، ثم بالروس. فعل كل ذلك للبقاء في الحكم. الحقيقة أن موقف بشار الأسد صعب جداً، كما خياراته. هو أول وريث لوالده فيما يبدو أنه كان مشروع سلالة حكم في الشام. لكنه في الوقت نفسه أول من غامر وفرّط بهذا الإرث والسلالة وهي في بداياتها. كيف له أن يتخلص من ظلال فشل بهذا الحجم؟

قارن هذا مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. الأول خصم عنيد للأسد، والثاني حليف للأسد. أردوغان استعاد على خلفية فشل الانقلاب الكثير من الدعم الشعبي، والفسحة أمام خياراته السياسية. من الواضح أن الرجل يتطلع إلى إعادة تأسيس النظام السياسي التركي بعيداً من إرث المؤسس الأول كمال أتاتورك. السؤال: ما هي طبيعة النظام الذي يطمح إليه أردوغان؟ هل هو ديموقراطي تعددي، يتأسس على علمانية بصيغة تختلف عن علمانية أتاتورك؟ أم أنه نظام إسلامي يأتي على التعددية والعلمانية معاً؟ بوتين حقق لروسيا في سورية، ومن خلال بشار الأسد، ما كانت تفتقده قبل الثورة السورية. تمكن من انتزاع ورقة تفويض من الرئيس الأميركي باراك أوباما، بالإمساك بالملف السوري، وبالتالي عودة روسيا كطرف في تحديد مستقبل المنطقة. بعبارة أخرى، يمسك كل من أردوغان وبوتين بمستقبلهما السياسي، ومستقبل بلديهما ودور كل منهما في التحولات التي تنتظر المنطقة، وهذا على عكس الحال التي انتهى إليها بشار الأسد، لكن ما يقلق الأخير ليس هذا، ما يقلقه هو عودة العلاقة بين حليفه الروسي وخصمه التركي، وما ستتمخض عنه هذه العودة في ما يتعلق بمستقبله السياسي.

آفاق هذه العودة تبدو واسعة وتشمل مختلف المستويات السياسية والاقتصادية، ومستقبل الأسد هو عقدة الخلاف الرئيسة بينهما، وما يزيد من قلق الأسد هو مسارعة حليفه الآخر، وإن كان الأقل أهمية، إيران، إلى شجب الانقلاب على أردوغان، وإلى التقارب معه بعد فشل الانقلاب ونجاح قمته مع بوتين في بيترسبورغ الروسية.

هدف إيران هو محاولة إقناع أنقرة بتشكيل تحالف روسي – تركي – إيراني بعيداً من خصوم طهران، بخاصة السعودية، يكون وازناً لمصلحة بقاء الأسد. لكن الأخير يعرف بأن إيران هي الوحيدة التي تتمسك ببقائه، كما يعرف أن قبول تركيا بالمقترح الإيراني يعني تقييد تحالفاتها الغربية والإقليمية، وبالتالي تقليص خياراتها في سورية، وربما يعرف أكثر من الإيرانيين أن الدور الروسي في سورية مرتبط بشروط وحدود التفاهم مع واشنطن، الذي على أساسه سلمت بهذا الدور. يضاف إلى ذلك أن احتمالات وصول هيلاري كلينتون للبيت الأبيض بدأت تتعزز أخيراً بدرجة كبيرة، ما ينبئ بتغير في السياسة الأميركية تجاه المنطقة بعيداً من الانكفاء الذي تتبناه إدارة أوباما حالياً، وهذا ليس في مصلحة بقاء التفويض لروسيا كما هو عليه الآن، ولا لخيار بقاء الأسد. يعرف الأسد أيضاً أن الانعطافة التركية نحو روسيا وإسرائيل أدخلت ديناميكية جديدة على الصراع، وتعززت هذه الديناميكية أكثر لمصلحة أنقرة بعد فشل الانقلاب والالتفاف الشعبي ضده.

لا تستطيع أنقرة الاصطدام مع روسيا مرة أخرى، لكنها لا تستطيع التفريط بمكاسبها أيضاً. التسليم ببقاء الأسد يعني تعزيز الوجود الإيراني في سورية، وتآكل تلك المكاسب. وإذا كان هناك اتفاق على حل سياسي في سورية، وعلى المحافظة على مؤسسات الدولة، فإن أهمية مستقبل الأسد لمصلحة هذا الحل تتآكل مع الوقت وتطور الأحداث، وهو ما يفرض تنازلات متبادلة. لا تملك تركيا رفض الوجود الروسي في سورية، لكن تجاور هذا الوجود مع وجود إيراني، وبقاء الأسد سيكون على حسابها. وفي كل ذلك يبقى الأسد ورقة تفاوضية في يد الآخرين.

* كاتب وأكاديمي سعودي

الحياة

 

 

 

 

 

أردوغان إذ يستوعب التجربة الكماليّة وعنفوانها/ حسن شامي

غداة كشف محاولة انقلابية لإطاحة الحكومة التركية واعتقال المخططين لها، وسط دعوات وضغوط صادرة عن مراكز دولية، مالية وسياسية، إلى تجنب إعدامهم، قال زعيم تركي بارز استهدفه الانقلابيون العبارات التالية: «لقد نجحتُ في استمالة الجيش. ونجحتُ في السيطرة على البلد. ووضعتُ يدي على السلطة. ألن يكون مسموحاً لي أن أظفر بقلوب شعبي؟ الرجال الذين هلكوا هذه الليلة سعوا إلى منعي من ذلك. كانوا يريدون أن يفصلوا بيني وبين سبب حياتي الوحيد: الشعب التركي. لقد أسقطتُ رؤوسهم وسأفعل ذلك كلما حاول البعض أن يقف بين الشعب وبيني. فليعلم القاصي والداني أنني أنا تركيا. السعي الى تدميري سعي الى تدمير تركيا نفسها. فهي بواسطتي تتنفس وأنا بواسطتها أحيا وأكون. لقد سالت دماء وكان ذلك ضرورياً. […]. أريد أن يعيش أثر إنجازاتي بعد رحيلي. ينبغي على كل حركة كبيرة أن تضرب بجذورها في أعماق روح الشعب: فهنا نجد المنبع الأصلي لكل قوة ولكل عظمة. خارج ذلك لا يوجد سوى أنقاض وغبار…».

قد يظن كثر أنّ صاحب هذه العبارات هو، واقعياً أو افتراضياً، الرئيس التركي الحالي الذي نجا قبل أقل من شهر من محاولة انقلاب فاشلة: رجب طيب أردوغان. والحال أن هذه العبارات التي أثارت لدى النواب الحاضرين الإعجاب والخوف في آن، قيلت أمام مجلس النواب التركي يوم 8 آب (أغسطس) 1926، أي بعد عامين أو ثلاثة على تأسيس الجمهورية العلمانية وإلغاء الخلافة والسلطنة، وصاحبها مصطفى كمال أتاتورك. المقارنة بين حالتين تفصل بينهما تسعة عقود من السنين الحافلة بالتغيرات والتقلبات، لا تهدف إلى استخراج موعظة أدبية من نوع «ما أشبه اليوم بالأمس». كما لا تهدف إلى تثبيت موعظة تحليلية مفادها أن بنية علاقات السلطة والمجتمع الموروثة عن الحقبة الأتاتوركية وحروبها الداخلية والخارجية الكثيرة، ما زالت فاعلة تحت قشرة التحولات التاريخية والاجتماعية التي عرفتها تركيا الكمالية، والتي يرقى قسم منها إلى الحقبة العثمانية منذ القضاء على الانكشارية وتدشين مرحلة الإصلاحات التحديثية المتقطعة المعروفة بالتنظيمات.

مع ذلك، تبدو المقارنة جائزة ولا تعدم وجوه شبه ودلالات تسمح بتشخيصات شائعة من نوع أن الأردوغانية ونزعتها الشخصانية السلطوية هي أتاتوركية مقلوبة وإن بمرجعية مختلفة. لكن نجاح المقارنة يفترض، قبل كل شيء، التخفف من ثقل الإنشاء الخطابي الشائع عربياً في وسائل الإعلام ومواقع التواصل. فقد طغى عموماً نزوع انفعالي يقارب قضية الانقلاب الفاشل على أردوغان وفق ثنائية «الولاء والبراء»، التأييد الأعمى والشماتة البلهاء. وأفصح هذا السلوك الدعوي والعصبي عن مدى تراجع الحس النقدي المستقل ومدى الانقياد خلف أهواء الفسطاطين الأبديين الشائعين في أدبيات السلفيات الجهادية وما يشبهها.

الرؤوس التي أسقطها مصطفى كمال قبيل إلقائه خطابه «التاريخي» الرهيب، هي رؤوس مجموعة من رفاق الدرب والسلاح بعد ثبوت تورطهم في السعي إلى إطاحته. وتقول روايات تاريخية متداولة إن الرأس المدبر كان مسؤول المالية السابق في جمعية الاتحاد والترقي ديفيد باشا، اليهودي الأصل وصاحب الصلات الواسعة والنافذة بمراكز مالية دولية. وهي هذه المراكز والمصارف النافذة مثل روتشيلد وساسون، إضافة إلى حكومات غربية، من طالب بالعفو عن الانقلابيين وخصوصاً رئيسهم الطامح إلى فتح تركيا على الاستثمارات المالية الخارجية. هذه التدخلات رسخت قناعة أتاتورك بوجود قوى خارجية تسعى إلى قضم الجمهورية الناشئة من الداخل لتجويف استقلالها وسيادتها. فهو كان يرفض رفضاً قاطعاً مثل هذا التغلغل، معتبراً أن «الدَين العثماني» وغباء السلاطين واستداناتهم وشل قدرة تركيا، من أبرز أسباب انهيار السلطنة. وكان قد استوحى برنامجه الاقتصادي من الخطط الخمسية السوفياتية، وراح يحضّ على نشوء رأسمــالية وطنية ومصارف محلية ومضاعفة الإنتاج وبناء البنى التحتية بأيد تركية. ومع أن القرابة الأيديولوجية والعقائدية مع السوفيات كانت معدومة، فإن الرجل لم يجد غضاضة في التقارب والتعاون مع البلاشفة الســـوفيات واستلهام تجربتهم في مجال الاقتصاد الموجه وتحديث الإنتاج والتركيز على القوى العاملة المحلية.

واتهم أردوغان حليفه السابق فتح الله غولن وشبكته الواسعة بالوقوف خلف الانقلاب. ورأى في غموض الموقف الأميركي والأوروبي في بداية الانقلاب، ما يكفي للارتياب والغضب الملجوم. لا نعلم ما إذا كان أردوغان قد عرف بالمخطط وانتهز فرصة تنفيذه لتصفية حساباته مع خصومه وشن حملة تطهير واسعة في كل القطاعات تقريباً. اللوائح الجاهزة والمتضمنة عشرات آلاف الأسماء ممن أطلق عليهم اسم «الكيان الموازي»، تشي بوجود نوايا مبيتة حيالهم. والحق أن التباس التعاطي الأميركي والغربي عموماً مع محاولة الانقلاب، يستدعي المساءلة. فانتقاد الســلوك السلطوي المتزايد لأردوغان شيء وغض النظر عن محاولة انقلابية ضد حكومة منتخبة ديموقراطياً وفي دولة عضو في حلف الأطلسي شيء آخر.

من المؤكد أن أردوغان وطبقة البرجوازية المتدينة الناشطة عبر حزب العدالة والتنمية ورثا من الأتاتوركية الكمالية نزعة استقلالية وسيادية قد تقود أحياناً، في ظل نزاعات دولية وإقليمية وداخلية معقدة ومتشابكة، إلى المخاطرة واللعب على حافة الهاوية. من المؤكد، في المقابل، أن نجاح الانقلاب كان سيفضي إلى حرب أهلية تضاف إلى الحرب الدائرة مع الأكراد.

لا ينبغي أن نستغرب إذاً سعي أردوغان إلى تطبيع العلاقات مع روسيا البوتينية، وإن كان الملف السوري ومصير بشار الأسد نقطتي خلاف كبير. وقد تزايدت أخيراً، التصريحات المتحدثة عن آلية مشتركة وعن تقارب في المواقف وتنسيق العمل ضد «داعش» ومن أجل التوصل إلى حل للمعضلة السورية. في المقابل، ترتفع لهجة الحكومة التركية حيال أميركا والاتحاد الأوروبي في قضية تسليم غولن وملف العلاقات الشائكة بين تركيا وأوروبا. هناك فارق كبير بين أردوغان وأتاتورك يتعلق بتعريف «أعماق روح الشعب» التركي. فالذئب الرمادي المتأثر بأدبيات القوميات الغربية الحديثة اعتبر أن مستقبل تركيا يقتضي قطع الصلة مع الماضي العثماني القريب والذهاب إلى الجذر العرقي السحيق، وهذا ما يهمش مواقع جماعات كثيرة مثل الأرمن والأكراد واليونانيين، وقد حاربهم أتاتورك وفتك بهم. أردوغان وحزبه يعولان بالعكس على الاستمرارية العثمانية والإسلامية ضمن الوطنية التركية الكمالية.

الحياة

 

 

 

أردوغان ومعركة منبج/ الياس حرفوش

حققت «قوات سورية الديموقراطية»، بدعم أميركي، انتصاراً كبيراً على تنظيم «داعش» في مدينة منبج، يوازي في حجمه وأثره على مستقبل التنظيم الإرهابي في سورية، الخسارة التي تعرض لها في العام الماضي في تل أبيض وكوباني (عين العرب)، على يد المقاتلين الأكراد، وبدعم كذلك من سلاح الجو الأميركي.

خسارة منبج تعني عملياً، بالنسبة الى «داعش»، أن طرق إمداداته الى الرقة، «عاصمته» في سورية، أصبحت مقطوعة، كما أن طرق وصول مقاتليه عبر الحدود التركية ما عادت متاحة. وسيكون صعباً على التنظيم تعويض هذه الخسارة، من الناحية الاستراتيجية، إلا في حالة انقلاب كبير في موازين القوى لمصلحته، يصعب تصور حصوله في ظل المعطيات الحالية.

انتصار «قوات سورية الديموقراطية» في منبج، يعني أنها أصبحت رقماً صعباً في أي ترتيب مقبل للوضع في سورية. كما أصبحت رقماً صعباً بالنسبة الى رجب طيب أردوغان والحرب التي يخوضها مع الأكراد، في بلاده وخارجها. فإذا كانت الأزمة السورية قد استأثرت بالاهتمام من قبل المثلث التركي – الإيراني – الروسي، خلال لقاءات هذا الأسبوع في موسكو وانقرة، فإن التطورات الميدانية جاءت تعاكس أحلام ومشاريع المثلث المذكور، وخصوصاً ما يتصل بما ذكر عن تفاهم تركي- إيراني على مواجهة التنظيمات الكردية في شمال سورية، وعن حرص روسي- تركي- إيراني على دعم «وحدة الأراضي السورية»، الذي صار شعاراً يخفي شكوكاً في جديته أكثر مما يعلن ثقة في إمكان المحافظة عليه.

ففي ما يتعلق بالوضع الكردي على الحدود السورية التركية، يعني انتصار منبج تكريساً لنفوذ القوات الكردية هناك، على عكس ما تشتهي أنقرة، التي تنظر الى كل التنظيمات والأحزاب الكردية، في داخل تركيا وخارجها، على انها فصائل تابعة لـ «حزب العمال الكردستاني». أما في ما يتصل بوحدة الأراضي السورية، فقد صار صعباً ضمان هذه الوحدة في ظل النظام الحالي، وعلى عكس ما تأمله موسكو وطهران، وما تحاولان إقناع أردوغان به، بعدما أخذ يبديه من انقلاب على مواقفه السابقة في شأن ضرورة رحيل بشار الأسد عن الحكم كشرط لإنهاء الحرب السورية.

غير أن الأهم من هذا وذاك، هو أن الحرب على «داعش» خرجت من يد ورعاية أطراف المثلث الروسي- التركي- الإيراني، هذا إذا كانت هذه الأطراف جادة أساساً في هذه الحرب. فسواء في منبج أو قبلها في حلب، كان الفضل في المكاسب التي حققتها المعارضة للولايات المتحدة من خلال دعمها الأطراف التي تتقدم على الأرض على حساب «داعش».

يطرح كل هذا سؤالاً عن موقع الرئيس التركي من الحرب على التنظيم الإرهابي، بعد التحولات الأخيرة في تحالفاته، والتقارب الظاهر مع كل من موسكو وطهران، كرد فعل انتقامي على المواقف الغربية من الانقلاب العسكري الفاشل. فإذا كان «داعش» قد نما وترعرع في ظل النظام السوري، ليخدم نظرية «مواجهة الإرهاب» التي رفعها هذا النظام شعاراً لتبرير قمع المعارضة، منذ الأيام الأولى للثورة عليه، فإن من الصعب أن تُحمل على محمل الجدّ أي محاولة للقضاء على هذا التنظيم من خلال التحالف مع الجهات التي كانت سبباً في قيامه ونموه، الى أن تحوّل الى الخطر الذي يشكله اليوم على المنطقة وعلى العالم بأسره.

خلاصة القول، إن أردوغان لا يستطيع أن يكون في أحضان حلفاء الأسد، وفي الوقت ذاته معارضاً لبقائه في الحكم، كما لا يستطيع أن يكون في حرب مع «داعش» (كما يقول) ومع من يحاربون «داعش» في الوقت ذاته. ولا تكفي حجة الانقلاب الفاشل لتفسير كل هذه التناقضات.

الحياة

 

 

 

مثلث المصالح التركية الروسية: المشاريع الإستراتيجية والأزمة السورية والضغط على الغرب/ إسماعيل جمال

إسطنبول ـ «القدس العربي»: انطلاقاً من أن المصالح وليس المبادئ هي من تحكم العلاقات بين الدول في هذا العصر، وفي ظل انعدام ثقة تركيا بأمريكا وأوروبا، تبدو روسيا الخيار الأول لتركيا في هذه الفترة الحساسة التي تمر بها البلاد لتحقيق العديد من الأهداف الداخلية والخارجية خلال المرحلة المقبلة، يقول كاتب تركي.

هذه الكلمات تتوافق إلى حد كبير مع التصريحات الصادرة عن الجانبين الروسي والتركي، خلال الأيام الماضية التي شهدت لقاء هاماً بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، وذلك تتويجاً لاتفاق إعادة تطبيع العلاقات بين البلدين والتي تدهورت عقب إسقاط طائرات حربية تركية مقاتلة روسية نهاية العام الماضي الأمر الذي أدى إلى تراجع العلاقات بينهما إلى مستوى غير مسبوق.

المصالح المشتركة وعلى الرغم من كونها متعددة ومتشابكة يمكن تصنفيها إلى ثلاثة أقسام تتمثل في: «المشاريع الإستراتيجية» المتعلقة بالغاز الطبيعي والطاقة النووية، و»الأزمة السورية» ومحاولة التعاون لحماية مصالح البلدين، و»الضغط على الغرب» وهو القاسم المشترك الذي بات يجمع أنقرة وموسكو أكثر من أي وقت مضى.

المشاريع الإستراتيجية

تدهور العلاقات بين البلدين أدى إلى تراجع غير مسبوق في مستوى التبادل التجاري بينهما، وإلى إلحاق خسائر فادحة في اقتصاد البلدين، وبينما تلقى قطاع السياحة التركي ضربة قاتلة بعد وقف السياحة الروسية، عانت روسيا بشكل غير مسبوق من نقص الخضار والفواكه التي كانت تستوردها من تركيا.

وعلى الرغم من اتفاق الجانبين على إعادة العلاقات الاقتصادية والتجارية إلى ما كانت عليه قبل تدهور العلاقات، والعمل على رفع مستوى التبادل التجاري إلى 100 مليار دولار سنوياً، إلا أن المشاريع الإستراتيجية بين البلدين تبدو الأهم من ذلك، وهو ما أخذ حيزاً كبيراً من مباحثات الزعيمين في روسيا، الثلاثاء الماضي.

ففي ظل الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الاقتصاد الروسي نتيجة العقوبات الغربية وتراجع أسعار النفط، تولي موسكو أهمية بالغة لمشروع نقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر تركيا «مشروع السيل التركي»، وهو المشروع الذي توقف مع تدهور العلاقات مع أنقرة.

وقال أردوغان انه يريد الآن أن ينفذ مشروع تركستريم «بالسرعة الممكنة» بينما قال بوتين إن العمل في المشروع قد يبدأ «في المستقبل القريب»، ولاحقاً حدّدت الحكومة الروسية، النصف الثاني من عام 2019 موعدًا للبدء بالمشروع الذي جاءت فكرته عقب إلغاء مشروع خط أنابيب «السيل الجنوبي» أو «ساوث ستريم»، الذي كان ينبغي أن يمر تحت البحر الأسود وعبر بلغاريا لتوريد الغاز إلى جمهوريات البـــلقــان والمجر والنمسا وإيطاليا، وتم التــخــلي عن المشروع بسبب الخـــلاف الاتحاد الأوروبي.

وبالتزامن مع تصاعد التوتر بين روسيا وأوكرانيا، رأى ميشيل كاماردا، نائب مدير برنامج سياسات الطاقة في الجامعة الأوروبية في روسيا، أن «المشروع يحظى بأهمية بالغة من الجانب الروسي». مشيراً إلى أن روسيا تريد الحصول على بديل آخر عن أوكرانيا لنقل غازها إلى أوروبا من أجل احتكار السوق هناك»، وذلك في تصريحات نقلتها وكالة الأناضول.

الأزمة السورية

بعد مرور 5 سنوات على الأزمة السورية، وتجاهل أمريكا والدول الأوروبية لجميع مطالب ومصالح تركيا في هذا الملف، يبدو أن أنقرة قد وصلت إلى قناعة بأن أقصر الطرق للتوصل إلى حل في سوريا يمر من موسكو، لا سيما بعد تدخلها العسكري وتحكمها في مفاتيح الصراع هناك.

فالملف السوري أرهق تركيا الذي استقبلت 3 مليون لاجئ، بشكل كبير جداً، وتسبب للحكومة التركية بمشاكل سياسية داخلية وخارجية وتحديات أمنة عجزت عن مواجهتها في ظل تصاعد هجمات تنظيم الدولة داخل أراضيها وتواصل سقوط الصواريخ وتنقل المقاتلين الأجانب، كل ذلك إلى جانب تمدد مسلحي حزب الاتحاد الديمقراطي الذي تعتبره أنقرة الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني الإرهابي، وترى في توسعه على حدودها «تهديداً لأمنها القومي».

وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، قال إن بلاده متفقة مع روسيا بشأن وقف إطلاق النار، والمساعدات الإنسانية، والحل السياسي في سوريا، مؤكدًا على ضرورة بدء مفاوضات جنيف في أسرع وقت ممكن، وكشف أن حكومة بلاده تعمل على إنشاء آلية ثلاثية مع روسيا بخصوص موضوع سوريا.

وأضاف جاويش أوغلو: «فيما يتعلق بالحل السياسي، لابد أن تبدأ مفاوضات جنيف في أسرع وقت ممكن، وفيما يتعلق بوقف إطلاق النار، فإن روسيا لم يكن لها موقف مختلف خلال الاجتماعات السابقة للمجموعة الدولية لدعم سوريا، مؤكداً أن تركيا، مثل جميع دول العالم، تعتبر التطرف في سوريا أمرا خطيرا.

ولفت الوزير إلى أن اللقاءات التي ستعقد بين المسؤولين الأتراك والروس، ستتناول جميع المسائل، ومن بينها كيفية التفريق بين المجموعات المعتدلة والإرهابيين، وكيفية تطبيق وقف إطلاق النار على الأرض. موضحاً أن روسيا طلبت من تركيا، بشكل صريح، معلومات حول الأماكن التي يجب ضربها في سوريا، «ونحن سنشاركها المعلومات المتعلقة بأماكن وجود المدنيين والمعارضة المعتدلة في سوريا».

ودعت تركيا روسيا إلى عمليات مشتركة ضد تنظيم الدولة في سوريا، وقال وزير الخارجية: « لطالما دعونا روسيا إلى تنفيذ عمليات ضد «داعش»…عدونا المشترك الاقتراح ما زال مطروحا»، موضحاً أن وفدا يضم ثلاثة مسؤولين أتراك يمثلون الجيش والاستخبارات والخارجية موجود في روسيا لإجراء مباحثات حول سوريا.

في سياق متصل، تعهدت تركيا لدى استقبال وزير الخارجية الإيراني، الجمعة، بالتعاون مع طهران لإيجاد حل للنزاع في سوريا، رغم الاختلافات الجوهرية في مواقف البلدين حول هذا الملف، وأكدت تركيا «التوافق مع طهران حول وحدة الأراضي السوري»، وهي قضية حساسة تتعلق بمساعي أكراد سوريا لتكوين كيان مستقل لهم شمال البلاد.

وخلال الاجتماع بين أردوغان وبوتين، طلب الجانب التركي من روسيا إغلاق مكتب حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري في موسكو، وتعهدت روسيا بدراسة الطلب في أسرع وقت.

الضغط على أوروبا وأمريكا

على الرغم من أن تركيا تعتبر قوة فاعلة في «الناتو» وتمتلك ثاني أكبر جيش في الحلف (حلف شمال الأطلسي) إلا أن تصاعد الخلافات التركية مع أوروبا وأمريكا واتهام أردوغان لهم بدعم محاولة الانقلاب الفاشلة ضده، جعلت من الضغط الغرب هدفاً مشتركاً لروسيا وتركيا أكبر من أي وقت مشى.

وبعد يوم واحد من زيارة أردوغان لروسيا، وفي لغة تصالحية غير مسبوقة، أكدت المتحدثة باسم «الناتو» أن انتماء تركيا إلى الحلف ليس مطروحا للنقاش، وقالت اوانا لونغسكو أن الحلف «يعول على المساهمات المستمرة» لأنقرة «التي يمكنها أن تعول على تضامن ودعم» الحلف.

وتعقيباً على ذلك، قال وزير خارجية أنقرة: «لم ننظر لروسيا يوماً كبديل ولم نعط فرصة للاتحاد الأوروبي ليفرض فيه علينا اختياره أو اختيار روسيا، وذلك في أوج علاقاتنا المميزة معه، كذلك مع حلف شمال الأطلسي «الناتو».. لقد سرنا في علاقات متوازنة مع جميع الأطراف»، مشدداً على أن الغرب لا يحدد مستقبل علاقات تركيا مع روسيا.

وعن تخوفات الناتو من التعاون الدفاعي التركي الروسي، أكد جاويش أوغلو أن «الحلف لم ينفذ القرارات التي اتخذها بخصوص توفير الحماية لتركيا في مواجهة المخاطر التي تتهددها، وخاصة فيما يتعلق بنظام الدفاع الجوي، بل قامت بعض الدول الغربية على رأسها ألمانيا بسحب بطارياتها من تركيا، في هذا الوقت الحرج، كما لا تقدم دول الحلف دعما لتركيا لتمكينها من إنتاج تكنولوجيا الدفاع الجوي بنفسها، وهو ما جعلها مجبرة على اللجوء إلى وسائل أخرى، إذ أن عليها إنشاء نظام دفاع جوي خاص بها، وتطوير التكنولوجيا الخاصة بذلك بالتعاون مع دول أخرى».

 

 

 

 

 

 

الأزمة السورية بعد المصالحة التركية الروسية/ محمد زاهد غول

لا يتم الحديث عن تطبيع العلاقات التركية الروسية بالمصطلح التركي، أو ترميمها بالمصطلح الروسي، إلا وتتحول الأنظار لما يمكن ان ينعكس عن ذلك على الأزمة السورية، فكلا الدولتين من أكثر الدول المهتمة بالأزمة السورية، فتركيا دولة جارة ولها حدود نحو 600 كم مع سوريا، ولديها ثلاثة ملايين لاجئ سوري، وبذلت جهدا كبيرا مضنياً حتى لا تتورط بعمل عسكري داخل سوريا، طوال خمس سنوات مريرة، بالرغم من كل الاستقزازات للأحزاب الإرهابية المدفوعة من قوى إقليمية ودولية، بينما تمكنت القوى الدولية والإقليمية نفسها من توريط روسيا في الحرب داخل سوريا، بدعوى أن روسيا لديها القوة العسكرية الكفيلة بالقضاء على الثورة السورية خلال أشهر قليلة، وهو ما اكتشفت روسيا خطأه بعد خمسة أشهر من تدخلها العسكري بتاريخ 30/9/2015، وأنها عاجزة عن ذلك مهما قاتلت في سوريا، فأخذت في الانتقام من الشعب السوري بالقصف الهمجي العشوائي، حفظا لكبرياء جيشها ورئيسها بوتين، الذي سيحفظ التاريخ أن هزيمته التاريخية كانت بسبب حربه في سوريا، كما هزم الاتحاد السوفييتي في أفغانستان ولو بعد حين.

لقد أرسلت روسيا طائراتها وجيشها وقواعدها العسكرية إلى سوريا منذ سنة تقريبا وهي تراوح مكانها من أزمة إلى أخرى، وقد أخذ جنودها بالتذمر ورفض القتال في سوريا، والحكومة الروسية لا تجرؤ أمام شعبها حت الآن الإعلان عن مقتل جنودها في سوريا، فتبلغ أهاليهم بالموت في الحرب الأوكرانية أو في حوادث سير أو في تدريبات عسكرية، وهذه أزمة روسية متفاقمة في سوريا، فكان لا بد لها أن تلجأ إلى من بيده مساعدتها في الخروج من هذا المأزق، وهي تعلم أن أمريكا سعيدة بهزيمتها في سوريا ولن تساعدها، وإيران هي السبب في ورطتها، وعاجزة عن مساعدة نفسها حتى تساعد غيرها، وعليه لن يكون غير تركيا، وبالأخص أن الحكومة التركية خرجت من المحاولة الانقلابية الفاشلة أقوى سياسيا وعسكريا، وأقدر على اتخاذ القرارات اللازمة، ولكن كيف يكون ذلك؟ وما هو الثمن الذي تريده تركيا مقابل ذلك؟

الرئيس التركي أردوغان صرح في يوم سفره إلى روسيا قائلا:»إن روسيا الاتحادية هي أهم لاعب فيما يتعلق بجلب السلام إلى سوريا، وأعتقد أنه ينبغي علينا حل هذه المسألة من خلال إقدام تركيا وروسيا على خطوات معا في هذا الصدد»، وتفسير ذلك أن روسيا قد مهدت لتفاهم مع تركيا على الحل، بعد أن ألغت روسيا اعتبار وجود بشار الأسد وإيران وحزب الله في سوريا أمراً مهماً، وأصبحوا أدوات بيد روسيا، وروسيا متأكدة أن حلف إيران لن يدخل معها في صراع، لأن أرواحهم بيد الجيش الروسي في سوريا وخارجه، والاختلافات داخل محور إيران والصراع الداخلي بينها لا يؤهلها للصمود أصلاً، ومع ذلك فإن وقوع الصراع بين روسيا ومحور إيران أمر محتمل في المستقبل، ولكن وطالما أن محور إيران قد سلم مقاليد أموره إلى روسيا، فإن روسيا تريد إنهاء الصراع بما يخدم مصالحها ونفوذها ومكاسبها الاستراتيجية والعسكرية، فالروسي الآن يملك رؤية لما يريده من سوريا طالما تورط بها عسكريا، سواء بتفويض إيراني أو بدونه، فقاسم سليماني يركض الآن في سوريا وهو يرفع الراية البيضاء وينتظر من الروسي ليركض بها من بعده، على طريقة سباق المراحل.

على هذه الأسس استقبل بوتين أردوغان في بطرسبورغ وفي قصر قسطنطين تحديدا، لينعش عظمة أردوغان المنتصر ليلة الإنقلاب وبوتين يتابع تلك الليلة لحظة بلحظة، ويخبر أردوغان بانه كان متيقنا بأن الانقلاب سيفشل طالما أن أردوغان خاطب الشعب بالنزول إلى الشوارع، وهو ما حصل، أي أن بوتين يدغدغ بطولات أردوغان في تركيا، ليقدم له مساعدة في سوريا، فهو البطل المنتظر، ولذلك قدم بوتين تنازلاً سريعا برفع كل القيود والعقوبات التي فرضها على تركيا بعد اسقاط الطائرة الروسية سوخوي بتارخ 24/11/2015، وربما لو أحضر أردوغان معه حكومة بنعلي يلدرم لأمكن توقيع كل الاتفاقيات المتعلقة بنقل أنابيب النفط ومشروع السيل التركي الكبير، ولأمكن التوقيع على إتمام مشروع المحطات النووية التركية التي تبنيها روسيا في تركيا، وغيرها من المشاريع العملاقة، كما أمر بوتين بإلغاء قوانين حظر السياحة إلى تركيا، وكل ذلك إغراء كبير لأردوغان وتركيا، والثمن هو أن تبدأ تركيا بالتنسيق العسكري مع روسيا في سوريا، فروسيا فقدت الثقة في الحرس الثوري والكتائب الإيرانية وبطولات حزب الله الوهمية، وهي فاقدة للثقة ببشار الأسد، وتحتاجه للغطاء القانوني الدولي، بان وجودها هو بطلب من الحكومة المعترف بها من الأمم المتحدة، مع أن ذلك حصل بعد دخولها لسوريا بأسبوع كامل.

ما يؤكد هذا التطور هو إعلان وزير الخارجية التركية جاويش أوغلو بعد انتهاء الاجتماعات مع الروس:»عن تشكيل آلية جديدة تركية روسية لمعالجة الأزمة السورية، تتكون من مسؤولين من وزارة الخارجية التركية ووزارة الدفاع والاستخبارات التركية»، أي أن روسيا مستعجلة على تشكيل لجنة عسكرية لمتابعة الشؤون العسكرية في سوريا، فروسيا تخشى خسارة المزيد من الجنود الروس في سوريا، وتخشى على طائراتها من صواريخ المعارضة السورية أيضاً، ولعل لدى تركيا ضغوطا على المعارضة السورية، أن لا تتعرض للجنود والطائرات الروسية حتى انسحابها وتسوية الامور لحل سلمي يرضي الجميع.

وبذلك تأتي سرعة التجاوب التركي بإرسال موفدين من وزارة الخارجية والدفاع والاستخبارات التركية دليلا على موافقة الحكومة التركية على العرض الروسي وهو ما أخبر عنه ابراهيم كالين مستشار الرئيس التركي المرافق في الاجتماعات مع بوتين بـ:»التوصل إلى اتفاق بخصوص فتح قناة اتصال مباشر بين رئاسة الأركان التركية والروسية بخصوص الأزمة السورية»، فروسيا وافقت على ترمييم العلاقات على كافة الصعد، وأنه تمّ الاتفاق على إعادة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها، وأكّد كالين أنّ وفداً من رئاسة الأركان التركية وهيئة الاستخبارات ووزارة الخارجية، ستتوجه إلى روسيا لمناقشة الأزمة السورية بكل تفاصيلها.

ولا شك ان هناك مصلحة لتركيا في تطبيع العلاقات مع روسيا أيضاً، فالخسائر التركية خلال الأشهر السبعة الماضية من جراء العقوبات الروسية أدت إلى خسارة تركيا نحو مليار دولار بحسب إفادة وزير الجمارك والتجارة التركي بولنت توفنكجي، وهي خسائر في الصادرات التركية لروسيا خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري بسبب الأزمة الدبلوماسية مع روسيا، وهو ما نبه عليه الرئيس أردوغان نفسه أثناء الزيارة بقوله:» إن التبادل التجاري بين البلدين تراجع أثناء الأزمة إلى ما بين 27 و28 مليار دولار، بينما كان هناك هدف لتعزيزه إلى نحو مئة مليار دولار» بينما زاد التبادل التجاري بين روسيا وإيران بنسبة 30٪ في الفترة نفسها، بحجة رفع العقوبات عن إيران، وهذا شيء إيجابي لأن الشركات التركية لها استثمارات مع إيران أيضاً، ولكن ليس بالضرورة أن تخسر تركيا لصالح مكاسب إيرانية أيضاً.

إنّ عودة العلاقات التركية الروسية إلى سابق عهدها أو أفضل ممّا كانت عليها سابقاً، وتشكيل لجان عسكرية وأمنية وسياسية لمتابعة الوضع في سوريا للتوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف، لكن ليس من المرجح أن يتمكن من الحل في سوريا وحل الخلافات التركية الروسية، لأكثر من سبب منها:

1 ـ أن تركيا سوف تدفع ثمن ذلك القبول ولو لمرحلة معينة بوجود بشار الأسد، لحين إنهاء روسيا حاجتها لوجود بشار الأسد، وهذا أمر ليس سهلا، وقد يمكن التغلب عليه لفترة زمنية قصية، وهو ما قد يوفر لأمريكا فرصة زمنية لافشال الاتفاق التركي الروسي حول سوريا.

2 ـ أن إتمام المصالحة بين أطراف الصراع في سوريا بنظام سياسي يحفظ أجهزة الدولة السورية ووحدتها السكانية كما هي، ليس سهلاً بعد الذي جرى، ولذلك قد تلجأ روسيا للحل الفيدرالي، وهو ما قد توافق عليه تركيا بصعوبة بالغة أو رفضه، وإذا قبلته فسيكون بشرط ان لا يكون للأحزاب الكردية جزء من سوريا الفيدرالية، وعلى فرض موافقة روسيا فإن أمريكا لن تمرر الاتفاق دون الأحزاب الكردية، التي قد تعطي الأكراد إقليما سياسيا شمال سوريا على النمط العراقي، وهو ما لا تقبل به تركيا مهما كانت الاغراءات الروسية والضمانات الدولية، لأن ذلك تهديد مباشر للأمن القومي التركي، فإذا تغاضت الحكومة التركية عن مغازلة بوتين للأحزاب الكردية سابقا، وبالذات حزب الاتحاد الديمقراطي وفتح مكتب سياسي له في موسكو في أشهر الطلاق التركي الروسية الماضية، فإنها لن تسكت على بقاء هذا الخطر مع بدء شهر العسل الجديد بينهما.

هذه المخاطر تدركها تركيا، ولكنها مضطرة لمجاراة الروس الذين يحكمون سوريا الآن، وبيدهم تهديد الأمن القومي التركي، ولذلك قال أردوغان قبل يوم من سفره إلى روسيا:»لا يمكن تسوية الأزمة السورية دون مشاركة روسيا»، لأن روسيا حاولت حل المشكلة الروسية دون تركيا وفشلت، وتركيا حاولت حلها دون روسيا فلم تنجح، وأمريكا لا تريد حلها، وبالتالي فإن الحل هو بالتفاهم التركي مع روسيا، وبين يدي روسيا تفويضاً من إيران، فهل يتمكن الروس والأتراك من إبعاد أمريكا عن أي حل قادم في سوريا؟

وهل يتمكن الأتراك من إقناع السعودية وقطر بالحل السياسي مع روسيا، علما بان السعودية وقطر وروسيا وتركيا متضررة من استمرار القتال في سوريا، بينما أمريكا لا تعمل للحل السياسي بقدر ما تعمل لمواصلة الاقتتال واستمرار الحرب في سوريا، بهدف أن يكون الحل الامريكي في النهاية هو تقسيم سوريا إلى كيانات مستقلة وليس بوحدة سوريا كما كانت في الرؤية الروسية والتركية والعربية، ولا بالحل الفيدرالي الذي تتقبله روسيا وتطالب تركيا فيه إلى ضمانات روسية ودولية ان لا يوجد فيها كيانا سياسيا كرديا، ولو وجد فيه كيان فيدرالي بأن لا يكون مستقل، لأنه سيحرض الأحزاب الكردية في تركيا للمطالبة بالكيان نفسه في تركيا، وهو ما لا تقبل به تركيا، ولذا فإن الملف الكردي سيبقى أحد نقاط الاختلاف الكبرى بين تركيا وروسيا في الحل القادم.

 

 

 

 

محاولات جادة في واشنطن لإعادة تركيا إلى «الحظيرة الأمريكية/ رائد صالحة

واشنطن ـ «القدس العربي»: زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى سانت بطرسبرغ لم تقتصر بالطبع على تبادل المجاملات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو استعادة العلاقات الاقتصادية التي تضررت بعد اطلاق النار على طائرة حربية روسية من قبل تركيا في تشرين الثاني/نوفمبر، وهي بالتأكيد أكثر من رغبة في استئناف الحوار أو الحصول على «صديق عزيز» سيقوم ببناء محطة للطاقة النووية أو استكشاف خيارات انهاء القتال في سوريا.

والزيارة، بالتأكيد، ليست تمثيلية سياسية للعلاقات العامة، خالية من المعنى، بل هي تعبير عن غضب جامح تجاه رد الفعل الأمريكي والأوروبي المريب على محاولة الانقلاب ومحاولة لفرض معادلة جديدة في علاقات تركيا. فما حدث وفقا لرؤية تركيا أمر مثير للاستغراب، فالولايات المتحدة التي تعتبر حصنا للديمقراطية وحليفا طويل الأمد في حلف شمال الاطلسي منذ تأسيس الجمهورية التركية لم تتخذ موقفا حازما ضد «الخونة» في الليلة المزعجة للانقلاب، وكان بيان وزير الخارجية جون كيري الذي أعرب فيه عن «أمل عودة السلام والاستقرار للبلاد» هو البيان الوحيد الذي صدر عن الولايات المتحدة، وبطبيعة الحال، فان الهدف الأمريكي الرائع بالسلام والاستقرار ظهر وكأنه بيان أجوف.

وفي الواقع، لا يمكن العثور على مبرر على الفعل الأمريكي، فما حدث في تركيا عبارة عن تهديد للديمقراطية ومحاولة لقلب نظام منتخب، وما حدث يخالف جميع القيم التي تؤمن بها الولايات المتحدة، لذا فالمتوقع في هذا الحال ان تدين واشنطن الانقلاب بشراسة ولكنها على النقيض من ذلك بقيت غير مبالية في محاولة الانقلاب وركزت بدلا من ذلك على مشاهد الديمقراطية مع مفاهيم معممة وغامضة مثل «الاستقرار» و«السلام». كما نسيت واشنطن في ليلة صعبة صداقة عمرها مئة عام، أما ردة فعل وسائل الإعلام الأمريكية فقد كانت مخيبة للآمال، إذ انها انحازت لصالح جماعة الانقلاب وحقوقهم ضد الشعب التركي الذي انتفض في الشوارع من أجل الحفاظ على الديمقراطية.

ولم تخفف البيانات اللاحقة التي أصدرتها إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لدعم تركيا بعد أيام من الانقلاب من الصدمة التي عاشها صناع السياسة في أنقرة تجاه الموقف الأمريكي، حيث كان الأتراك يشعرون ان لهم مكانة خاصة بالنسبة للولايات المتحدة باعتبار تركيا البلد المسلم الوحيد في حلف شمال الأطلسي وأهمية خاصة في كثير من الجوانب من بينها نشر مفهوم جيد للديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط. وعلى أي حال، وبعيدا عن التوقعات البعيدة المنال فقد كان للاتراك الحق في الاعتقاد بان الولايات المتحدة ستقدم دعما أقوى لهم بأسم الديمقراطية ناهيك عن اشتباه الأتراك بان واشنطن لديها معلومات مسبقة حول «الانقلابيين» .

ووفقا للعديد من المحللين، فإن اللقاء الحميم بين بوتين وأردوغان لم يكن، أيضا، صورة للتعبير عن الغضب التركي من الأصدقاء في واشنطن أو دول الغرب بسبب الموقف من الانقلاب، بل إشارة صريحة بقدرة أنقرة على تغيير رقعة الشطرنج العالمية وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط عبر القيام بتحول جيو سياسي وإجراء سياسي مبكر لمنع ظهور دولة كردية مستقلة على الحدود الجنوبية لتركيا. فالولايات المتحدة، في الواقع، تدعم الأكراد في سوريا بطريقة تتعارض تماما مع مصالح الأمن التركي.

إدارة أوباما، بدورها، غير متأكدة من كيفية التعامل مع خطوات أردوغان الأخيرة بما في ذلك زيارته الأخيرة لروسيا حيث لم يتوقع أي أحد في البيت الأبيض من ان الرئيس التركي سيكسر علاقاته مع الولايات المتحدة أو سينتقم من أعدائه أو يتقارب مع موسكو أو دمشق أو طهران إلى هذا الحد ولكن الإدارة تدرك تماما تبعات الغضب التركي لذا حرص البيت الأبيض على ارسال العديد من المسؤولين لأنقرة من أجل اقناع الأتراك بأن الولايات المتحدة غير متورطة في محاولة الانقلاب كما انها تحاول امتصاص الخطوات الودية التركية نحو روسيا بطريقة ذكية جدا، فهي مثلا لم تعارض الدعوة التركية بالقيام بعمليات عسكرية مشتركة مع الروس ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» بل رحبت بذلك، حيث قالت اليزابيث ترودو المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الأمريكية ان الولايات المتحدة على اتصال وثيق مع الحلفاء الأتراك وان العمل ضد «داعش» يعتبر أولوية لذا فان واشنطن ترحب بهذه الخطوة إذا كانت في هذا الاتجاه.

ولم ترفض الولايات المتحدة، أيضا، فكرة توسيع التعاون العسكري والدفاعي التركي مع دول من غير الناتو حيث أضافت اليزابيث ان تركيا حليف مهم في الناتو منذ عام 1952 وهي شريك للولايات المتحدة بما في ذلك التدريبات، مشيرة إلى ان إمكانية التشغيل المتداخل تعتبر مبدأ أساسيا من مبادى الناتو، وإلى حد ما، ما زالت إدارة أوباما ترفض الاعتراف بان هناك تحولا استراتيجيا في الموقف التركي أو استراتيجة التحالف الدولي ضد «داعش» بعد الدعوة التركية لروسيا.

هناك شبة إجماع بين أوساط الخبراء في الغرب ان المحادثات التركية ـ الروسية ستزيد التوتر بين تركيا والولايات المتحدة ودول شمال الأطلسي «الناتو» حيث أعرب صناع السياسة والقرار في الغرب عن قلقهم من حملة أردوغان الواسعة ضد الحريات بعد الانقلاب الفاشل. إذ تم إبعاد عشرات الآلاف من الأساتذة والقضاة ورجال الجيش والشرطة والجامعات من مناصبهم في حين طالبت أنقرة الولايات المتحدة بتسليم الداعية فتح الله غولن الذي يعيش في منفاه الاختياري بولاية بنسلفانيا بتهمة الوقوف وراء محاولة الانقلاب.

وستواصل إدارة أوباما محاولتها لإعادة تركيا إلى «الحظيرة» عبر إرسال المزيد من المسؤولين بما في ذلك رحلات مرتقبة في نهاية هذا الشهر لوزير الخارجية جون كيري اضافة إلى جو بايدن، نائب الرئيس. ولكن إذا فشلت هذه المحالاوت فان وسائل الإعلام الأمريكية مستـــعدة لصلب أردوغان ونعته بالأوصـــاف السيئة، وعلى الأرجح، ستحاول جهات داخــلـــية مرتبطة بالغرب إثارة حالة من عدم الاستقرار السياسي فاللعبة قديمة ولكنها صالحة لكل مكان.

 

 

 

 

 

إيران تبحث مع روسيا وتركيا: أكبر من تنسيق وأقل من حلف/ نجاح محمد علي

لم تتأخر طهران كثيراً لترسل وزير خارجيتها محمد جواد ظريف إلى أنقرة الذي وصلها الجمعة للقاء المسؤولين الأتراك، بعد قمة ثلاثية كانت جمعت الرئيس الإيراني حسن روحاني بنظيريه الروسي فلاديمير بوتين، والأذري إلهام علييف في باكو رسمت ملامح تعاون مميز خصوصاً بين طهران وموسكو قبل القمة الروسية التركية بين بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سان بطرسبورغ الروسية.

وما أن انتهت قمة بوتين- أردوغان إلا وأوفد روحاني وزير خارجيته محمد جواد ظريف إلى أنقرة، وليعلن بالفم الملآن بعد ختام الزيارة أنه جاء لمباركة انتصار الشعب التركي على محاولة الانقلاب، مشيرًا إلى أن «العلاقات الإيرانية ـ التركية واسعة وشعبانا شقيقان».

والتقى ظريف فور وصوله بنظيره التركي مولود تشاوش اوغلو، كما التقى بعد ذلك بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء بن علي يلدريم. وبحث جميع القضايا المشتركة بين البلدين وعلى رأسها الأزمة السورية عارضاً تقديم إيران مبادرة جديدة بشأنها، خصوصاً وأن مهمة التقريب بين أردوغان و»صديقه» بوتين، نفذتها طهران بدقة بالغة أخذت بنظر الاعتبار ما يخطط له الرئيس الإيراني حسن روحاني وفريقه الرئاسي خصوصاً أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي (الذي يرأسه روحاني بصفته رئيس الجمهورية) الأميرال علي شمخاني، في شأن إيجاد علاقة ثلاثية من نوع خاص تقترب من «حلف» إيراني تركي روسي لحل أزمات المنطقة بالمحافظة على مصالح كل بلد وبما يراعي خصوصية كل منها.

وبدا منذ الوهلة الأولى للانقلاب العسكري التركي الفاشل على الرئيس أردوغان، أن طهران بكل تناقضات أجنحتها وصراعات المحافظين والإصلاحيين وبينهما المعتدلون، وضعت كل بيضها في سلة الرئيس أردوغان، ولم تكتف فقط بدعم «الشرعية» ولا «الحكومة المنتخبة»، بل قررت الوقوف إلى جانبه، وقيل في هذا الصدد إنها حركت طائرات حربية وقفت على أهبة الاستعداد في مناطق الحدود مع تركيا لتقديم العون لأردوغان، إذا رجحت كفة الانقلابيين عليه.

وأصبح من نافلة القول إن الموقف الإيراني الرافض بشدة للانقلاب العسكري، ترك آثاره الإيجابية على العلاقات الإيرانية التركية التي سادها بعض التوتر سابقاً، ليوجه روحاني وزير خارجيته ظريف لزيارة أنقرة حاملاً معه دعوة رسمية لزيارة طهران، مع اقتراح بعقد لقاء ثلاثي إيراني تركي روسي على مستوى وزراء الخارجية يُتوج في مرحلة لاحقة بعد تحضير جيد، بقمة ثلاثية تسفر عن نتائج «كُبرى» تفسر التصريحات الإيجابية المتكررة لرئيس الوزراء التركي ووزير الخارجية ومستشار أردوغان حول التغيير الذي سيطرأ على علاقات أنقرة بدمشق على وجه التحديد.

ولأن طهران تدرك صعوبة استدارة أردوغان بشكل كامل فيما يتعلق بموقفه من الرئيس السوري بشار الأسد، فهي تتحرك كما يبدو لطبخ ما تسميه مصادر رافقت ظريف في زيارته لأنقرة  «تنسيقاً ثلاثياً» ولكن على نار هادئة مع أنقرة وموسكو حول سوريا بشكل خاص، يمكن تطويره إلى العراق وحتى اليمن وباقي الأزمات الأقليمية ومنها بالطبع القضية الفلسطينية. وتتعامل طهران بحذر شديد في العلاقة الجديدة مع أنقرة، لتجنب إثارة عدوها الاستراتيجي إسرائيل التي نجحت كما يبدو في إيجاد «تحالف» ضدها غير معلن إلا في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، مع دول في المنطقة، ولهذا فهي تشجع الرئيس أردوغان على الاهتمام بدور فاعل في الشرق الأوسط أكثر من العلاقة مع أوروبا وأمريكا اللذين تخليا عنه أو حتى تآمرا عليه إنْ في طريقة التعاطي مع موضوعة الانقلاب العسكري، أو في قضية اللاجئين.

وفي هذا الواقع وبالرغم أن لا شيء جذريا حتى الآن يشير إلى تغيير الرئيس التركي أردوغان نظرته إلى الحل في سوريا، الا أن زيارة أردوغان إلى موسكو واتصاله قبل ذلك بالرئيس الإيراني حسن روحاني، يعزّزان لدى الإيرانيين فرضية أن تركيا حالياً ترغب في تحالف  «تكتيكي» مع روسيا وإيران، تواجه به مرحلة مرحلة ما بعد الانقلاب العسكري الذي كلفها الكثير داخلياً بما يترك آثاره بقوة على دورها الأقليمي خصوصاً في الساحات التي تتواجد فيها روسيا وإيران، ولهذا فهي معنية بتقديم المساعدة.

وتدرك طهران أيضاً أن أي تحرك تركي خارج حسابات ما قبل الانقلاب العسكري قد يكلف أنقرة حوادث داخلية هي في غنى عنها، إذ أن تعرض مطار أتاتورك في اسطنبول لهجوم إرهابي دموي تم فقط بعد أن بدأت أنقرة في التحضير لتطبيع علاقاتها مع روسيا، وأن الانقلاب العسكري جاء بعد الإعلان عن قرب تغيير أنقرة  موقفها من الأزمة السورية، وأن ذلك ليس مصادفة.

ومن هنا جاء اتصال الرئيس حسن روحاني بأردوغان عندما أشاد بشجاعة الشعب التركي ونضجه السياسي»إذ نهض ليدافع عن السلطة الشرعية في مواجهة الانقلابيين» ومشيراً بشكل مباشر إلى أن  الاستقرار والهدوء في تركيا يؤثران بشكل إيجابي على الأجواء في المنطقة برمتها. «ولا شكوك لدينا في أن الهدوء في دول العالم الإسلامي لا يروق للإرهابيين ولبعض الدول الكبرى على حل سواء».

لكن روحاني كان واضحاً في رسم صورة الاصطفافات في علاقات تركيا الإقليمية والدولية بقوله لأردوغان «إن الأحداث الأخيرة في تركيا أظهرت من هـم الأصدقاء ومـن هـم الأعداء لتركيا، داخل وخارج حدودها على حد سواء».

تتفهم إيران جيداً أنها والرئيس التركي رجب طيب أردوغان لن تفقا في المرحلة الراهنة،  حول دور الأسد في حل الأزمة السورية، وأنها قدمت الكثير، وضحت بكبار قادة الحرس الثوري من طراز اللواء حسين همداني، لكي يبقى الأسد جزءاً من الحل، ولن تتراجع عن موقفها في دعمه «ولو بلغ ما بلغ»، وهي لذلك تنتظر بفارغ الصبر استدارة أردوغان الكاملة، وهي تعلم أنْ لا شيء يمنع دون ذلك في ضوء تغيير الموقف الغربي الأوروبي عموماً لصالح بقاء الأسد شريكاً في الحل ما دام يحارب الإرهاب نيابة، ويجري استنزافه واستنزاف إيران بالتالي، لصالح إسرائيل.

وحتى بالنسبة لأمريكا «المتورطة» في سوريا، فهي ما دامت تقاتل بجنود ومال غيرها، فهي غير معنية إذا طالت الحرب في سوريا أو قصرت، اللهم إلا بمقدار تأثير الإرهاب على حليفاتها الأوروبيات وضغوط أوروبا عليها في هذا المجال.

هذا الأمر تحاول طهران إقناع الرئيس التركي به لكي يتخلى عن الجانب الشخصي في موقفه من الأزمة السورية، ولكي يقتنع أن الاستدارة الكاملة في الشأن السوري بدون الفوز في سوريا التي هي الممر الوحيد المتبقي له للتحول إلى الفعل الإمبراطوري، ولكي يرضى بأن تركيا القادمة في الموقع الجديد لن تكون سوى دولة إقليمية كبيرة بوجود الأسد، وهذا ما لا يقبل به حتى الآن.

طهران ترغب في الأساس في الوقت الحاضر على الأقل،  بايجاد «حلف» ثلاثي يجمعها مع روسيا وتركيا، وهي تعلم أيضاً أن روسيا لا ترغب بِه – في الوقت الحاضر على الأقل – وترجح عليه علاقات ثنائية قابلة للتكرار مع المتخاصمين الإقليميين، فهي مثلاً تطور علاقاتها مع إيران ومع السعودية رغم التباين الكبير في الموقف من الأزمة السورية، والصراع السعودي الإيراني خارج الأزمة السورية.

وبالنسبة لتركيا أيضاً، ترغب طهران أن تعزز علاقاتها الثنائية مع أنقرة وبينهما الكثير من المشتركات أكبر مما يجمع تركيا مع السعودية، لكنها وخلافاً لما يمكن أن يفهم من تحركها الأخير نحو أردوغان بعد الانقلاب، لا تريد (طهران) إبعاد تركيا عن السعودية، بل هي لا تمانع في إيجاد محور يضمها وتركيا والسعودية ومصر لحل أزمات المنطقة وتعزيز الأمن الإقليمي.

وفيما يتعلق بايجاد «حلف» ثلاثي روسي إيراني تركي، فهو يظل مجرد كلام يتردد في وسائل الإعلام رغم التفاؤل الذي زرعه أردوغان نفسه في اتصاله النادر مع روحاني عقب فشل الانقلاب عليه، في مكالمة هاتفية أجراها مع نظيره الإيراني حسن روحاني، ولوح بتشكيل «تحالف ثلاثي» يضم روسيا، ما سيتطلب تعديل الموقف التركي من سوريا.

وفي هذه النقطة بالذات تتفهم طهران كما تسرب من زيارة ظريف لأنقرة طبيعة العلاقات بين جميع المؤسسات التركية وبين الولايات المتحدة ما يجعل الرئيس التركي بالتالي لن يبتعد كثيراً عن حلف شمال الأطلسي الناتو، وعموم الغرب خاصةً وأن الاقتصاد التركي مرتبط بالاستثمارات الغربية وخصوصاً الاستثمارات قصيرة الأجل والتي في حال سحبها من قبل الغرب فإن الاقتصاد التركي سينهار، وهي مغامرة لن يقدم عليها أردوغان حتى وإن رفع حجم التبادل التجاري لتركيا مع روسيا إلى 100 مليار دورلار وإلى 30 مليار دولار مع إيران.

ولا يغيب عن بالنا أن أردوغان بتقربه من روسيا فهو يحاول الضغط على الولايات المتحدة التي تخلت عنه لتقبل به في قمة السلطة التركية الذي لا يتعارض مع مشروعها في المنطقة. ومن هنا قال ظريف في أنقرة مشيراً إلى زيارة أردوغان الناجحة إلى بوتين : «نحن سعداء بالتقارب التركي الروسي»، لافتًا أن العلاقات الإيرانية مع تركيا وروسيا تسير بشكل جيد والتعاون مع الجوار جيد وإيران تريد السلام في سوريا.

أخيراً فان تركيا ستتعاون أكثر مع إيران في الفترة المقبلة بشأن الأزمة السورية، وسيتبادلان تعاوناً أمنياً مع روسيا أيضاً لمكافحة التنظيمات الإرهابية معا، وستعزز تركيا من تعاونها بشكل خاص مع إيران وتفعيل اللجنة الأمنية المشتركة التي كانت تجتمع كل شهر في البلدين.

وبدا لافتاً جداً خلال مؤتمر صحافي جمعه بنظيره الإيراني محمد جواد ظريف الجمعة، أن وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو أعلن بنفسه أن هناك عدداً من النقاط المشتركة بين تركيا وإيران في الملف السوري، مؤكدًا  «سنكثف التعاون مع إيران حول سوريا». لكن الوزير التركي أردف قائلا: «متفقون مع طهران حول الحفاظ على وحدة سوريا، وننتظر تطورا من إيران لإيجاد حل عادل للأزمة السورية».

فتركيا تبحث عن سيناريو يبرر استدارتها الكاملة نحو الأزمة السورية بما يتوافق مع رؤية كلاً من روسيا وإيران التي تعكف حالياً على تقديم مبادرة جديدة تضمن إيجاد تعاون ثلاثي جدي لا يمنع أن تنضم له دول أخرى في الإقليم … ولو كانت السعودية!.

 

 

 

تقارب روسيا – تركيا يقلق إيران أو بشار؟/ علي حماده

ما إن عاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من زيارته الرسمية لمدينة سان بطرسبرج حيث يبدو انه نجح بلقائه والرئيس فلاديمير بوتين في إعادة وصل ما انقطع من علاقات دافئة مع روسيا، وذلك بعد أزمة استمرت اكثر من تسعة أشهر، حتى أوفدت القيادة في إيران وزير خارجيتها محمد جواد ظريف إلى أنقرة، للاطلاع على “الرواية” التركية للمحادثات بين أردوغان و بوتين، بينما كان وفد إيراني يضم قادة من “الحرس الثوري ” يزور موسكو للاطلاع على “الرواية” الروسية بشقها الميداني التنفيذي الذي يهم إيران في المقام الأول. والحال ان محادثات سان بطرسبرغ أدت حسب ما تبين في الساعات التي تلت عودة أردوغان إلى انقره إلى “تليين” في الخطاب التركي حيال التسوية في سوريا، وصولا إلى حد وضع ورقة القبول ببقاء بشار الأسد في المرحلة الانتقالية على الطاولة، ثم سحبها فقط لإشعار موسكو بأن تركيا مستعدة للتفاوض الجدي من دون أن يشكل شرط بقاء بشار في المرحلة الانتقالية عائقاً. وهذا بحد ذاته تنازل تركي كبير، أمام تمسك روسيا بعدم اشتراط رحيل بشار في بداية المرحلة الانتقالية! ولكن ماذا خلف التنازل التركي الذي بدا من خلال تصريحين متناقضين أشبه بفتح باب عروض إقليمية حول الأزمة السورية؟

بالرغم من “بروباغاندا” نظام بشار، وأدوات إيران في سوريا ولبنان التي روجت لمرحلة “انتصارات ” لما يسمى بـ”محور المقاومة”، كان بشار أكثر الجهات قلقاً من تقارب تركيا – أردوغان مع روسيا، باعتبار معرفته بأن كل ما يقال عن ان النظام صار في امان، وان رحيل بشار ما عاد مطروحا ليس صحيحاً على الإطلاق. ومثل بشار يدرك الإيرانيون الذين دفعوا ويدفعون غاليا على مسرح العمليات العسكرية في سوريا، ان مصير بشار رهن بإتفاق اميركي – روسي اولا، ثم بالقوى الإقليمية أي إيران – تركيا – السعودية. و لعل في استمرار تراجع تنظيم “داعش” على الأرض في كل من العراق وسوريا ما يؤشر الى ان ظرف الحفاظ على بشار ما دامت الحرب ضد “داعش ” في أوجها، بدأ يشهد متغيرات تخيف بشار وإيران.

اكثر المتمسكين ببشار وقسم كبير من بطانته المباشرة هم الإيرانيون. الروس يعملون بلا هوادة على الحد من نفوذ إيران داخل ما تبقى من الجيش والمؤسسات الأمنية، فهم يعتبرون ان وجودهم المباشر ينبغي ألا تجاريه أي قوة اخرى، و إن تكن حليفة اليوم. أما الأميركيون فموضوع رحيل بشار باق على الطاولة بالنسبة إليهم، وينسقون مع إسرائيل وموسكو لإنشاء “نموذج” امني قابل للحياة على الحدود الجنوبية لسوريا قبالة الجولان والاردن، وسط تراجع الإختراق الايراني عبر “حزب الله” هناك.

خلاصة القول إن الحل في سوريا لا يزال بعيد المنال، و لكن التقارب التركي – الروسي من شأنه ان يحافظ على توازن عسكري في منطقة حلب وريفها الشمالي، مما يغضب بشار والإيرانيين وميليشياتهم وعلى رأسها “حزب الله” المثخن بالجراح السورية!

النهار

 

 

 

انعطافة سياسية تركية في الموضوع السوري؟/ رأي القدس

تداولت وسائل التواصل الاجتماعي خبرا عن تصريح منقول على لسان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يُقصد منه المديح في الرئيس السوري بشار الأسد بدعوى أنه أدان الانقلاب الفاشل في تركيا في الوقت الذي طعنت فيه أمريكا وأوروبا… والسعودية إردوغان في الظهر. تتبع الناشطون الخبر المنقول، زعماً، عن صحيفة «صباح» التركيّة الموالية للحكومة واتصلوا بمسؤولي التحرير فيها الذين أنكروا نشر هذا الخبر وأكدوا عدم صحّته.

والحال أن بورصة التكهّنات السياسية حول انعطافة تركية مقبلة في الموضوع السوري قد ارتفعت إثر لقاء الزعيم التركي بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقد جاءت زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى أنقرة أمس الجمعة ولقاؤه وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو لتزيد قوة الحديث في هذا الاتجاه.

ترتكز التكهنات المذكورة على فكرة أساسية وهي أن وقف روسيا عقوباتها الاقتصادية على تركيّا سيكون له ثمن سياسيّ، وهي فكرة صحيحة من حيث المبدأ.

توقع الرئيس التركي خلال لقائه بنظيره الروسي أن يصل حجم التبادل الاقتصادي بين البلدين إلى 100 مليار دولار، وكان حجم التبادل الاقتصادي بينهما قد وصل إلى 35 مليار دولار ولكنه انخفض بعد أزمة إسقاط المقاتلة الروسية إلى حدود 28 مليار دولار.

كانت روسيا في العام 2015 هي البلد الثاني في حجم الصادرات التركية، ولكنّ روسيا، ايضاً، من جهة أخرى، كانت البلد الثالث في حجم الصادرات إلى تركيا، وهو ما يعني، في هذه الناحية بالذات، أن الضرر الاقتصادي الناتج عن العقوبات التي أقرّتها موسكو كان باتجاهين.

الجانب الثاني الذي أثر على الاقتصاد التركيّ بسبب تراجع العلاقات مع روسيا كان انخفاض عدد السيّاح الروس بنسبة 87٪ خلال الشهور الستة بعد العقوبات، وأدّى إلى خسارة إجماليّة تبلغ 840 مليون دولار، لكنّ الأمر الذي لم يتحدّث عنه الاقتصاديون هو أن جزءاً من هذا المبلغ تم تعويضه من خلال تشجيع السياحة الداخلية في تركيا، وكذلك عبر تسويق السياحة من بلدان أخرى غير روسيا.

الجانب الثالث للعلاقات بين البلدين هو قطاع الطاقة، وهو، بشكل كبير، يقدّم منافع لروسيا أكثر مما يفعل لتركيا، فقد استورد الأتراك في العام الماضي 27 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، كما أنهم كانوا، قبل العقوبات، بصدد استثمار 25 مليار دولار لإنشاء محطة نووية يقوم الروس بالإشراف عليها وتجهيزها.

يضاف إلى مشروع «السيل التركي» العملاق الذي يؤمن عبور الغاز الروسي عبر الأراضي التركية نحو أوروبا، وهو أيضاً مشروع استراتيجيّ لروسيا يخرجها من تبعية مروره عبر أراضي خصمها الأوكراني، ويؤمّن طريقة أسرع (وبالتالي أوفر) لوصول الغاز إلى الأسواق الأوروبية. يحب الرئيس الروسي، حتى في مواضع غير سياسية، أن يتحدث عن الجغرافيا السياسية (جيوبوليتيك) وهو أمر في صلب استراتيجيات أكبر البلدان مساحة في العالم، لكن هذا ينطبق على تركيّا أيضاً التي تشكّلت قوميّاً في أواسط آسيا واستقرّت كأمّة في بر الأناضول، وتمدّدت في وعيها التاريخي القريب لتصبح امبراطورية جغرافية هائلة، كما أنها، حاليّا، في موقع تشابك تاريخيّ يطلّ على آسيا وأوروبا والعالم العربي.

يحمل اجتماع بوتين وإردوغان، في طيّاته اعترافاً من الزعمين وبلديهما، أنهما غير قادرين على تحمّل تكاليف اشتباكهما اقتصاديّاً، في الوقت الذي يعاني فيه بوتين من عقوبات أوروبية وأمريكية ضدّه بخصوص الموضوع الأوكراني، كما يعاني إردوغان من الضغط الأمريكي والأوروبي عليه بخصوص الأكراد والاحتجاجات على الحجم الكبير لحملة التطهير ضد جماعة غولن.

الانعطافة بهذا المعنى، ذات طابع اقتصاديّ كبير، أما التصريحات عن «الأخبار الجيدة» في الموضوع السوري، حسب تصريح رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، فهي البهارات الضرورية للطبخة الأساسية التي موضوعها الاقتصاد.

 

 

 

 

التسوية التي تبدأ من موسكو ستقود لشرعنة نظام الأسد/ وائل عصام

باتت موسكو قبلة الدول الإقليمية في المنطقة، وبعد ان فرضت نفسها كلاعب رئيسي في سوريا على حساب الأمريكيين، تقاطر زعماء الدول الحليفة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط ليخطبوا ود الكرملين، طامعين في خيمة دولية جديدة يستظلون بها عوضا عن الدور الأمريكي المنسحب تدريجيا.

الولايات المتحدة وحلفاؤها في محور الاعتدال بدلوا مواقفهم عدة مرات وتراجعوا لحد إعلانهم تسوية تقبل ببقاء النظام السوري ومؤسسته العسكرية التي أمضوا سنوات يدعمون الحرب عليها، ولم يتدخلوا مباشرة في الصراع المسلح ضد النظام السوري، بينما ظلت روسيا وإيران متمسكتين بمواقفهما منذ اللحظة الأولى بدعم النظام، وأرسلتا قواتهما المسلحة للتدخل مباشرة في الحرب دعما للأسد وللميليشيات الموالية له ومن ضمنها الكردية التي يدعمانها الآن في كيانها المستقل ذاتيا شمالا، أمام عجز كامل من قبل تركيا على مواجهة هذا التهديد، إلا لفظيا، بينما ظلت الأفعال والقوة المسلحة من قبل «محور الاعتدال» موجهة فقط لخدمة الأجندة الأمريكية لا أجندتهم هم، الحرب على الإرهاب. وهكذا فان أي جهود لحل الأزمة الروسية تنطلق من موسكو، ستصب حتما في مصلحة النظام السوري، وستؤدي بالنتيجة لشرعنة وجوده دوليا، عبر تسوية ستسير على ما تم البدء فيه في مفاوضات جنيف، وستمنح بعض شخصيات المعارضة دورا شكليا في حكومة قد يوكل إليها انهاء أي وجود معارض للأسد بتدجين بقايا جماعات المعارضة من خلال مزيد من صفقات الهدن ونزع السلاح ضمن ما بات يعرف بالمصالحة الوطنية .

بل ان بندقية هذه الفصائل ستستخدم ليس فقط لحفظ أمن المناطق «المتصالحة» بل لقتال المجموعات التي ترفض التسوية، ومعظمها مجموعات جهادية، ولعل المثال الأفضل لهذه التجربة هو قوات سوريا الديمقراطية، التي ضمت مجموعات من مقاتلين كانوا يوما من الجيش الحر في حلب وادلب، قاتلوا بقيادة الميليشيات الكردية ضد فصائلهم ورفاقهم السابقين وقراهم في ريف حلب الشمالي.

روسيا وإيران ، تشكلان اليوم محورا مهيمنا في الشرق الأوسط ، تأمين دعم وغطاء لحلف إيران الطائفي الممتد في عواصم المشرق العربي، وبعد انسحاب الولايات المتحدة التدريجي وترددها عن التصدي لهذه القوة الصاعدة بعد سنوات من ثورة الخميني، فان الدول الحليفة للأمريكيين فضلت هي الأخرى تأمين حليف إقليمي دولي جديد، فبادر زعماؤها بزيارات لا تنقطع لموسكو، رغم ان الطائرات الروسية لم تنقطع هي الأخرى عن صب حممها اليومية على رؤوس السوريين، بل على رؤوس قوات المعارضة الحليفة لهذه الدول.

وبغياب قوة عربية أو دولة إسلامية سنية قادرة على مواجهة الهيمنة الإيرانية المدعومة روسيا، فان الغليان في الشارع العربي سيتصاعد، وقد يزعزع حكومات عربية عديدة أثبتت فشلها في التصدي لهذا التحدي الداهم، وهو تحد وتهديد قومي ثقافي تاريخي غير مسبوق بهذه الحدة وبهذا السقوط المهين لكل مراكز المشرق مرة واحدة، ولكن الغليان المقبل قد لا يكون سلميا على شاكلة الربيع العربي، بل سيقفز مباشرة للتمرد المسلح، الذي لا يبدو ان هناك قوى مرشحة لقيادته سوى الجهاديين، وهكذا فان الفشل الرسمي العربي والإسلامي السني يمنح التيار الجهادي الفرصة الأكبر للانتعاش والديمومة وفي ساحات جديدة مستفيدا من الغضب والاحباط الشعبي غير المسبوق، لتبدو كل الضربات التي تتعرض لها هذه الجماعات في العراق وسوريا غير مجدية، حتى وان أدت لانحسارهم وخسرانهم لمدن عديدة، فالمظلومية السنية التي منحت الجهاديين هذه المدن في العراق وسوريا ستستمر لتمنحهم غيرها.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى